الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا عن التوحيد فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، فقد لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنتم كافرون بما نطقت به الكتبُ وتواطأت عليه الرسل.
تنبيه: انظر ما في هذه الآية من المبالغة وحسن التدرج في الاحتجاج، بيِّن أولاً أحوال عيسى وما تطاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد، عاد عليهم بالإرشاد، وسلك طريقاً أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى وسائر الأنبياء والكتب، ثم لمّا لم يُجد ذلك فيهم شيئاً، وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم شيئاً أعرض عنهم، وقال: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. قاله البيضاوي.
الإشارة: الطرق كثيرة والمقصد واحد، وهو التوحيد الخاص، أعني مقام الفناء والبقاء. فالداعُون إلى الله كلهم متفقون على الدعوة إلى هذا المقصد، فكل طريق لا توصل إلى هذا المقصد لا عبرة بها، وكل داع لا يُبلغ إلى هذا الجمال فهو دجال، فإنْ رضي بتعظيم الناس، ولم يَبْنِ طريقه على الأساس، فليس لصاحبه إلا الإفلاس، وكل مَن أطاع المخلوق في معصية الله فقد اتخذه ربّاً من دون الله، وكل مَن تولى عن طريق الإرشاد فقد استوجب لنفسه الطرد والبعاد، فيقول له الواصلون أو السائرون:(فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) . وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما قدم وفدُ نجران المدينة، التقوا مع اليهود، فاختصموا في إبراهيم عليه السلام فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا اختلفنا فى إبراهيم ودينه، فقالت النصارى: كان نصرانيّاً، وقالت اليهود: كان يهوديّاً، وهم أولى الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كلا الفريقين برئ من إبراهيم، بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً، وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإسلام» . فأنزل الله:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَاّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
قلت: (ها أنتم) : أصله: أنتم، دخلت عليه هاء التنبيه، وقال الأخفش: أصله: أأنتم، فقلبت الهمزة الأولى هاء، كقوله: هرقت. وتوجيه القراءات معلوم في محله، و (أنتم) : مبتدأ، و (هؤلاء) : خبره، و (حاججتم) : جملة مبينة للأولى، أو (حاججتم) : خبر، و (هؤلاء) : منادى بحذف النداء، و (حنيفاً) : حال، أي: مائلاً عن الأديان إلا دين الإسلام.
يقول الحق جل جلاله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ، ويدعي كل فريق أنه كان على دينه، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، فكيف يكون يهوديّاً، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة؟! وكيف يكون نصرانيّاً، ودين النصرانية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفي سنة؟! أَفَلا تَعْقِلُونَ فتدعون المحال، ها أَنْتُمْ يا هؤُلاءِ الحمقى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من أمر محمد- عليه الصلاة والسلام ونبوته، مما وجدتموه في التوراة والإنجيل، فأنكرتموه عناداً وحسداً، فَلِمَ تجادلون فيما لا علم لكم به، ولا ذكر في كتابكم من شأن إبراهيم؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما خاصمتم فيه، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بل أنتم جاهلون.
ثم صرّح بتكذيب الفريقين فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلاً عن العقائد الزائفة، (مسلماً) منقاداً لأحكام ربه. وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام، وإلا لكان مشترك الإلزام، لأن دين الإسلام مؤخر أيضاً، فكان إبراهيم إمام الموحدين، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما عليه اليهود والنصارى والمشركون. ففيه تعريض بهم، ورد لادعائهم أنهم على ملته.
ثم ذكر مَنْ أولى الناس به، فقال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي: أخصهم به وأقربهم منه، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته في زمانه، وَهذَا النَّبِيُّ محمد صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ آمَنُوا لموافقتهم له في أكثر الأحكام، قال صلى الله عليه وسلم:«لكُلِّ نَبيَ وُلاة مِنَ النَّبيِّينَ، وإنَّ وَلِيِّي منهم أبِي وَخَلِيل ربِّي» . يعني: إبراهيم عليه السلام، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أي: ناصرهم على سائر الأديان، ومجازيهم بغاية الإحسان.
الإشارة: ترى كثيراً من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم، ويخاصمون في طريق غيرهم، وهي نزعة أهل الكتاب، حائدة عن الرشد والصواب، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية، وتخلق بالأخلاق المرضية، وزهد في الدارين، ورفع همته عن الكونين، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه، حتى أشرقت عليه أنوار ربه، واتصل بأهل التربية النبوية، فزجوا به في بحار الأحدية، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل، فياله من مقام جليل، فهذه ملة إبراهيم الخليل، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن، وقطب دائرة الزمان، سيد المرسلين، وإمام العارفين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين.