الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رُوِي أن إبراهيم عليه السلام كان يضيف الناس، حتى كان يسمى أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناسَ سَنَةٌ، جهدوا فيها، فحشد الناسُ إلى باب إبراهيم، يطلبون الطعامَ، وكانت الميرة كل سنة تصله من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر يسأله الميرة، فقال لغلمانه: لو كان إبراهيم يريد لنفسه احتملت له ذلك، ولكنه يريد للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناس، فرجع الرسل إليه، ومرّوا ببطحاء لينة، فملأوا منها الغرائر حياء من الناس، وأتوا إبراهيم فأخبروه، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فنام، وكانت سارة نائمة فاستيقظت، وقالت: سبحان الله! أما جاء الغلمان؟ فقالوا: بلى، فقامت إلى الغرائر فإذا فيها أجود الحوّارى- أي: الخالص من الدقيق- فخبزوا وأطعموا؟ فاستيقظ إبراهيم، وشم رائحة الخبز، فقال: يا سارة، من أين هذا؟
فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: هذا من عند خليلي الله- عز وجل، فحينئذ سماه الله خليلاً «1» .
قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل، أو لأنه ردَّ خلَته، أي: فقره إلى الله مخلصًا. هـ.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكاً وخلقا وعبيدا، فالملك له، والعبيد عبيده، يختار ما يشاء كما يشاء من خلة ومحبة وخدمة، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً علمًا وقدرة، فيجازي كلا على قدر سعيه وقصده. والله تعالى أعلم.
الإشارة: على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة، على قدر البدايات تكون النهايات، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، فمن انقاد بكليته إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله، ومن تمسك بالملة الحنيفية، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية- فقد استمسك بالعروة الوثقى، وكان في أعلى ذروة أهل التقى، من تخلق بخلق الحبيب كان أقربُ إلى الله من كل قريب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ومما يتعلق بحفظ اللسان الفتوى بما يطابق الحق، ولذلك ذكره بعد الأمر بالحكم بالعدل، وما بينهما اعتراض انجرّ الكلام إليه، فقال:
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
(1) قال ابن كثير: فى صحة هذا ووقوعه نظر. وغايته أن يكون خبرا اسرائيلى، لا يصدق ولا يكذب، وإنما سمى خليل الله لشدة محبته لربه- عز وجل مما قام له به من الطاعة، التي يحبها ويرضاها.
قلت: و (ما يتلى) : عطف على (الله)، أي: يفتيكم الله، والمتلو عليكم في الكتاب، أي: في القرآن. وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ حذف الجار، وهو في أو عن، ليصدق النهي بالراغب فيها إذا كانت جميلة، والراغب عنها إذا كانت دميمة، والْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على (يتامى النساء) أي: والذي يتلى في المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ
…
الخ، أو على الضمير في (فيهن) أي: يفتيكم فيهن وفي المستضعفين، و (أن تقوموا) عطف على (المستضعفين) ، أو منصوب بمحذوف، أي: ويأمركم أن تقوموا
…
الخ.
يقول الحق جل جلاله: وَيَسْتَفْتُونَكَ يا محمد فِي شأن النِّساءِ من الميراث وغيره، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، فيأمركم أن تعطوهن حقهن من الميراث، وَيفتيكم أيضًا فيهن ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ في أول السورة إذ قال: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ثم بيَّنه في تقسيم الميراث في يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ، وقال في اليتامى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى
…
الآية، فقد أفتاكم في اليتامى اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ من الصداق وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ بدون صداق مثلهن، فأمركم أن تنكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهن في الصداق، إذا كانت جميلة، أو لها مال، أو ترغبون عن نكاحهن إذا كانت دميمة، فتعضلوهن لترثوهن، فلا تفعلوا ذلك، بل تزوجوها أو زوجوها، وكانوا في الجاهلية، إذا كانت اليتيمة ذات مال وجمال، رغبوا فيها وتزوجوها بدون صداقها، وإن كانت دميمة ولا مال لها رغبوا عنها وعضلوها، أو زوجوها غيرهم. فنهى الله تعالى الفريقين معا.
وَيفتيكم أيضًا في الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وهم الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث مع الكبار، وكانوا لا يورثونهم، رُوِي أن عُيينة بن حصن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُخبرنا أنك تورث النساء والصبيان، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم:«كذا أُمِرتُ» ، فنزلت الآية.
وَيفتيكم أيضًا ويأمركم أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي: العدل. وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم بالمصلحة ويستوثقوا حقوقهم، ويحتاطوا لهم في أمورهم كلها. ثم وعدهم بالثواب على ذلك فقال: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً، فيجازيكم على قدر إحسانكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يستفتونك عن نساء العلوم الرسمية، وعن يتامى العلوم القلبية، وهن نتائج الأفكار، وهي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية التي هي من علوم الحقيقة، ولا تليق إلا بالمستضعفين عند الخليقة، وفى الخبر:«ألا أُخبِركُم بأهل الجَنَّة؟ هو كل ضَعيفٍ مَتَضعّفَ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ في قَسمه» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قل الله يفتيكم فيهن فيأمركم أن تأخذوا من العلوم الرسمية ما تتقنون به عبادة ربكم، وترغبوا في علم الطريقة، التي هي علم