الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومجاهدة النفس هو تحميلها ما يثقل عليها، وبُعدها مما يخف عليها، حتى لا يثقل عليها شيء، ولا تشره إلى شيء، بل يكون هواها ما يقضيه عليها مولاها. قيل لبعضهم:[ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله] . واعلموا أيها السائرون أن الله سميع لأذكاركم، عليم بإخلاصكم ومقاصدكم.
ولما كان الجهاد يحتاج إلى مؤنة التجهيز، وليس كل الناس يقدر على ذلك، رَغَّبَ الحق تعالى الأقوياء بالإنفاق على الفقراء، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
قلت: القرض هو القطع، أطْلِقَ على السلف لأن المُقْرِضَ يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف، والمراد بها الصدقة لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها فأشبهت القرض في مطلق الرد.
يقول الحق جل جلاله: مَنْ هذا الذي يعامل الله تعالى ويقرضه قَرْضاً حَسَناً بأن يتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة، فيُكثرها الله تعالى له أَضْعافاً كَثِيرَةً بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة فإنَّ الله تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه، بل يقبض على من قبض يده شحّاً وبخلاً، ويبسط على من بسط يده عطاءً وبذلاً، يقول:«يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» ، «أُنْفِقْ ولا تَخْش من ذي العرش إقلالا» .
ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للإفهام، كما قال في الحديث القدسي: «يقول اللهُ تعالى يوم القيامة: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني، قَالَ: يَا رَبّ! كَيْفَ أَعُودُكَ وأنت رب العالمين؟ قال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ. أَمَا إِنَكَ لَوْ عُدْتَهُ لوجدتنى عنده. يَا ابْنَ آدَم اسْتَطْعَمتُكَ فَلَمْ تُطْعِمني. قال:
يَا رَبّ! كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رب العالمين؟ قال: أما علمت أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعمْه؟ أَمَأ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَه لَوَجَدْتَ ذَلكَ عِنْدِي. يَا ابْنَ آدم استسقيتك فلم تسقنى. قال: يا رب كيف أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قال: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تسْقِه. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» .
الإشارة: من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين، ويرفع همته عن الكونين، فإن الله (يضاعفه له أضعافاً كثيرة) بأن يُمَلِّكَهُ الوجودَ بما فيه، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان
معك» ، (والله يقبض ويبسط) فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك، إن رفعت همتك عنه، ويبسط يدك بالتصرف فيه، إن علقت همتك بخالقه. أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة، ويبسطها بالإيناس والبهجة. أو يقبض الأرواح بالوفاة، ويبسطها بالحياة. والقبض والبسط عند أهل التصوف: حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضا، وإذا غلب حال الرجاء كان مبسوطاً، وهذا حال السائرين. أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط، لأنهم مالكوا الأحوالَ.
قال القشيري: فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه. فالقبض يوجب إيحاشَه، والبسط يُوجب إيناسه، واعلم أنه يَرُدُّ العبد إلى حال بشريته، فيقبضه حتى لا يُطيق ذَرَّة، ويأخذه مَرَّة عن نعوته، فيجد لحمل ما يَرِدُ عليه قدرة وطاقة، قال الشّبلى رضي الله عنه:(من عَرَفَ الله حمَل السموات والأرض على شَعرة من جَفْن عينه، ومن لم يعرف الله- جلّ وعلا- لو تعلق به جَناح بعوضة لضجَّ) .
وقال أهل المعرفة: [أذا قَبض قَبض حتى لا طاقة، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة، والكل منه وإليه] . ومن عرف أن الله هو القابض الباسط، لم يَعتِب أحداً من الخلق، ولا يسكن إليه في إقبال ولا إدبار، ولم ييأس منه في البلاء، ولا يسكن إليه في عطاء، فلا يكون له تدبير أبداً. هـ.
ولكلٍّ من القبض والبسط آداب، فآداب القبض: السكون تحت مجاري الأقدار، وانتظار الفرج من الكريم الغفار.
وآداب البسط: كف اللسان، وقبض العنان، والحياء من الكريم المنان. والبسط مَزَلَّة أقدام الرجال. قال بعضهم:(فُتح عليَّ بابٌ من البسط فزللتُ زَلَّة، فحُجِبْتُ عن مقامي ثلاثين سنة) . ولذلك قيل: قف على البساط وإياك والانبساطَ واعلم أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء، وفوق القبض والبسط: الهيبة والأنس فالخوف والرجاء للمؤمنين، والقبض والبسط للسائرين، والهيبة والأنس للعارفين، ثم المحو في وجود العين للمتمكنين، فلا هيبة لهم، ولا أنس، ولا علم، ولا حس. وأنشدوا:
فلو كُنْتَ مِنْ أَهلِ الوُجودِ حقيقةً
…
لغبْتَ عَن الأكوانِ والعرشِ والكرسي
وكُنْتَ بلا حالٍ مَع اللهِ واقفاً
…
تُصان عَنْ التّذْكَارِ للجِن والإنس «1»
(1) ورد هذان البيتان فى قصة مع أبى سعيد الخراز، ذكرها القشيري فى الرسالة.