الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رُوِيَ أنه أتى قومه على حماره، وقال أنا عزير، فكذبوه، فقرأ التوراة من حفظه، ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك، وقالوا: هو ابن الله- تعالى عن قولهم- وقيل: لما رجع إلى منزله- وكان شاباً- وجد أولاده شيوخاً، فإذا حدَّثهم بحديث قالوا: حديث مائة سنة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في هذه الآية والتي بعدها، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط، لم تخل من طوارق الشكوك والخواطر، فإذا انقطعت إلى ربها، وخرقت عوائد نفسها، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه، وأطلعها على مكنونات سره، وكشف لها عن أسرار الملكوت، وأراها سنا الجبروت، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات، في هذه الحياة وبعد الممات، فحينئذٍ ينقطع عنها الشكوك والأوهام، وتتطهر من طوارق الخواطر، وتزول عنها الأمراض والأسقام.
قال في الحِكَم: «كيف تخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد» . فانظر إلى عزيز
…
ما أراه الحق قدرته عياناً حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه، فكذلك أنت أيها المريد لا تطمع أن تخرق لك العوائد، تشاهد قدرة الحق أو ذاته عياناً، حتى تموت عن حظوظك وهواك، ثم تحيا روحك وسرك، فحينئذٍ تشاهد أسرار ربك، ويكشف الأستار عن عين قلبك. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر الحقّ تعالى قصة خليله عليه السلام في طلبه رؤية عين القدرة في إحياء الموتى، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قلت: رأى: البصرية، إنما تتعدى إلى مفعول واحد، فإذا أُدخلت عليها الهمزة تعدت إلى مفعولين. وعلقها هنا عن الثاني الاستفهام، (وصرهن) أي: أَمْلهُنَّ واضمُمْهن إليك. وفيه لغتان: صار يصير ويصور، ولذلك قرئ بكسر الصاد وضمها، و (سعيا) : حال، أي: ساعيات.
يقول الحق جل جلاله: واذكر يا محمد، أو أيها السامع، حين قالَ إِبْراهِيمُ عليه السلام: يا رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أي: أبصرني كيفية إحياء الموتى، حتى أرى ذلك عياناً، أراد عليه السلام أن ينتقل من علم
اليقين إلى عين اليقين، وقيل: لما قال للنمرود: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال له: هل عاينت ذلك؟ فلم يقدر أن يقول: نعم. وانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه ذلك ليطمئن قلبه على الجواب، إن سئل مرة أخرى، فقال له الحق جل جلاله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة؟ وإنما قال له ذلك، مع علمه بتحقيق إيمانه ليجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه، قالَ إبراهيم عليه السلام: بَلى آمنت إِنك على كل شيءٍ قدير، وَلكِنْ سألتك لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي إذ ليس الخبر كالعيان، وليس علم اليقين كعين اليقين، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحي والبرهان.
قال له الحق جل جلاله: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام، فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي: اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي: ثم جَزَّئهن، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك. قيل: كانت أربعة وقيل: سبعة، ثُمَّ ادْعُهُنَّ وقل لهن: تعالين بإذن الله، يَأْتِينَكَ سَعْياً أي: ساعيات مسرعات، رُوِيَ أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض، ويوزعها على الجبال، ويمسك رءوسها عنده، ثم يناديها، ففعل ذلك، فجَعَل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثاً، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار في الهواء. فسبحان من لا يعجزه شيء، ولا يغيب عن علمه شيء، ثم نبّه إلى التفكر في عجائب قدرته وحكمته فقال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء، حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر.
الإشارة: من أراد أن تحيا رُوحُه الحياة الأبدية، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فلا بد أن تموت نفسه أربع موتات:
الأولى: تموت عن حب الشهوات والزخارف الدنيوية، التي هي صفة الطاووس.
الثانية: عن الصولة والقوى النفسانية، التي هي صفة الديك.
الثالثة: عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل، التي هي صفة الغراب.
الرابعة: عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام.
فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييتْ روحه، وتهذبت نفسه، فصارت طوع يده، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلي بقوله في حزبه الكبير: (واجعل لنا ظهيراً من عقولنا ومهيمناً من أرواحنا، ومسخراً من أنفسنا، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيرًا، إِنكَ كنت بنا بصيراً) .