الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظاهر يؤخذ مثله على الخصوص باعتبار الباطن، فقد أخذ الحق سبحانه العهد على المتوجهين إليه ألا تتوجه همتهم إلا إليه، ولا يعتمدون بقلوبهم إلا عليه، وأن يتخلقوا بالإحسان، مع الأقارب والأجانب وكافة الإخوان، وخصوصاً الوالدين من قِبل البشرية أو الروحانية، وهم أهل التربية النبوية، فحقوق أب الروحانية تُقدم على أب البشرية، لأنَّ أب البشرية كان سبباً في خروجه إلى دار الفناء والهوان، وأب الروحانية كان سببًا في دخوله إلى رَوْحٍ وريحان.
وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان، ويرشدوهم إلى الكريم المنان، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب، فمن تولّى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون، وعن دائرة الولاية خارجون.
ثم وبّخهم على نقض عهد آخر، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 85]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
قلت: (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء)«أنتم» : مبتدأ، و «هؤلاء» : خبر، و «تَقْتُلُون» : حال، كقولك: أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا، أو «هَؤُلاءِ» : بدل، و «تَقْتُلُونَ» : خبر أو منادي، أي: يا هؤلاء، أو منصوب على الاختصاص، والْعُدْوَانِ: الإفراط في الظلم، و «أسارى» حال، جمع أسير، ويجمع على أًسرى، وقرئ به أي:
مأسورين، و «هُوَ» ضمير الشأن، و «مُحَرَّمٌ» خبر، و «إِخْرَاجُهُمْ» مبتدأ مؤخر، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ، و «مُحَرَّمٌ» خبره، و «إِخْرَاجُهُمْ» بدل من الضمير، وهذه الجملة متصلة بقوله: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وما قبلها اعتراض.
يقول الحق جل جلاله: وَاذكروا أيضا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وقلنا لكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي: لا يخرج أحدكم أخاه من داره
ويجليه عنها، وجعلهم الحق نفسا واحدة، وكذلك هو في الحقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر:
عُنْصُرُ الأنفاسِ مِنَّا واحِدٌ
…
وكّذا الأجْسَامُ جِسْمٌ عَمَّنَا
ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنفسكم بذلك، ثُمَّ أَنْتُمْ يا هؤُلاءِ اليهود تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي: يقتل بعضكم بعضاً، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ إجلاءً عنها، تتغالبون عَلَيْهِمْ بالظلم والطغيان، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ مأسورين تفدوهم بمالكم، وذلك الإخراج محرم عليكم.
وحاصل الآية: أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبدٍ أو أمَةٍ وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما كان من ثمنه واعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في الحرب فيُعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس، فيقاتلون بني النضير في قتالهم مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب، فقالوا: تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون: قد أمرنا أن نفديهم وحُرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ فقالوا: إنا نسْتحي أن يُذَل حلفاؤنا، فوبخهم الله على ذلك، فقال:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وهو الفداء وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو القتل والإخراج؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ أي: ذل وهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وهو السبي والقتل لبني قريظة، والجلاء والإخراج من الوطن لبني النضير، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ. وليس ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم، بل نقمة وغضباً عليهم، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
الإشارة: الناس على قسمين: قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها، ولم يقدروا على قتل نفوسهم، ولا على الخروج من وطن عوائدهم، فيقول لهم الحق جل جلاله: لا تسفكون دماءكم في محبتي لأنكم لا تقدرون على ذلك، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم، ويقول للأقوياء: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي، تتعاونون على نفوسكم بالقهر والغلبة، وكذلك ورد في بعض الأخبار:(أول ما يقول الله للعبد: اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك، فإن قال: لا، ما أريد إلا أنت، قال له: من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، ورفع الحدث، وإثبات القدم، وذلك يوجب العدم) وأنشدوا: