الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال البيضاوي: فيه إشارة إلى أن اتَّبَاعَهُ- أي: إبراهيم- واجبٌ في التوحيد الصرف والاستقامةِ في الدين، والتجنب عن الإفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود. هـ.
الإشارة: إذا تحقق للفقير الإخلاص، وحصل على التوحيد الخاص، كان الطعام كله حلالاً له، لأنه يأخذه بالله، ويتناوله من يد الله ويدفعه لله، مع موافقة الشريعة، ولم يغض من أنوار الطريقة بحيث لا يصحبه شرهٌ ولا طمعٌ. وكان عبد الله بن عمر يقول: كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف أو مخيلة. هـ.
وإنما امتنعت العباد والزهَّادُ من تناول الشهوات المباحات خوفاً على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما، فتعطلهم عن العبادة، وكذلك المريدون السائرون، ينبغي لهم التقلل من تناولها لئلا يتعلق قلبهم بشيء منها، فتعطلهم عن السير، وأما الواصلون العارفون، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم، فهم يأخذون بالله من يد الله، كما تقدم.
والحاصل: أن النفس ما دامت لم تُسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها، وجب جهادها ومخالفتها، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها. والله تعالى أعلم.
ولمّا كانت اليهود لا تحجُّ بيت الله الحرام، الذي بناه خليل الله إبراهيم عليه السلام، مع زعمهم أنهم على ملته، ردَّ الله تعالى عليهم بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
…
الخ، وقيل: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل لأنه مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون: الكعبة أفضل لأنه أول بيت وضع في الأرض، أنزل الله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
قلت: (بكة) : لغة في مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، تقول: ضربة لازم ولازب، وأغبَطَتْ عليه الحُمِّى وأغْمَطَتْ، وقيل:(مكة) بالميم: اسم للبلد كله، وبكة: اسم لموضع البيت، سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة- أي: تدقها- فما قصدها جبّار قط بسوء إلا قصمه الله. و (مباركاً) : حال من الضمير في المجرور، والعامل فيه الاستقرار، أي: الذي استقر ببكة مباركاً، و (مقام إبراهيم) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي: منها مقام إبراهيم، أو بدل من (آيات) ، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، على أن المراد بالآيات: أثر القدم في الصخرة الصّماء، وغوصها فيها إلى الكعبين، وتخصيصُها بهذه المزيَّة من بين الصخور، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة، فكان مقام إبراهيم، وإن كان مفرداً، في قوة الجمع، ويدل عليه أنه قرئ (آية) :
بالتوحيد.
وقيل: (الآيات) : مقام إبراهيم، وأمْنُ من دخله، فعلى هذا يكون:(ومن دخله) ، عطفاً على (مقام)، وعلى الأول: استئنافاً. و (حج البيت) مبتدأ، و (لله) : خبر، والفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، و (من استطاع) : بدل من (الناس)، وقيل: فاعل.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ في الأرض لِلنَّاسِ للذي استقر بمكة، وبعده بيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. بنت الأولَ الملائكة حيالَ البيت المعمور، وأمر اللهُ مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، ثم بُنِيَ الثاني. وقيل: بناهما آدم عليه السلام ثم جدَّد الأول إبراهيمُ. حال كونه مُبارَكاً لأنه يتضاعف فيه الحسنات، بكل واحدة مائة ألف، وتكفر فيه السيئات، وتنزل فيه الرحمات، وتتوارد فيه النفحات.
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات، منها: الحجر الذي هو مَقامُ إِبْراهِيمَ، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء، حتى أكمل البناء، وغرقت فيه قدمه كأنه طين، ومنها: أن الطير لا تعلوه، ومنها: إهلاك أهل الفيل وردُّ الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السلام، وحفر عبد المطلب لها بعد دُثُورها، وأن ماءها ينفع لما شُرب له، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من العقاب في الدارين لدعاء الخليل: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً، فكان في الجاهلية كل من فعل جريمةً، ثم لجأ إليه لا يُهَاج «1» ولا يعاقب مادام به، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص. وقال أبو حنيفة:
الحكم باق، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج،، لكن يُضيَّق عليه، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج.
قال- عليه الصلاة والسلام: «مَنْ مَاتَ في أحد الحرمين بعثه اللهُ من الآمنين» . وقال أيضاً: «مَنْ حَجَّ هذَا البَيْتَ- فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه» .
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فرض عين على مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بالقدرة على الوصول بصحة البدن، راجلاً أو راكباً مع الزاد المُبلِّغ، والأمن على النفس والمال والدين. وقيل: الاستطاعة: الزاد والراحلة.
وَمَنْ تركه، وكَفَرَ به، كاليهود والنصارى، وكل من جحده، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عنه، وعَنِ حجه، وعن جميع الْعالَمِينَ، أو عبر بالكفر عن الترك، تغليظاً كقوله:«مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَر» روى أنه- عليه الصلاة والسلام لما نزل صدر الآية- جمع أرباب الملل، فخطبهم، وقال:«إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» ، فآمنت به ملة واحدة، وكفرت به خمس ملل، فنزل وَمَنْ كَفَرَ
…
إلخ.
(1) أي: لا يقاتل.