الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم تكن البسملة قبل الإسلام، فكانوا يكتبون: باسمك اللهم، حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فكتبوا بِسْمِ اللَّهِ حتى نزل:
…
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ حتى نزل:
…
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فكتبوها.
وحذفت الألف لكثرة الاستعمال، والباء متعلقة بمحذوف، اسم عند البصريين، أي: ابتدائى كائن بسم الله، فموضعها رفع. وفعل عند الكوفيين، أي: أبدأ أو أتلو. فيقدّر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له، فموضعها نصب، ويقدر مؤخرا لإفادة الحصر والاختصاص. وهو مشتق من السّموّ عند البصريين، فلامه محذوفة، وعند الكوفيين من السّمة، أي: العلامة، ففاؤه محذوفة، ودليل البصريين: التصغير والتكسير، فقالوا: أسماء، ولم يقولوا أوسام، وقالوا:
سمى، ولم يقولوا: وسيم.
و (الله) علم على الذات الواجبة الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان يأتى الكلام عليهما فى (الحمد لله) ، وكذلك (الرحمن الرحيم) .
قال الحق جل جلاله:
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قلت: (الحمد) مبتدأ، و (لله) خبر، وأصله النصب، وقرئ به، والأصل: أحمد الله حمداً، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد لله وإن لم تحمدوه. ولو قال (أحمد الله) لما أفاد هذا المعنى، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. والتعريف للجنس أي: للحقيقة من حيث هي، من غير قيد شيوعها، ومعناه: الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة. كما قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وقيل: للعهد، والمعهودُ حمدُه تعالى نفسه في أزله.
وقُرِئ (الحمد لله) بإتباع الدال للام «1» ، وبالعكس «2» ، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة.
ومعناه في اللغة: الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل، وفي العُرف: فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً. والشكر في اللغة: فعل يُشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، وفي العرف: صرف
(1) فى الكسر- وهى قراءة شاذة.
(2)
أي: اتباع اللام الدال فى الضم، وهى قراءة شاذة أيضا.
العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه. وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً.
و (الله) اسم مُرْتَجَلٌ جامد، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي: اسم تفرِّد به الباري- سبحانه- يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يُعرف له اشتقاق، وقال الأقْلِيشي: إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات، وليس باسمٍ مشتق من صفة، كالعالِم والحق والخالق والرازق، فالألف واللام على هذا في (الله) من نفس الكلمة، كالزاي من زيد، وذهب إلى هذا جماعة، واختاره الغزالي وقال: كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف.
وقيل: مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد، وقيل: من الوَلَهَان، وهو الحيرة لتحيُّر العقول في شأنه. وقيل: أصله:
الإلهُ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر.
و (رب) نعت (لله)، وهو في الأصل: مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل.
وقيل: هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ، وأصله: رَبَبَ ثم أُدغم، سُمي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ. قال ابن جُزَيّ: ومعانيه أربعة: الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح في رب العالمين، إلا أن الأرجح في معناه: الإله لاختصاصه بالله تعالى.
و (العالمين) جمع عالَم، والعالَمُ: اسم لما يُعْلَمُ به، كالخاتم لما يُختم به، والطابع لما يطبع به. غلب فيما يُعلم به الصانع. وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته، تدل على وجوده، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم، فهو جمع، لا اسم جمع، خلافاً لابن مالك.
وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل: عنى به هذا الناس، فإن كل واحد منهم عالَمٌ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
قلت: وإليه يشير قول الشاعر:
يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه
…
انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً
…
يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بأسره
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بُنيا للمبالغة، من رَحِمَ، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة: رَقَّةُ القلب، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات، التي هي أفعال، دون المبادئ التي هي انفعالات. و (الرحمن) أبلغ من (الرحيم) لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى، كقَطَّعَ وقَطَعَ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتباره الكيفية.
فعلى الأول: قيل: يا رحمنَ الدنيا لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر، ورحيمَ الآخرة لأنه يختص بالمؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جِسَام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.
وإنما قدّم (الرحمن) - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى- لتقدُّم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يُوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى.
انظر البيضاوي. وسيأتي الكلام عليهما في المعنى.
