الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسبب تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام:«مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ، ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً» .
والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة لأن عُنْوان صحة القلب: جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة. فانظره إن شئت. وبالله التوفيق.
ولما ادّعت اليهود والنصارى أن البرّ خاص بقبلتهم، لأنها قبلة الأنبياء، رد الله تعالى عليهم، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قلت: لمَّا ذكر الحق تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين، وحذَّرَ من الشرك وفروعه، ذكر هنا بقية أركان الدين، وهى الإيمان والإسلام، فذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام وهي الصلاة والزكاة، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه، ثم ذكر الحج وأركانه، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة، ثم ذكر البيوع وما يتعلق بها من الربا، ثم الشهادات والرهَان، وبها ختم السورة.
لكن الحديث ذو شُجون، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً، فقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا: اسم ليس وخبرها، وكلاهما مُعَرَّفَتان، الأول بأل والثاني بالإضافة، إذا التقدير: توليةُ وجوهكم، فمن رجَّح تعريف الألف واللام، جعل (البر) اسمها، و (أن تولوا) خبرها، وبه قرأ الأكثر، ومن رجح الإضافة جعل (البر) خبرها مقدماً، والمصدر اسمها مؤخراً، وبه قرأ حمزة وحفص.
وقوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة، والْبِرَّ مبتدأ، و (من آمن) خبر على حذف مضاف، أَيْ: بِرُّ من آمن إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى، أو قصد المبالغة، ومن شدَّد نصب بها، لوقوعها بين
جملتين، وهى استدراكية، وعَلى حُبِّهِ حال من المال، والصَّابِرِينَ نصب على المدح، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه.
يقول الحق جل جلاله في الرد على أهل الكتاب: لَيْسَ الْبِرَّ محصوراً في شأن القبلة، وَلكِنَّ الْبِرَّ الذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله، وما يجب له من الكمالات، وباليوم الآخر وما بعده، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد في شأنهم، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره، والنَّبِيِّينَ وما يجب لهم وما يستحيل في حقهم.
فالبر هو بر من اعتقد في قلبه هذه الأشياء، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم، فأعطى المال على محبته له، أي: مع حبه، فقد سئل- عليه الصلاة والسلام:«أىّ الصّدقة أفضل؟ فقال: أن تَتَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تأمُلُ الْغِنَى وتَخشَى الفقر» . وَآتَى الْمالَ على حب الله، لا جزاءً ولا شكوراً، فأعطى ذلك المال ذوي قرابته المحَاويج، وقدَّمهم لقوله- عليه الصلاة والسلام:
«صَدَقَتُك على المَساكينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذَوِي القُربى اثنتان صَدَقَةٌ وصِلَةٌ» . وأعطى الْيَتامى لإهمالهم، وأعطى الْمَساكِينَ الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم، وَابْنَ السَّبِيلِ وهو المسافر الغريب، كأن الطريق وَلَدْته، أو الضيف وَالسَّائِلِينَ ألجأتهم الحاجة إلى السؤال. وفي الحديث:«أَعْطِ السائِلَ ولو على فَرَسِه» . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «هَدِيَّةُ اللهِ إلى المؤمن السائلُ على بَابِه» . وأعطى في فك الرِّقابِ من الرق أو الأسر.
وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة، وَآتَى الزَّكاةَ المعلومة. ومن أهل البر أيضاً: الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس إِذا عاهَدُوا الله أو عبادة، فإذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدَّوْا، وأخُصُّ من أهل البر الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ كالفقر والذل وإذاية الخلق، والضَّرَّاءِ كالمرض والزَّمَانة «1» ، أو (البأساء) : الأهوال، و (الضراء) في الأنفس، والصابرين حِينَ الْبَأْسِ أي: الحرب والجهاد، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في طلب الحق، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لكل ما يقطع عن الحق، أو يشغل عنه. فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها لاشتمالها على ما يَزِين البواطنَ من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات، وما يُزَكِّي النفوس من الرذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات. ولذلك
(1) الزمانة: مرض يدوم.