الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شأنهم بيان الحقّ. إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ. والله تعالى أعلم.
ثم رجع الحقّ تعالى إلى الترغيب في الصدقة والإخلاص فيها، فقال:
وَما تُنْفِقُوا
…
قلت: هذه ثلاث جمل كلها تدل على الترغيب في إنفاق الطيب وإخلاص النية.
يقول الحق جل جلاله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير، فهو فَلِأَنْفُسِكُمْ لا ينتفع به غيركم، فإن كان طيباً فلأنفسكم، وإن كان خبيثاً فأجره لكم، وإن مننتم به أو آذيتم فقد ظلمتم أنفسكم، وإن أخلصتم فيه فلأنفسكم.
وأيضاً إنكم تَدَّعُونَ أنكم ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فكيف تقصدون الخبيث، وتجعلونه لوجه الله؟ وكيف تَمُنُّونَ أو تؤذون بها وهى لوجه الله؟ هذا تكذيب للدعوى، وكل ما تنفقون من خيرٍ قليل أو كثير يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه يوم القيامة بسبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ويخلفه لكم في الدنيا، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ شيئاً من أعمالكم إن أخلصتم أو أحسنتم. وستأتي إشارتها مع ما بعدها.
ثم بيّن المصرف، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
قلت: (للفقراء) : متعلق بمحذوف، أي: يعطي ذلك للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، والإلحاف: هو الإلحاح في السؤال، وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه، وهو منصوب على المصدر أو الحال.
يقول الحق جل جلاله: تجعلون ما تنفقونه لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا أي: حبسوا أنفسهم في سَبِيلِ اللَّهِ وهو الجهاد، لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي: ذهاباً في الأرض للتجارة أو للأسباب، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب، وهم أهل الصُّفَّة، كانوا نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين، يسكنون صفة المسجد، يستغرقون أوقاتهم في العلم والذكر والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس رضي الله عنه: «وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه، راضياً بما فيه فإنه، من رفقائي» .
وقيل: المراد الفقراء مطلقاً، حصرهم الفقر عن الضرب في الأرض للتجارة، يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، أي: من أجل تعففهم عن السؤال، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ من الضعف ورثاثة الحال.
الخطاب للرسول، أو لكل أحدٍ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، أي: لا يسألون، وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا، وقيل: نفى للأمرين معا، أي: ليس لهم سؤال، فيقع فيه إلحاف، كقول الشاعر:
على لا حِبٍ لا يُهْتَدى بمنَارِه «1» وليس ثَمَّ لا حب ولا منار، وإنما المراد نفيهما، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:«منْ سأَلَ، وله أربعونَ دِرهماً، فَقَدْ سأل إلحافاً» .
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازي على القليل والكثير، وهذا ترغيب في الإنفاق، وخصوصاً على هؤلاء.
الإشارة: ما أفلح مَن أفلح، وخسر مَنْ خسر، إلا من نفسه وفلسه، فمن جاد بهما، أو بأحدهما، فقد فاز وأفلح وظفر بما قصد، والجود بالنفس أعظم، وهو يستلزم الجود بالفلس، والجود بالفلس، إن دام، يوصل إلى الجود بالنفس، والمراد بالجود بالنفس: إسلامها للشيخ يفعل بها ما يشاء، وتكون الإشارة فيها كافية عن التصريح، ومن بخل بهما أو بأحدهما، فقد خسر وخاب في طريق الخصوص، ومصرف ذلك هو الشيخ، أو الفقراء المنقطعون إلى الله الذين حصروا أنفسهم في سبيل الله، وهو الجهاد الأكبر.
قال في القوت: وكان بعض الفضلاء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال: لأن هؤلاء همهم الله عز وجل، فإذا ظهر منهم فاقة تَشَتَّتَ قلبُ أحدِهم، فلأنْ أرد هِمة واحدٍ إلى الله أحب إليَّ من أن أعطي ألفاً من غيرهم ممن همه الدنيا. فذكر هذا الكلام لأبي القاسم الجنيد، فقال: هذا كلام وليّ من أولياء الله. ثم قال: ما سمعت كلاماً أحسنَ من هذا. وبلغني أن هذا الرجل اقتر حاله في أمر الدنيا
(1) هذا صدر بيت عجزه: (إذا سافه العود النباطىّ جرجرا) وهو من قصيدة لامرئ القيس. واللاحب: الطريق الواسع. [.....]