الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: نِحْلَةً: مصدر من آتوهن، لأنها في معنى الإيتاء، يقال: نحله كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ولا حكم حاكم، والضمير في «منه» يعود على الصداق أو على «الإيتاء» ، و (نفسًا) تمييز، و (هنيئاً مريئًا) : صفتان لمصدر محذوف، أي: أكلاً هنيئًا، وهو من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ، إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه، وقيل الهنيء: ما يلذه الإنسان، والمريء: ما تُحمد عاقبته.
يقول الحق جل جلاله للأزواج: وَآتُوا النِّساءَ التي تزوجتموهن صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي: عطية مُبتلة «1» ، لا مطل فيها ولا ظلم، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ من الصداق، وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن فَكُلُوهُ هَنِيئاً لاتبعة عليكم فيه، مَرِيئاً: سائغًا حلالاً لا شبهة فيه، رُوي أن ناسًا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئًا، فنزلت. وقيل: الخطاب للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته، فأمروا أن يعطوهن صداقهن، إلا إن أعطينَهم شيئًا عن طيب أنفسهن، والله تعالى أعلم.
الإشارة: وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية، نحلة، ولا تكلفوها فوق طاقتها، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال، بانشراح صدر ونشاط، فكلوه هنيئًا مريئاً، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام، وهذا في حق النفوس المطمئنة، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة لئلا تمل، أو تقول: من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه، وليقم حيث أقامه الحق، ويعطيه حقه، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا. فالفقير ابن وقته، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم نهى الأوصياء عن تمكين اليتامى من أموالهم قبل الرشد، فقال:
[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
قلت: «قيمًا» : «2» مصدر قام قيامًا وقيما، وأصله: قوامًا، قلبت الواو ياء.
(1) البتل: القطع
(2)
قرأ نافع وابن عامر «قيما» وقرأ الجمهور «قياما» .
يقول الحق جل جلاله للأوصياء: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ التي تحت حضانتكم أَمْوالَكُمُ أي: أموالهم التي في أيديكم، وإنما أضاف أموال اليتامى لهم حثًا على حفظها وتنميتها كأنها مال من أموالهم، أي: ولا تمكنوا السفهاء من أموالهم التي جعلها الله في أيديكم قِياماً لمعاشهم، تقومون بها عليهم، ولكن احفظوها، واتجروا فيها، واجعلوا رزقهم وكسوتهم فيها باعتبار العادة، فإن طلبوها منكم فعدوهم وعدًا جميلاً، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: كلامًا لينًا بأن يقول له: حتى تكبر وترشد لتصلح للتصرف فيها. وشبه ذلك. وإنما قال: (وارزقوهم فيها) دون «منها» لأن «فيها» يقتضي بقاءها بالتنمية والتجارة حتى تكون محلاً للرزق والكسوة دون «منها» ، وقيل:
الخطاب للأزواج، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خوّلهم الله من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم، ثم ينظرون إلى أيديهم. وإنما سمَّاهن سفهاء استخفافًا بعقلهن، كما عبر عنهن ب- «ما» التي لغير العاقل «1» .
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما خُلقتْ النارُ للسفهاء- قالها ثلاثًا- ألا وإن السفهاءَ النساء إلا امرأة أطاعت قيِّمَها «2» » . وقالت أمرأة: يا رسول الله: سميتنا السفهاء! فقال: «الله تعالى سماكن في كتابه» «3» ، يشير إلى هذه الآية. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:(ثلاثة يَدْعُون الله فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها «4» ، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه، ورجل أعطى سفيهًا ماله، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.) قلت: إنما منعوا من إجابة الدعاء لتفريطهم في مراسم الشريعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء، حتى يكمل عقله، ويتحقق أدبه، ويظهر صدقه، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا، وليقل له قولاً معروفًا، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها لرجحان عقله وكمال صدقه، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه، ثم يربيه فيها، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم- رضى الله عنهم وأرضاهم- ورزقنا حسن الأدب معهم، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج، وأن يكسوهم بالشرائع، ويحتمل أن تبقى الأموال
(1) راجع التعليق على تفسير الآية الثالثة من سورة النساء.
(2)
ذكره بنحوه ابن كثير فى تفسيره، وعزاه لابن أبى حاتم.
(3)
ذكره الآلوسى فى تفسيره من رواية مجاهد وابن عمر عن أنس. وقال الطبرسي: (لى فى صحته شك) . [.....]
(4)
يحمل سوء الخلق هنا على ما يطعن فى العفة والحياء. وإلّا فظاهر هذا الكلام مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة إن كره منها خُلقَا رضي منها آخر»