الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ من أمر خلقه، إيماناً أو كفراناً، طاعة أو عصياناً، أحاط علمه بما فى السموات العلي وما في الأرضين السفلى، كليّاً كان أو جزئيّاً، حسيّاً أو معنوياً، يعلم عدد الحصى والرمال، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال، ويعلم حوادث الضمائر، وهواجس الخواطر، بعلم قديم أزلي، وله قدرة نافذة، وحكمة بالغة، فبقدرته صَوَّرَ النُّطَف في الأرحام كيف شاء سبحانه من نقص أو تمام، وأتقنها بحكمته، وأبرزها إلى ما يَسَّرَ لها من رزقه، سبحانه من مدبر عليم، عزيز حكيم، لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن دائرة علمه شيء، لا موجود سواه، ولا نعبد إلا إياه، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة: مَنْ تحقق أن الله واحد في ملكه، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله، وأنه أحاط به علماً وسمعاً وبصراً، وأن أمره بين الكاف والنون، (إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يقولَ له كُن فيكون) - كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه؟ أم كيف يعول هما، وسيدُه من خيره لا ينساه؟ من دبرك في ظلمة الأحشاء، وصوَّرك في الأرحام كيف يشاء، وآتاك كل ما تسأل وتشاء، كيف يَنْساكَ من بره وإحسانه؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه؟ وفي ذلك يقول لسان الحقيقة:
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً
…
وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا
وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها
…
سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى
وَسَلِّمْ ليّ الأمْرَ واعْلَمْ بأنني
…
أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ ما أشا
ثم وصف كتابه الفرقان بأنه مشتمل على ما هو محكم واضح البيان، وعلى ما هو متشابه لا يعلمه إلا الله، والراسخون من أهل العرفان، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
قلت: (منه) : خبر مقدم، و (آيات) : مبتدأ، فيوقف على (الكتاب)، وقيل:(منه) : نعت لكتاب، وهو بعيد.
قال ابن السبكي: المحكَم: المتضح المعنى، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، وقد يُطْلعُ عليه بعضَ أصفيائه.
و (هن أم الكتاب) : جملة، وحق الخبر المطابقة فيقول: أمهات، وإنما أفرده على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ: الميل عن الحق. و (الراسخون في العلم) : معطوف على (الله) ، أو مبتدأ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي. و (إذ هديتنا) : ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر، أي: بعد هدايتك إيانا.
يقول الحق جل جلاله: إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية، ولا يخفى عليه شيء في العالم العلوي والسفلي هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ المبين، فمنه ما هو آياتٌ مُحْكَماتٌ واضحات المعنى، لا اشتباه فيها ولا إجمال، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي: أصله، يرد إليها غيرها، وَمنه آيات أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي:
محتملات، لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص وجودة الفكر، ليظهر فضل العلماء النُقاد، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تَدبُرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينال بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.
قال في نوادر الأصول: لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين منه ما طوى علمه إلَاّ على الخواص كعلم فواتح السور، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمَنْ دُونَهم، وهو سر القدر لا يستقيم لهم مع العبودية، ولو كُشِفَ لفسدت العبودية، فطواه عن الرّسل والملائكة لأنهم في العبودية، فإذا زالت العبودية احتملوها أي: أسرار القدر. هـ. ولمثل هذا يشير قول سهل: للألوهية سر- لو انكشف لبطلت النبوة، وللنبوة سر- لو انكشف لبطل العِلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. هـ.
قلت: فَتَحَصَّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ فمعناه: أنها حُفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً معناه: أنه يُشبه بعضُه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
ثم إن الناس في شأن المتشابه على قسمين: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: أي: شك، أو ميل عن الحق، كالمبتدعة وأشباههم، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، فيتعلقون بظاهره، أو بتأويل باطل، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي: طلباً لفتنة الناس عن دينهم: بالتشكيك والتلبيس، ومناقضة المحكم بالمتشابه، وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.
روى عن عائشة- رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: «إِذَا رَأَيتُم الذِينَ يَسألُون عن المتشابه منه، ويجادلون فيه، فهم الذين عَنَا الله تعالى، فاحذروهم، ولا تجالسوهم» .
(وما يعلم تأويله) على الحقيقة (إلا الله) تعالى، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه، وهم (الراسخون) أي: الثابتون في العلم، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التوحيد الخاص
…
فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه، فلم يبق عندهم متشابه في الكتاب ولا في السنة، حال كونهم (يقولون آمنا به) ، وصدقنا أنه من كلامه، (كُلّ من عند ربنا) المحكم والمتشابه، وقد فهمنا مراده في القسمين، وهم أولو الألباب، ولذلك مدحهم فقال:
(وما يذكر إلا أولوا الألباب) أي: القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس.
سئل عليه الصلاة والسلام: مَن الراسخون في العلم؟ فقال: «من برَّ يمينُه، وصدق لسانُه، واستقام قلبُه، وعفَّ بطنُه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» . وقال نافع بن يزيد: الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذللون في طلب مرضات الله، لا يتعظمون على مَنْ فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. هـ. وقيل: الراسخ في العلم: من وجُد فيه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. هـ. قلت: ويجمع هذه الأوصاف العارف بالله، فهو الراسخ في العلم كما تقدم.
ويقولون أيضاً في تضرعهم إلى الله: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى، بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى طريق الوصول إلى حضرتك، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تجمع قلوبنا بك، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ الجزاء الذي لا رَيْبَ فِيهِ، فاجمعنا مع المقربين إنك لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، فأنجز لنا ما وعدتنا في ذلك اليوم. وخلف الوعد في حقه تعالى مُحال. أما الوعد بالخير فلا إشكال، وأما الوعيد بالشر، فإن كان في مُعَيِّنٍ فلا يخلفه، وإن كان في الجملة فيخلفه بالعفو. والله تعالى أعلم.
وقال في النوادر أيضاً: لَمَّا رَدَّ الراسخون في العلم عِلْمَ المتشابه إلى عالمه، حيث قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، خافوا شَرَه النفوس لطلبها فإنَّ العلم لذيذ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب، ففزعوا إلى ربهم فقالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ
…
الآية. سكنوا نفوسهم لمجيء ذلك اليوم الذي تَبْطُنِ فيه الحكمة، وتظهر فيه القدرة. هـ. بالمعنى.
الإشارة: إذا صفت القلوب، وسكنت في حضرة علاّم الغيوب، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية، والمواهب القدسية، فمنها ما تكون محكمات المبنى، واضحات المعنى، ومنها ما تكون مجملة في حال ورودها،