الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن ادّعى محبة الله أو محبة رسوله، ولم يطعهما، ولم يتخلق بأخلاقهما، فدعواه كاذبة، وفي ذلك يقول ابن المبارك «1» :
تَعْصِي الأله وأنت تظهر حبه
…
هذَا محَالٌ في القِيَاسِ بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
ثم ذكر الحق تعالى بيان نشأة عيسى عليه السلام، وبيان أصله ونشأة أمه، توطئة للكلام مع النصارى والرد عليهم في اعتقادهم فيه. وقال البيضاوي: لما أوجب الله طاعة الرسل، وبيَّن أنها الجالبة لمحبة الله، عقَّب ذلك ببيان مناقبهم تحريضا عليها فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
قلت: (ذرية) : حال، أو بدل من الآلين، أو من نوح، أي: أنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض.
و (إذ قالت) : ظرف لعليم، أو بإضمار اذكر. و (محرراً) : حال، والتحرير: التخلص، يقال: حررت العبد، إذا خلصته من الرق، وحررت الكتاب، إذا أصلحته وأخلصته، ولم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاح، ورجل حُر، أي: خالص، ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحُر، أي: الخالص من الحمأة. وقوله: (وإني سميتها مريم) : عطف على (إني وضعتها) ، وما بينهما اعتراض، من كلامها على قراءة التكلم، أو من كلام الله على قراءة التأنيث.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى، آدَمَ بالخلافة والرسالة، وَنُوحاً بالرسالة والنِّذَارة، وَآلَ إِبْراهِيمَ بالنبوة والرسالة، وهم: إسحاق، ويعقوب والأسباط، وإسماعيل، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة. وَآلَ عِمْرانَ، وهم موسى وهارون- عليهما السلام وهو عمران بن يصهر
(1) الشعر ينسب لأكثر من واحد.
ابن فاهث بن لاوي بن يعقوب، أو المراد بعمران: عمران بن أشهم بن أموي، من ولد سليمان عليه السلام، وهو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل: المراد عمران بن ماثان، أحد أجداد عمران والد مريم. وإنما خصّ هؤلاء، لأن الأنبياء كلهم من نَسْلهم. وقيل: أراد إبراهيم وعمران أنفسهما. «وآل» مقحمة، كقوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ أي: موسى وهارون، فقد فضل الحقّ- جل جلاله هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية عَلَى الْعالَمِينَ أي: كلاً على عَالَمِي زمانه، وبه استدلّ على فضلهم على الملائكة. حال كونهم ذُرِّيَّةً متشعبة بَعْضُها مِنْ ولد بَعْضٍ في النسب والدين، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد وأعمالهم، عَلِيمٌ بسرائرهم وعلانيتهم، فيصطفي من صفا قوله وعمله، وخلص سره، للرسالة والنبوة.
ثم تخلًّص لذكر نشأة مريم، توطئة لذكر ولدها، فقال: واذكر إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهي حنة بنت فاقوذا، جدة عيسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً لخدمة بيت المقدس، لا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وكان المحرر عندهم، إذا حُرر، جُعل في الكنيسة يقوم عليها وينكسها، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، ثم يُخَيَّر، فإن أحبَّ أقام أو ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلا الغلمان لأن الجارية لا تصلح للخدمة لما يصيبها من الحيض، فحررت أمُّ مريمَ حمْلَها ولم تَدْرِ ما هو.
وقصة ذلك: أن زكريا وعمران تزوجا أختين، فتزوج زكريا أشياعَ بنت فاقوذا، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة «1» ، وكانت حنة عاقراً لا تلد، فبينما هي في ظل شجرة، بصُرت بطائر يطعم فرخاً، فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت الله تعالى، وقالت: اللهم لك علي، إن رزقتني ولداً، أن أتصدق به على بيت المقدس، يكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم، فهلك عمران، وحنة حامل بمريم، فَلَمَّا وَضَعَتْها أي: النذيرة، أو ما في بطنها، قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، قالت ذلك تحسّراً وتحزناً إلى ربها، لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة، ولذلك نذرته.
قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، تعظيماً لموضوعها وتنويهاً بشأنها، أو من كلامها- على قراءة التكلم- تسلية لنفسها، أي: ولعل لله فيه سرّاً، قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، أو من كلامها، أي: وليس الذكر والأنثى سيان فيما نذرتُ. ثم قالت: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ راجية أن يطابق اسمُها فعلها، فإن مريم فى نعتهم هى العابدة الخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:«حَسْبُكَ من نساءِ العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم» .
(1) أي: بينهما هذه الجهة من القرابة، وهى جهة الخئولة.
