الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال البيضاوي: في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن فيه الرجل من إقامة دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«من فرَّ بدينه من أرض، ولو كان شبرًا من الأرض، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد- عليهما الصلاة والسلام» . «1» قلت: ويدخل فيه- على طريق الخصوص- من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد، أو تكثر فيه العلائق والشواغل، إلى موضع يقلُّ فيه ذلك، طلبًا لصفاء قلبه ومعرفة ربه، بل هو أولى، ويكون رفيقاً لهما في حضرة القدس عند مليك مقتدر. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى مَن تَحَقَّق إسلامُه وحبسه العذر، فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ أي:
المماليك والصبيان، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة، فلا محيص عنها، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-:«كنت أنا وأبى وأُمي ممن استثنى الله بهذه الآية» .
ثم وصفهم بقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي: قوة على ما يتوقف عليه السفر، من ركوب أو غيره، وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي: لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون دليلاً، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ. وعبَّر بحرف الرجاء إيذانًا بأنّ تركَ الهجرة أمرٌ خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن، ويترصد الفرصة، ويُعلِّقُ بها قلبه، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل مَن لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي: باخسًا لها لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له: فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب؟ فيقول: كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال لهُ: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلَاّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه. وما ذلك على الله بعزيز.
ثم رغّب فى الهجرة، فقال:
[سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
(1) أخرجه الثعلبي فى التفسير من حديث الحسن مرسلا. انظر الفتح السماوي 2/ 515.
قلت: المراغَم: المهرب والمذهب. قاله في القاموس. وقال البيضاوي: يجد متحولاً، من الرغام وهو التراب.
وقيل: طريقًا يراغم قومه بسلوكه فيها، أي: يفارقهم على رغم أنوفهم، وهو أيضًا من الرغام.
يقول الحق جل جلاله: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، يَجِدْ فِي الْأَرْضِ فضاءً كثيرًا، ومتحولاً كبيرًا يتحول إليه، وسعة بدلاً من ضيق ما كان فيه، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه، أو سعةٌ في الرزق، وبسطًا في المعيشة، فلا عذر له في المقام في مكان مُضَيَّقٍ عليه فيه في أمر دينه، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وجهادٍ في سبيله، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل وصوله فقد ثبت أجرُه، ووجب على الله- وجوب امتنان- أن يبلغه قصده بعد موته، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لِما سلف له من عدم المبادرة، رَحِيماً به، حيث بلَّغه مأمولَه.
نزلت في جُندع بن ضَمرة، وكان شيخًا كبيرًا مريضًا، فلما سمع ما نزل في شأن الهجرة قال: والله ما أنا ممن استثنى الله، ولي مال يُبِلغني المدينة، والله لا أبيتُ الليلة بمكة، اخرجُوا بي، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها، فَصفَّق بيمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أُبايعك على مَا بَايَعَك عليه رسولك، فمات حَمِيدًا. فقال الصحابة: لو وافَى المدينةَ، كان أتم أجرًا، وضحك المشركون، وقالوا: ما أدرك ما طلب. فنزلت: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ.. الخ.
وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حيَّةٌ في الطريق، فمات قبل أن يصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه، طلبًا للوصول إلى حضرة مولاه، يجد في أرض نفسه متسعًا للعلوم، ومفتاحًا لمخازن الفهوم، وسعة الفضاء والشهود، حتى ينطوي في عين بصيرته كلُّ موجود، ويتحقق بشهود واجب الوجود. ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموت قبل التمكين، فقد وقع أجره على الله، وبلَّغه الله ما كان قَصَدَه وتمنُّاه، فيُحشر مع الصديقين أهلِ الرسوخ والتمكين، التي تلي درجتُهم درجةَ النبيين، وكذلك من مات في طلب العلم الظاهر ولم يدركه في حياته، حشِر مع العلماء، قال عليه الصلاة والسلام:«من جاءَه أجله وهو يطلبُ العلمَ لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة» . قلت:
وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هي درجة الصديقين المتقدمة قبله.
وكل من مات في طلب شيء من الخير، أدركه بعد موته بحسن نيته، كما في الأحاديث النبوية، قال القشيري: المهاجر في الحقيقة، من هاجر نفسه وهواه، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده،