الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشروط بعدم العفو، لدلائل منفصلة اقتضت ذلك كما هو مشروط بعدم التوبة أيضًا، والحاصل: أن الوعد لا يخلف لأنه من باب الامتنان، والوعيد يصح إخلافه بالعفو والغفران، كما في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«مَن وَعَدَه الله- عز وجل على عملٍ ثوابًا فهو منجزه له لا محالة، ومَن أوعَدَه على عمل عقابًا فهو بالخيار، إن شاءَ عَفَا عنه، وإن شاء عَاقَبه» . هـ. ذكره في القوت.
فَتَحَصَّل أن القاتل لا يُخلَّد على المشهور إلَاّ إذا كان مستحلاً، وهذا أيضًا ما لم يقتص منه، وأما إذا اقتُص منه فالصحيح أنه يسقط عنه العقاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَن أصَابَ ذَنبًا فعُوقِبَ به في الدنيا فهو له كَفَّارَةٌ» . وبه قال الجمهور، وكذلك إذا سَامَحَهُ ورثةُ الدم لأنه حق ورثوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإيمان محلة القلوب، فالقلب هو المتصف بالإيمان حقيقة. فالمؤمن الحقيقي هو القلب، فمن قتله بتتبع الشهوات، وتراكم الغفلات، فجزاؤه نار القطيعة في سجن الأكوان، والبعد عن عرفان الشهود والعيان، وفي الحِكَم:«سبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهة الكريم» . والله تعالى أعلم.
ثم إن اللسان ترجمان القلب، فمن أظهر الإيمان حرم التعرض له، كما أشار إلى ذلك الحقّ جل جلاله بقوله:
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
قلت: (السَّلم) بالقصر: الانقياد والاستسلام، وبالمد: التحية. وجملة (تبتغون) : حال من الواو، مشعرة بما هو الحامل على العجلة.
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ أي: سافرتم وسرتم تجاهدون فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَبَيَّنُوا الأمور وتثبتوا فيها ولا تعجلوا، فإن العجلة من الشيطان، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي: الانقياد والاستسلام، أو سلَّم عليكم تحية الإسلام، لَسْتَ مُؤْمِناً إنما فعلت ذلك متعوذًا خائفًا، فتقتلونه طمعًا في ماله، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وحطامها الفاني، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ وَعَدَكُم بها، لم تقدروا الآن عليها، فاصبروا وازهدوا فيما تَشُكُّون فيه حتى يأتيكم ما لا شبهة فيه، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ
هذه الحال، كنتم تخفون إسلامكم خوفًا من قومكم، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالعز والنصر والاشتهار، فَتَبَيَّنُوا وتثبتوا ولا تعَجلَوا، وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللهُ بكم، حيث حفظكم وعصمكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنًا بأنهم إنما دخلوا فيه اتقاء وخوفًا، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل مؤمن، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر. ثم هدَّدهم بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً مطلعًا على قصدكم، فلا تتهافتوا في القتل، واحتاطوا فيه.
رُوِي أن سريةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فَدَك فهربوا، وبقي مرداسُ ثقًة بإسلامه، لأنه كان مسلمًا وحده، فلما رأى الخيلَ ألجأ غَنَمه إلى عاقول من الجبل «1» ، وصعد عليه، فلما تلاحقوا وكَبَّروا، كَبَّر ونزل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامةُ، واستاق غنمه، فنزلت الآية. فلما أخبر- عليه الصلاة والسلام وَجِدَ وجدًا شديدًا، وقال لأسامة:«كيف بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!» قالها ثلاثًا، حتى قال أسامة: ليتني لم أكن أسلمتُ إلا يومئٍذ، ثم استغفرَ له بعدُ، وقال له:«اعتق رقبة» ، وقيل: نزلت في المقداد، مرَّ برجل في غنمه فأراد قتله، فقال: لا إله إلا الله، فقتله وظفر بأهله وماله، وقيل: القاتل: مُحلِّم بن جَثَامة، والمقتول: عامرُ بن الأضبط. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يستفاد من الآية: الترغيب في خَصلتين ممدوحتين وخصوصًا عند الصوفية:
الأولى: التأني في الأمور والرزانة والطمأنينة، وعدم العجلة والخفة والطيش. وفي الحديث:«من تَأنَّى أصابَ أو كادَ، ومَن استعجَّلَ أخطَأ أو كَادَ» . ولا يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، ويفهم عن الله أنه مراد الله في ذلك الوقت.
والثانية: حُسْن الظن بعباد الله كافة، واعتقاد الخير فيهم، وعدم البحث عما اشتمل عليه بواطنهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام:«أُمِرتُ أن أحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» «2» وقال لأسامة: «هلاّ شققت عن قلبه» ، حين قَتَلَ مَن قال: لا إله إلا الله، أو لغيره. وفي الحديث:«خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حُسْن الظنِّ بالله، وحُسْن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله» . والله تعالى أعلم.
(1) أي: منعطف من الجبل.
(2)
لم يرد بهذا اللفظ. راجع كشف الخفا 1/ 221 والمقاصد الحسنة/ 91.