الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال بعضهم: صِدْقُ المجاهدة: الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما تمت البشارة بعيسى عليه السلام وظهر إلى الدنيا، وبلغ وقت الدعوة، بعثه الله إلى بنى إسرائيل، فكفروا به، فلما تحقق كفرهم طلب من ينصره إلى الله، كما أشار الحق تعالى إلى ذلك بقوله:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 54]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
قلت: (من أنصاري إلى الله) : الجار يتعلق بحال محذوفه، أي: ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه، أو مُضيفاً نفسه إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، أو يتعلق ب- (أنصاري) مضمِّناً معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصره. وحوارى الرجل: خاصته، الذين يستعين بهم في نوائبه، وفى الحديث عنه- عليه الصلاة السلام-:«لكلِّ نبي حَوَاري، وحَوارِيي: الزّبير» . وحواريو عيسى: أصحابه الذين نصروه، وسموا بذلك لخلوص نبيتهم ونقاء سريرتهم. والحَوَرُ: البياض الخالص، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته، ويقال للبيضاء من النساء: حوارية. وقيل: كان الحواريون قًصَّارين «1» ، يُحَوِّرُون الثياب، أي: يبيضونها، وقيل: كانوا ملوكاً يلبسون البياض.
يقول الحق جل جلاله: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى من بني إسرائيل الْكُفْرَ، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس، بعد ما بُعث إليهم، وأرادوا قتله، فرَّ منهم واستنصر عليهم، وقالَ مَنْ أَنْصارِي ملجئاً إِلَى اللَّهِ، أو ذاهباً إلى نصر دينه، قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي: أنصار دينه، آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ علينا بأننا مُسْلِمُونَ لتشهد لنا يوم القيامة، حين يشهد الرسل لقومهم، رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ على نبيك من الأحكام، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى عليه السلام، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ بوحدانيتك، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك
(1) القصار: المبيض للثياب، وهو الذي يهيىء النسيج بعد نسجه، ببلّه ودقه بالقصرة- التي هى القطعة من الخشب.
بالصدق، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد- عليه الصلاة والسلام فإنهم شهداء على الناس.
قال عطاء: سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها: كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال: قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون.
ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطئوا عليه، وَمَكَرُوا أي: دبروا الحيل في قتله، وَمَكَرَ اللَّهُ بهم، أي: استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل: هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تُسند إلى الله إلا على حسب المقابلة والازدواج، كقوله:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
، وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. أي: أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه.
تنبيه: قيل للجنيد رضى الله عنه: كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية:
فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ
…
ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ
أُحِبّك، لا بِبَعْضِي بل بكلّى
…
وإن لم يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا
وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي
…
وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ «1»
فقال له السائل: أسألُك عن القرآن، وتجيبني بشعر الطبرانية؟ قال: ويحك، قد أجبتك إن كنت تعقل. إنَّ تخليته إياهم مع المكرية، مكرٌ منه بهم. هـ.
قلت: وجه الشاهد في قوله: (وتفعله فيحسن منك ذاك)، ومضمن جوابه: أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان، لا عيب فيه ولا نقصان، كما قال صاحب العينية:
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ
…
أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ
…
فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلَا ثَمَّ بَاشِعُ
(1) القصة ذكرها مختصرة أبو حيان فى التفسير 2/ 496 مقتصرا على البيت الثالث.