ثم قالت حنة أم مريم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ أي: أحصنها بك وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي:
المرجوم بالشهب، أو المطرود، وفي الحديث:«مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَاّ والشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَد فَيَسْتَهِلُّ مِنْ مَسِّهِ، إلَاّ مَرْيَمَ وابْنهَا» . ومعناه: أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود، بحيث يتأثر به، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة، قلت: وكذا الأنبياء كلهم، لا يمسهم لمكان العصمة. والله أعلم.
فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي: رَضِيَها في النذر مكان الذكَر، بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي: بوجه حسن، وهو إقامتها مقام الذكر، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسِّدانة «1» ، رُوِي: أن حنة لما ولدتها لفَّتْها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها، لأنها كانت ابنة إمامهم، وصاحب قربانهم، فإن (بني ماثان) كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فأبوا إلا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريا- أي: علا- على وجه الماء، ورسبت أقلامهم، فأخذها زكريا.
وَأَنْبَتَها الله نَباتاً حَسَناً أي: رباها تربية حسنة، فكانت تشب في اليوم ما يشب المولود في العام، وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي: ضمها إليه وقام بأمرها. وقرأ عاصم- في رواية ابن عياش- بشدِّ الفاء، أي: وكفَّلها اللهُ زكريا، أي: جعله كافلاً لها وحاضناً. رُوِيَ: أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتاً، واسترضع لها، فلما بلغت، بنى لها محراباً في المسجد، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ ليأتيها بطعامها، وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي: فاكهة في غير حينها، يجد فاكهة الشتاء في الصيف، وبالعكس، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي: من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه، والأبواب مغلقة عليك؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا يُستبعد، قيل: تكلمت صغيرة، وقيل: لم ترضع ثدياً قط، خلاف ما تقدم، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة.
ثم قالت: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي: بغير تقدير، أو بغير استحقاق تفضلاً منه، وقوله:
(كلما) : يقتضي التكرار، وفيه إشارة إلى أنَّ زكريا لم يَذَرْ تَعهُّدهَا، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها، بل كان يتفقد حالها كل وقت، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعاً، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائماً وألا يظهر، فما كان زكريا معتمداً على ذلك، فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدد السؤال بقوله: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على الله- سبحانه-. قاله القشيري.
(1) السدانة: مصدر بمعنى الخدمة، والسادن: الخادم.
رَوى جابر بنُ عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم الطعام، فقام في منازل أزواجه، فلم يصب عندهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال:«يا بُنيةُ، هل عندك شيء؟» فقالت: لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، بعثت إليها جارتُها برَغِيفَيْن وبِضْعَة لَحْم، فبعثت حَسَناً وحسينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء، فكشفت له الجفنة، فإذا الجفنة مملوءة خُبْزاً ولَحْماً، فَبُهِتَتْ، وعرفت أنَّهَا بَرَكَةٌ مِن اللهِ تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أين لك هذا يا بنيّة؟» قالت: ومِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فحمد الله تعالى، وقال:«الحمْدُ للهِ الَّذِي جَعلَك شَبِيهَةً بسَيِّدَةِ بَنِي إسْرَائِيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى علىّ رضي الله عنه. ثم أكل أهلُ البيت كلهم، وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبقيت الجَفْنة كما هي، فأَوْسَعَتْ علَى الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً. انتهى «1» .
الإشارة: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) ، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره، وجددوه بعد خمود أسراره، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية، بحيث يجدد للناس دينهم، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه.
وفي الحديث: «إن الله يَبْعَثُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذِه الأمة دِينَهَا» . قال الحريري: (مات الحسن البصري عشية جمعة- أي: بعد زوالها- فلما صلّى الناس الجمعة حملوه، فلم يترك الناس صلاة العصر في مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام، إلا يوم مات الحسن، واتبع الناس جنازته، فلم يحضر أحد في المسجد صلاة العصر، قال: وسمعت منادياً ينادي: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)، واصطفى الحسن على أهل زمانه) . قلت: والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوّف، وتكلم فيه وهذبه. قال في القوت: وهو إمامنا في هذا العلم- يعني علم التصوف.
وقوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ
…
الآية. كُلُّ من نذر نفسه وحررها لخدمة مولاه، تقبلها الله منه بقبول حسن، وأنبت فيها المعرفة نباتاً حسناً، وكفلها بحفظه ورعايته، وضمها إليه بسابق عناية، ورزقها من طُرَفِ الحِكَم وفواكه العلوم، مما لا تحيط به العقول وغاية الفهوم، فإذا قال لنفسه: من أين لك هذا؟ (قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) . وأنشدوا:
فَلَا عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه
…
سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ
وقال القشيري: قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن)، يقال: منَ القبول الحسن أنه لم يطرح كَلَّهَا وشَغْلَهَا على زكريا، فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعاهدها بطعام وجد عندها رزقاً، ليعلم لعالمون إن الله- تعالى- لا يلقى شغل
(1) إلى هنا ينتهى السقط المشار إليه سابقا فى النسخة التيمورية.