الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقضية أبى الخير العسقلاني: اشتهى السمك فلما مد يده ليأكل أخذت شوكة من عظامها إصبعَه، فذهبت في ذلك يده. وقضية إبراهيم بن شيبان: قال: (اشتهيت شبعة من الخبز والعدس، فاتفق ذلك، فأكلت حتى شبعت، ثم رأيت منكرا، فغيرته، فأخذونى وضربونى مائة خشبة، وطرحونى فى السجن أربعة أشهر، حتى شفع فىّ شيخى، فخرجت، وقال: أخذتها مجانا)، أي: حيث عوقبت فى ظاهرك دون باطنك.
وقضية خير النسّاج: قال: (عاهدت الله وعقدت ألا آكل الرطب فغلبتني نفسى، فأخذت نصف رطل، فلما أكلت واحدة إذا برجل نظر إلىّ وقال: يا خير، أين هربت منى؟ وكان له عبد اسمه خير، فوقع علىّ شبهه- قال:
فبقيت معه عدة أشهر أنسج له الكرباس- وهو القطن الأبيض-، ثم تبت فزال عنى الشّبه) .
فمن عفى له عن شىء من هذه الجناية، بعد الأدب أو قبله، فليشكر الله، ويتبع ما أمره به، ويؤدى ما فرضه عليه بالمعروف، من غير إسراف، ولا تقصير، ذلك تخفيف من الله عنه، ورحمة به، فمن اعتدى بعد ذلك، ورجع إلى ما تاب عنه فله عذاب أليم، وهو الطرد عن حضرة الأحباب، إلى الوقوف بالباب أو سياسة الدواب، إلا من تاب وعمل صالحا فإن الله يتوب على من تاب. ولكم فى القصاص فى دار الدنيا- حياة عظيمة لأرواحكم وأسراركم لأن ذلك اعتناء بكم يا أولى الألباب، لعلكم تتقون كل ما يشغلكم عن مولاكم.
ولمّا ذكر القصاص وهو مظنّة الموت، والموت من أسباب الوصية ذكرها بإثره، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قلت: إِذا حَضَرَ ظرف، العامل فيه: كُتِبَ، أي: توجَّهَ إيجابُ الوصية عليكم إذا حضر الموت. أو مصدر محذوف يفهم من الوصية، أي: كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت، والْوَصِيَّةُ
نائب فاعل كُتِبَ، ولا يصح أن تعمل في (إذا) لتقدمه عليها لأن المصدر لا يعمل في ما قبله، إلا على مذهب الأخفش. اللهم إلا أن يتوسع في الظروف، وجواب الشرطين محذوف، أي: إذا حضر أحدكم الموت، إن ترك خيراً، فقد كُتبت عليه الوصية.
والجنَف: الميل عن الصواب، فإن كان خطأ فهو جَنَفٌ بلا إثم، وإن كان عمداً فهو جنَف إثم.
يقول الحق جل جلاله: كتب الله عَلَيْكُمْ أن تُوصوا للوالدين والأقربين إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، إِنْ تَرَكَ المستحضر خَيْراً أي: مالاً، قال سيدنا علي- كرّم الله وجهه-:(ألف درهم فصاعداً، فلا وصية في أقل) .
وقال النخعي: (خمسمائة درهم لا أقل) . وقال الزُّهْرِي: (تجب فيما قلّ وكَثُر)، وعن عائشة- رضى الله عنها-:
(أن رجلاً أراد أن يوصي، فسألته: كم مالُك؟ فقال: ثلاثة آلاف. فقالت: كم عِيالك؟ فقال: أربعة، فقالت: لا، إنما قال الله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا لشئ يسير، فاتركْه لعيالك) .
وتكون تلك الوصية بِالْمَعْرُوفِ، أي: بالعدل، فلا يُفضل الذكور، ولا يتجاوز الثلث. قد حَقَّ الله ذلك حَقًّا واجباً عَلَى الْمُتَّقِينَ، فمَن غيَّره من الأوصياء أو الشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ وعلمه، فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ من الأوصياء أو الشهود، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيَّر دون الميت، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه مَنْ بدَّل أو غيَّر، فهو حسيبُه ومُعاقبه، فَمَنْ خافَ أي: علِم مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أي: ميلاً بالخطأ في الوصية، أَوْ إِثْماً تعمداً للجنف، فَأَصْلَحَ بين المُوصَى لهم وبين الورثة، بأن أجراهم على منهاج الشرع، أو نقص للموصَى لهم، أو زاد لمصلحة رآها فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لأنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر للمبدِّل لمصلحةٍ ويرحمه.
وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين، مُحْكَمة في الأقربين غير الوارثين، بقوله- عليه الصلاة والسلام فى الحديث المشهور:«إنَّ اللهَ أعْطَى كل ذي حق حقه. فلا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ» ، فإذا كان الوالدان غيرَ وارثيْن كالكافرَيْن أو العبدَيْن فهي مُحْكَمة، والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات- وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات- فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يقيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدان وهما الأشياخ، والأقربون وهم الإخوان. فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلي كالجبَل، فإن لم يقيدها وأهملها رجعت كالجمل، فإن أهملها رجعت كالكبش، فإن أهملها رجعت كالطير، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له:
(إن ورد عليك واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة) . وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات، فَمنْ قَيَّدَ وارداً