الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، فحقكم أن تكونوا أصبر وأرغب في الجهاد منهم، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأعمالكم وضمائركم، حَكِيماً فيما يأمركم به وينهاكم.
الإشارة: لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم، ولا تفشلوا عن السير إلى حضرة ربكم، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها، فإنها تألم مثلكم، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم، فإذا ارتاضَت وتحلت صار المُر عندها حلوًا، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها، فدوموا على سياستها ورياضتها، فإنكم ترجون من الله الوصول، وبلوغ المأمول، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات، فاعكسوا مُراداتها، حتى تطمئن في حضرة ربها، فتأمن غوائلها، فليس بعد الوصول رجوع، ولا إلى العوائد نزوع، والله غالب على أمره.
ثم ذكر ما يتعلق بحفظ اللسان، وهو الأمر الخامس من مضمون السورة، فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 109]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
قلت: أرى، هنا عرفانية، لا علمية، فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه- عليه الصلاة والسلام حين همَّ أن يخاصم عن طُعمَة بن أبَيرِق، وذلك أنه سرق درعًا من جاره قتادة بن النعمان، في جراب دقيق، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه، وخبَّأها عند يهودي، فالتمس الدرع عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال اليهودي: دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة، وشهد له ناس من اليهود، فقال رهط طعمة من بني ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا، وقالوا: إن لم يفعل هلك وافتضح، وبرئ اليهودي، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً على ظاهر الأمر، ولم يكن له علم بالواقعة، فنزلت الآية:
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي: ملتبسًا بالحق لِتَحْكُمَ بما فيه من الحق بَيْنَ النَّاسِ بسبب ما أَراكَ أي: عَرَّفك اللَّهُ بالوحي، أو بالاجتهاد، ففيه دليل على إثبات القياس، وبه قال الجمهور. وفي اجتهاد الأنبياء خلاف. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي: عنهم للبرآء، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي، وبه قال ابن شعبان. وقال ابن عات: لعله أراد الندب. وقال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة.
والوكالة من الأمانة، والمصطفى- عليه الصلاة والسلام لم يقصد شيئًا من ذلك، ولا علم له بالواقعة، لولا أطلعَه تعالى، فلا نقص في اهتمامه، ولا درك «1» يلحقه. وبالجملة، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة.
ثم نهاه عن الذبّ عنهم، فقال: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
وهم رهط ابن أبيرق السارق، قال السهيلي: هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
أي: كثير الخيانة، أَثِيماً
أي:
مصرًا عليها، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة، وارتدَّ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله، فسقط الحائط عليه فقتله.
ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى، أو كان مظنة الخيانة، كالكافر ونحوه. وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية: إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز، بدليل الآية. هـ.
ثم فَضحَ سرهم، فقال: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي: يستترون منهم، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف وَهُوَ مَعَهُمْ
لا يخفى عليه شيء، فلا طريق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا. إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي: يدبرون ويُزَوِّرُون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من رمي البريء، والحلف الكاذب، وشهادة الزور، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
لا يفوته شيء، ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
ودفعتم عنهم المعرة، فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
أي: مَن يُدافُع عنهم عذابه يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
يحميهم من عقاب الله، حين تُفضَح السرائر، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر.
الإشارة: في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا: شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله-
(1) الدرك: التبعة.