الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم. وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يريد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إِنك على كل شيءٍ قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال، فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
قلت: الاستثناء منقطع، وكان تامة لمن رفَع، وناقصه لمن نصب، واسمها: ضمير الأموال، على حذف مضاف، إلَاّ أن تكون الأموال أموالَ تجارة.
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ الذي لا تُجوزه الشريعة، كالربا والقمار، والغصب والسرقة، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ، أي: لكن إن وجدت تِجارَةً صحيحة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي: اتفاق منكم على البيع، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان.
وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله- عليه الصلاة والسلام:«البَيِّعَان بالخِيَار مَا لَمْ يتَفَرَّقَا» . وحمله مالك على التفرق بالكلام، وقال أكثر المفسرين: التخيير، هو أن يُخير كلُ واحد منهما صاحبة بعد عقد البيع. وقد ابتاع عمرو ابن جرير فرسًا، ثم خَيَّر صاحبه بعد البيع، ثم قال: سمعت أبا هريرة يقول: البيع عن تراض. قال البيضاوي:
وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير، لأنها أغلب وأوفق لذوي المروءات، ويجوز أن يُراد بها الانتقال مطلقًا. وقيل: المقصود بالنهي: صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة: صرفه فيما يرضى. هـ.
الإشارة: لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم في غير ما يُقربكم إلى الحق فإن ما سوى الحق كله باطل، كما قال الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل «1»
(1) راجع التعليق على هذا البيت عند إشارة الآية [150] من سورة البقرة. [.....]
إلا أن يكون صرفه في تجارة رابحة، تقربكم من الحبيب، وتجلبُكم إلى حضرة القريب، فتلك تجارة رابحة وصفقة نافعة. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان، وسيأتي تمامه في قوله: (وَمَا كَانَ لمؤمن
…
) إلى آخر الآيات، فقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
…
يقول الحق جل جلاله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بالخنق أو بالنخع «1» أو بالجرح، الذي يؤدي إلى الموت، أو بالإلقاء إلى التهلكة. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:(بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزوة ذَات السَّلَاسِلِ، فأجنَبتُ في لَيْلَة بَارِدَة، فَأشْفَقْتُ على نفسي وصَليْتُ بأصحَابِي صَلاة الصُبح بالتيمم. فلَمّا قَدِمتُ ذَكَرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا عَمرُو صلَّيتَ بأصحَابِكَ وأنت جُنُب؟» قلت: نعم يا رسول الله، أشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فذكرت قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً) .
أو: ولا تقتلوا إخوانكم في الإسلام، فإن المؤمنين كنفس واحدة. قال البيضاوي: جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال- الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها- استبقاء لهم. هـ.
وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة، ورحمة بكم، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، فقد أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وأنتم نهاكم عنه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل. أو جميع ما سبق من المحرمات عُدْواناً وَظُلْماً، أي:
إفراطًا في التجاوز عن الحد، وإتيانًا بما لا يستحق، أو تعديًا على الغير وظلمًا على النفس، بتعريضها للعقاب، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارًا أي: نحرقه ونشويه فيها. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «مَن قَتَل نفسَهُ بِشَيءٍ عذب به في نار جهنم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا» وهو تغليظ، أو لمن استحل ذلك. وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا في قتل الإنسان بيده، أهون مما ذكره في قتل الغير، الذي يأتي، لأنه زاد هناك الغضب واللعنة والعذاب العظيم، أما قول ابن عطية: إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية في قتل بعضهم بعضًا، فليس بصحيح، والله تعالى أعلم.
(1) النخع: هو القتل الشديد، مشتق من قطع النخاع.