الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشافعي رضي الله عنه:
أَلَا يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ
…
فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ
دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي
…
فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ
وقال آخر «1» :
أَفَادتني القناعةُ كلَّ عزٍّ
…
وهَلْ عِزٍّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَهْ
فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ
…
وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ
تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ
…
وتَرْحَلْ للجِنَان بصبر ساعة
وقال عليه الصلاة والسلام: «مِن أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِه، مُعَافى فِي بَدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
تولج ليل القبض في نهار البسط، وتولج نهار البسط في ليل القبض، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار، بغير حساب ولا مقدار، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية، وتولج نهار الحرية فى ليل العبودية، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود، والعبد لا يخلو من هذين الحالين، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار. والله تعالى أعلم.
ولما كان العز ينال بصحبة أهل العز، والذل ينال كذلك، حذر الحق تعالى من صحبة أهل الذل، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
قلت: (تُقاة) : مصدر تَقَى، على وزن فَعَل، وله مصدران آخران: تُقّى وتَقِيَّة- بتشديد الياء-، وبه قرأ يعقوب، وأصله: تُقِيَة، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. و (يوم) : ظرف، والعامل فيه: اذكر، أو اتقوا، أو المصير، أو تود، و (ما عملت) : مبتدأ، و (تود) : خبر، أو معطوف على (ما عملت) الأولى، و (تود) : حال.
(1) وهو بشر بن الحارث، المعروف بالحافى. وجاءت الأبيات فى تاريخ بغداد 7/ 76، وتهذيب تاريخ دمشق 3/ 243.
يقول الحق جل جلاله، لقوم من الأنصار، كانوا يُوالون اليهود لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ، أي: أصدقاء، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره، فلا تودوهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إذ هم أحق بالمودة، ففيهم مَنْدُوحة عن موالاة الكفرة، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ فِي شَيْءٍ إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه. قال الشاعر:
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمِّ تَزْعُمُ أنَّني
…
صَدِيقكَ، لَيْسَ النّوْك عَنْكَ بِعَازِبِ
والنُّوك- بضم النون-: الحُمْق.
فلا تُوالوا الكفار إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أيْ: إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً، والبعد منهم باطنا، كما قال عيسى عليه السلام:(كن وَسَطاً وامْشِ جانباً) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا تَثْلُموه. وقال جعفر الصادق: إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني. هـ. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي: يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، تقول العرب: احذر فلاناً: أي: ضرره لا ذاته، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيحشر كل قوم مع مَن أحب.
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من موالاة أعدائه، أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر. وقدَّم في سورة البقرة الإبداء، وأخره هنا لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر، وأخره في البقرة، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا، والآية بيان لقوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات، فلا تجسروا على عصيانه، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً بين يديها تنتفع به، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، كَما بَيْن المشرقِ والمغرب، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، كرره للتأكيد وزيادة التحذير، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حيث حذرهم مما يضرهم، وأمرهم بما يقربهم، فكل ما يصدر منه- سبحانه- في غاية الكمال.