الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر الحق تعالى نعمة الواسطة، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 151 الى 152]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
قلت: (كما) متعلق بأتم، أي: ولأتم نعمتي عليكم في شأن القبلة كما أتممتها عليكم بإرسال الرسول. أو باذكروني، أي: كما ذكرناكم بالإرسال، فاذكروني بالمقال والحال. وقدم هنا التزكية على التعليم، باعتبار القصد لأن القصد من الإرسال والتعليم هو التطهير، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير، وأعاد العامل في قوله: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ إيذاناً بأنه جنس آخر شرفاً له.
يقول الحق جل جلاله: يا عبادي اذكروا برّي وإحساني فقد أتممت عليكم نعمى وآلائي بإسعافكم في تحويل القبلة، كما أتممتها عليكم بأعظم النعم وأجلها، وهو إرسال من يعلمكم رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا الموصلة إلى حضرتنا، ويطهركم من المساوئ والعيوب، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ المشتمل على علم الغيوب ودواء القلوب، ويعلمكم الْحِكْمَةَ وهي الشريعة المطهرة والسنّة النبوية، وَيُعَلِّمُكُمُ علوماً غيبية لم يكن لكم بها علم ولا معرفة، فَاذْكُرُونِي بالطاعة والإحسان أَذْكُرْكُمْ بالثواب ونعيم الجنان. قال صلى الله عليه وسلم:«مَن أطَاعَ الله فقدْ ذكَرَ الله، وإنْ قَلَّتْ صَلاتُه وصيَامُهُ وتِلاوتُه القرآن. ومَنْ عَصيَ اللهَ فَقَدْ نَسِيَ الله، وإنْ كَثُرتْ صَلاتُهُ وصَيَامُهُ وتِلاوَتُه» .
أو فاذكروني بالجَنَانِ أذكركم بنعمة الشهود والعيان، أو فاذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الحجب، أو فاذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات في الجنان. قال الصّديق رضي الله عنه:(كفَى بالتوحيدِ عبَادةً، وكَفَى بالجنةِ ثَواباً) . أو فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، أو فاذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها. قال الأصمعي:
(رأيت أعرابيّاً واقفاً يوم عرفة بعرفات، وهو يقول: إلهي عَجَّتْ لكَ الأصْواتُ بضُروب اللغات يسألونك الحَاجَات، وحاجَتي إليكَ أنْ تَذْكُرني عندَ البلَاءِ إذا نَسِيَني أهلُ الدنيا) .
أو: فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى، أو: فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، يعني يحييه حياة طيبة. أو: فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ، دليله الحديث: «أنا عِندَ ظنِّ عبدي بي فليُظنَّ بي
مَا شاء، وأنا معه إذا ذكَرني، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي. ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ..» الحديث.
أو: فاذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، أو: فاذكروني بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أو: فاذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة. أو: فاذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة، أو: فاذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء، أو: فاذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، إلى غير ذلك مما لا ينحصر.
واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع: ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين «1» ، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين، وذكر القلب فقط، وهو ذكر الواصلين، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى، إذا كان بشيخ كامل، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحَمْدَلَةٍ وحَسْبَلَةٍ وحوقلة وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكلِّ خاصيةٌ وثمرة، وتجتمع في ذكر المفرد، وهو:
الله، الله. فإن ثمرته الفناء في الذات، وهي الغاية والمنتهى. انظر ابن جزي.
قال الحقّ تعالى: واشكروا لي ما أوليتكم من إحساني وبرّي بأن تنسبوها لي لا لغيري، ولا تجحدوا إحساني فأسلبكم ما خولتكم من إنعامي.
الإشارة: كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشريعة النبوية، ويطهرهم من شهود الغيرية، ويعلمهم العلوم اللدنية، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب، ويدخلونهم حضرة الغيوب، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية، ويعلمهم من غرائب العلوم، ويفتح لهم مخازن الفهوم، فَيَطَّلعون على السر المصون، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون، فيقول لهم الحقّ جل جلاله: اذكروني بأرواحكم وأسراركم، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة، واشكروا لي آلائي وبرّي، ولا تكفروا بالركون إلى غيري فإني أسلبكم من مزيد معونتى ونصرى.
(1) الغفلة هنا باعتبار عدم موافقة القلب للسان فى الذكر.