الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُنْتَ لَدَيْهِمْ
أي: عندهم، حين كانوا يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ لما اقترعوا، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في كفالتها، فتخبرهم عما شهدت، بل لم يكن شيء من ذلك، فتعين أن يكون وحيا حقيقا، لأنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لم يطالع شيئاً من كتب الأخبار، ولا جلس إلى من طالعهم من الأحبار، بإجماع الخاص والعام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الوحي على أربعة أقسام: وحي منام، ووحي إلهام، ووحي أحكام، ووحي إعلام، وشاركت الأولياءُ الأنبياءَ في ثلاثة: الإلهام والمنام والإعلام، إن كان بغير الملَك، ومعنى وحي إعلام: هو إطلاع الله النبيّ على أمور مغيبة، فإن كان بواسطة الملك، فهو مختص بالأنبياء، كما اختصت بوحي الأحكام، وأما إن كان بالإلهام أو بالمنام أو بالفهم عن الله، فيكون أيضاً للأولياء، إذ الروح إذا تصفت وتطهرت من دنس الحس أطلعها الله على غيبه في الجملة، وأما التفصيل فلا يعلمه إلا علاّم الغيوب. والله أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى البشارة بعيسى عليه السلام، وهو المقصود الأعظم من هذه القصص ليتخلص للرد على النصارى فى زعمهم الفاسد فيه، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قلت: (إذ قالت) : بدل من (وإذ قالت) الأولى، ويبعد إبدالها من (إذ يختصمون)، و (المسيح) وما بعده: إخبار عن اسمه، أو (عيسى) : خبر عن مضمر، و (ابن مريم) : صفته، و (المسيح) : فعيل بمعنى مفعول، لأنه مُسِحَ من الأقذار، أي: طهر منها، أو مسح بالبركة، أو كان مسيح القدم، لا أخمص له، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان. أو بمعنى فاعل لأنه كان يمسح المرضى فيبرءون، أو يمسح عين الأعمى فيبصر، أو لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان فتكون الميم زائدة.
وأما المسيح الدجّال فإنه ممسوح إحدى العينين، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها، إلا مكة والمدينة، والحاصل:
أن عيسى مسيح الخير، والدجال مسيح الشر، ولذلك قيل: إن المسيح يقتل المسيح. و (وجيهاً) : حال من (كلمة) لتخصيصه بالصفة، و (في المهد وكهلاً) : حالان، أي: طفلاً وكهلاً، والمهد: ما يمهد للصبي. و (رسولاً) : مفعولٌ لمحذوف، أي: ونجعله رسولاً، و (مصدقاً) : عطف على (رسولاً)، و (لأُحِلَّ) : متعلق بمحذوف، أي: وجئتكم لأُحل.
أو معطوف على معنى مصدقاً، كقولهم: جئتك معتذراً، أو لأطيب قلبك.
يقول الحق جل جلاله: (و) اذكر أيضا إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ في بشارتهم لمريم: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، أي: بولد يتكوَّن بكلمة من الله كن فيكون، وقيل: إنما سمى كلمة لكونه مظهراً لكلمة التكوين، متحققاً ومتصرفاً بها. ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء، اسْمُهُ الْمَسِيحُ، واسمه عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وإنما قال: ابْنُ مَرْيَمَ والخطاب لها، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد إنما تنسب لأبائها إلا إذا فقد الأب. ثم وصف الولد بقوله: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: شريفاً في الدنيا بالنبوة والرسالة، وفي الآخرة بالشفاعة لمن تبعه. ويكون مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى الله تعالى في الدارين.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ طفلاً فِي الْمَهْدِ على وجه خَرْق العادة في تبرئة أمه، وَكَهْلًا إذا كمل عقله قبل أن يرفع، أو بعد الرفع والنزول، لأن الكهولة بعد الأربعين، والتحقيق: أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه في المهد، معجزةً، وفي الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده، وما قارب الشيء يُعطي حكمه، وحال كونه مِنَ الصَّالِحِينَ لحضرة رب العالمين.
ولما سمعت البشارة دهشت وقالَتْ: يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، والخطاب لله، فانية عن الواسطة جبريل، والاستفهام تعجباً، أو عن الكيفية: هل يكون بتزوج أم لا؟ قالَ لها الملك: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. أو الأمر كذلك كما تقولين، لكن اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ لا يحتاج إلى وسائط ولا أسباب، بل إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ أي: الكتابة والخط، وَالْحِكْمَةَ أي:
النبوة، أو الإصابة في الرأي، وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ.