و (مَلِكَ) نِعت لما قبله، قراءةُ الجماعة بغير ألف من (المُلك) بالضم، وقرأ عاصم والكسائي بالألف، من (المِلك) بالكسر، والتقدير على هذا: مالك مجئ يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين. وقراءةُ الجماعة أرجح، لثلاثة أوجه:
الأول: أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس، والثاني: قوله:
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، والثالث: أنها لا تقتضي حذفا، والحذف خلاف الأصل «1» .
و (يوم الدين) ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، وأُجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية، أي: الملك في يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رُويت القراءتان- أي:
القصر والمد- عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) ينبغى ألا يكون ترجيح فى هذا المجال، مع ورود القراءتين عن الرسول صلى الله عليه وسلم والقراءتان- كما يقول الآلوسى-: فرسا رهان، ومتى أردت الترجيح تعارضت الأدلة.
وقد قرئ (ملك) بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل: ملك ومالك نكرة لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص، وكيف ينعت به (الرحمن الرحيم) وهما معرفتان؟ قلت: إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ، وأما هذا فهو مستمر دائماً، فإضافته محضة. قاله ابن جزي.
يقول الحق جل جلاله معلما لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه: يا عبادي قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمدَ سواه، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله، قبل أن يُوجِدَ خلقّه، فلما أوجد خلقه قال لهم: الحمد لله، أي: احمدونى بذلك الحمد المعهود في الأزل.
وإنما استحق الحمد وحده لأنه رَبِّ الْعالَمِينَ، وكأن سائلاً سأله: لم اختصصت بالحمد؟ فقال: لأني ربُّ العالمين، أنا أوجدتُهم برحمتي، وأمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيري، فاستحققت الحمد وحدي، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد، فأنا ربُّ العباد، فالعوالم كلها- على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها- في قبضتي وتحت تربيتي ورعايتي.
قال بعضهم: خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي: رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها: مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه- إذا قُوبلتْ به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما- يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددهم إلا الله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. هـ.
وقال وَهْبُ بن منبه: (قوائم العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين) .
فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش،
كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالها، محفوظة أشباحها، معلومة أماكنها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان، لا لزوم عليه وإيجاب، ولذلك وصلَه بقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أي: الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. «نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما: نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثنى بتوالي الإمداد» . كما في (الحِكَم)«1» . فاسمُه (الرحمن) يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها، واسمه (الرحيم) يقتضي تربيتَها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على أحد، ولم يَتَسَمَّ أحد به إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه (الرحيم) فيجوز إطلاقه على غيره تعالى لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً.
أو: الرحمن في الدنيا والآخرة، والرحيم في الآخرة لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النِعم والرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل: نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة والهداية، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب، ودقائقُ النعم مثل: الصحة والعافية والمال الحلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم.
ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي: المتصرف في عباده كيف شاء، لا راد لما قضى ولا مانع لما أعطى، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار. وإنما خصّ يوم الدين- وهو يوم الجزاء- بالملكية لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده، حتى يراه المؤمنون عياناً، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم. ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
الإشارة: لمّا تجلّى الحقّ سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول: من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال:
مَا وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ
…
إِذْ كُلُّ مَنْ وحّده جاحد
(1) لابن عطاء الله السكندرى.
توحيدُ مَنْ ينطقُ عَنْ نَعْتِهِ
…
عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إِيّاه توحيدُه
…
ونعتُ من يَنْعَتُه لَاحِدُ «1»
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه: (الحمد لله رب العالمين)، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه: أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي.
قال رجل بين يدي الجنيد: (الحمد لله) ولم يقل: (رب العالمين)، فقال له الجنيد: كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد: قُلها يا أخي فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم.
يقول سبحانه: يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب، أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام.
قال في الرسائل الكبرى «2» : لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عين اليقين ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وقوله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ؟! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ.
(1) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم: أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته، حيث أشرك معه نفسه، وكل من ينعته بنفسه فهو لاحد- أي: مائل عن الصواب. وهذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات، وللأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. وانظر أيضا: مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.
(2)
لابن عباد النفزي، شارح الحكم.