(و) يجعله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ. وكان أول رسل بني إسرائيل يوسف، وآخرهم عيسى- عليهما السلام، وقال: عليه الصلاة والسلام: «بُعثْتُ على إِثْرِ ثمانية آلاف نبيّ، أربعة آلاف من بني إسرائيل» . فإذا بعث إليهم قال: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بأني قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن ربكم، قالوا: وما هي؟ قال:
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ كصورته، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وكان يخلق لهم صورة الخفاش، لأنها أكمل الطير لأن لها ثدياً وأسناناً وتحيض وتطير، فيكون أبلغ في المعجزة، وكان يطير مادام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً ليتميز فعل الحق من فعل الخلق.
ثم قال لهم: ولي معجزة أخرى أني أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى، فأحرى غيره، وَالْأَبْرَصَ الذي فيه وضح «1» . وخصهما لأنهما عاهتان معضلتان. وكان الغالب في زمن عيسى الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك. رُوِي: أنه ربما اجتمع عليه من المرضى في اليوم الواحد ألوف، من أطاق منهم البلوغ «2» أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام.
وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ لا بقدرتي دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإحياء ليس من طوق البشر. رُوِيَ أنه أحيا أربعة أنفس:(العازر) ، وكان صديقاً له، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، وهو في صخرة مطبقة، فدعا الله تعالى، فقام العازر يقطر ودكه «3» ، فعاش وولد له. و (ابن العجوز) ، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل سريره على عنقه، ورجع إلى أهله، وبقي حتى وُلد له. و (ابنة العاشر) ، كان يأخذ العشور، قيل له: أتحييها، وقد ماتت أمس؟ فدعا الله تعالى، فعاشت وولد لها. و (سام بن نوح) ، دعا باسم الله الأعظم، فخرج من قبره، وقد شاب نصف رأسه، فقال: أقامت الساعة؟ قال: لا، لكني دعوت الله فأحياك، مالى أرى الشيب في رأسك، ولم يكن في زمانك؟ قال: سمعت الصيحة، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها. قيل: كان يحيي الموتى ب يا حيّ يا قيوم.
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا: هذا سحر، أخبرنا بما نأكل وما ندخر؟ فكان يُخبر الرجل بما يأكل في غدائه وعشائه. ورُوِيَ أنه لمَّا كان في المكتب، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام، فيقول للغلام: انطلق
…
غداء أهلك كذا وكذا، فيقول أهله: من أخبرك بهذا؟ قال: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى
(1) هو بياض يعترى الجلد.
(2)
أي: بلوغ المريض المكان الذي فيه عيسى- عليه السلام
(3)
الودك: دسم اللحم ودهنه.
يطلبهم، فقالوا: ليسوا هاهنا، قال: ماذا في البيت؟ قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا الباب، فإذاهم خنازير، فهموا بقتله، فهربت به أمه إلى مصر. قاله السُّدي.
ثم قال لهم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي: وجئتكم مصدقاً للتوراة، وشاهداً على صحتها، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب «1» ولحم الإبل والعمل في السبت. وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة، ولا يخل بكونه مصدقاً له، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته. فإن النسخ في الحقيقة: بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم. ثم قال لهم: (و) قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ واضحة مِنْ رَبِّكُمْ، قد شاهدتموها بأعينكم، فما بقي إلا عنادكم، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ولا تعبدوا معه سواه، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه. قال البيضاوي: أي: لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، فَاتَّقُوا اللَّهَ في المخالفة، وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل، فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايتُه التوحيد، وقال: فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة، التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره: قوله عليه الصلاة والسلام: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثم اسْتَقِمْ» .
الإشارة: كل من انقطع بكليته إلى مولاه، وصدف عن حظوظه وهواه، وأفنى شبابه في طاعة ربه، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه، تحققت له البشارة في العاجل والآجل، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل، ورزقه من فواكه العلوم، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها، فقربها إليه وتولاها، وبشرها بالاصطفائية والتطهير، وأمرها شكراً بالجد والتشمير، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه، روح الله وكلمة الله، من غير أب ولا سبب، ولا معالجة ولا تعب، أمره بأمر الله، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع.
قال صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها» .
(1) الثروب: جمع ثرب، وهو شحم دقيق يغطى الكرش والأمعاء. [.....]