الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر رجلاً من يهود خبير- يعني من أحبارهم- وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان لا بالاعتقاد، واكفروا به آخره، وقولوا: نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وإنما نفعل ذلك حتى نشكك أصحابه. هـ. فحذَّر الله تعالى المسلمين من قولهم، فقال جل جلاله: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: أحبارهم: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا) وأظهروا الدخول في دينهم، وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ وقولوا: نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فلم نجد محمداً بالنعت الذي في التوراة، لعل أصحابه يشكون فيه- لعنهم الله وأضلّ سعيهم.
وقيل: نزلت في شأن الكعبة، فإنَّ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف- من اليهود- قالا لأصحابهما: صلّوا معهم إلى الكعبة أول النهار، ثم صلّوا إلى الصخرة آخره، لعلهم يقولون: هم أعلم منا، وقد رجعوا، فيرجعون، ففضحهم الله وأبطل حيلتهم الواهية.
الإشارة: ترى كثيراً من الناسَ يدخلون في طريق القوم، ثم تثقل عليهم أعباؤها، فيخرجون منها إما لضعفهم عن حملها، أو لكونهم دخلوا مختبرين لها، أو على حرف أو حيلة لغيرهم، فإذا رجع أحد منهم قال الناس: لو كانت صحيحة ما رجع فلان عنها، ويصدون الناس عن الدخول فيها والدوام عليها، وهذه نزعة إسرائيلية، قالوا: آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لتَسْلُكن سَنَنَ مَنْ قَبْلكم شِبراً بشير، وذرَاعاً بِذرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخلُوا جُحْر ضَبٍّ لدخلْتُموه، قالوا: اليَهُود والنًّصَارَى؟ قال: نعم، فَمنْ إذن» . وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق- تعالى- مقالة أخرى من مقالاتهم الشنيعة، فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 73 الى 74]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
قلت: يحتمل أن يكون قوله: (أن يؤتى) : مفعولاً ب- (تؤمنوا)، و (قل إن الهدى هدى الله) : اعتراض، واللام في «لمن» صلة، (أو يحاجوكم) : عطف على (يؤتى)، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من كان على دينكم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، بل أنتم تحاجون غيركم. فردَّ الله عليهم (قل إن الهدى هدى الله)، و (أن الفضل بيد الله) . ويحتمل أن يكون قوله:(أن يؤتى) مفعولاً لأجله، والعامل فيه محذوف، والتقدير: أدبَّرتم ما دبرتم كراهية أن يوتى أحد ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم؟.
يقول الحق جل جلاله، حاكياً عن اليهود:(و) قالوا لا تُؤْمِنُوا أي: لا تقروا، أو تصدقوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل، إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دين اليهودية، وكان على دِينَكُمْ، ولا تؤمنوا أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لأنكم أصح ديناً منهم. قال الحق جل جلاله: قُلْ لهم: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ يهدي به مَن يشاء، وإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.
أو يقول الحق جل جلاله: وقالوا: لا تصدقوا ولا تذعنوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وكان من جلدتكم، فإن النبوة خاصة بكم. فكذبهم الحق بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ، يخص بها مَن يشاء من عباده، فكيف تحصرونها فيكم؟ لأجل أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ قلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم، حسداً وبغياً، (أو) خوفاً أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم، قُلْ يا محمد: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فلا ينفع في رده حيلة ولا خدع.
أو يقول الحق جل جلاله، للمؤمنين، تثبيتاً لهم وتشجيعاً لقلوبهم: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطي أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق، وجاء به من عند الحق، ولا تصدقوا أَوْ يُحاجُّوكُمْ في دينكم عِنْدَ رَبِّكُمْ، أو يقدر أحد على ذلك، فإن الهدى هدى الله والفضل بيد الله، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والكرم، عَلِيمٌ بمن يستحق الخصوصية والفضل، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ كالنبوة وغيرها، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ لا حصر لفضله، كما لا حصر لذاته.
الإشارة: يقول الحق- جلت ذاته، وعظمت قدرته- لأهل الخصوصية: ولا تقروا بالخصوصية إلا لمن كان على دينكم وطريقكم، وتزيّاً بزيكم، وبذل نفسه وفلسه في صحبتكم، مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الخصوصية، وهو ليس أهلاً لها، فيأخذها علماً، فإما أن يتزندق أو يتفسق، أو يحاجوكم بالشريعة فيريق دماءكم كما وقع للحلاج رضي الله عنه وفي ذلك يقول الشاعر:
ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا
…
وإلا سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت
…
له شمس الحقيقة بالتداني «1»
وقال آخر:
بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ
…
وكَذَا دماء البائحين تباح
(1) البيتان: من قصيدة للشيخ محيى الدين بن عربى، فى كتابه: الإسراء إلى المقام الأسرى، وفيه: ومن فهم الإشارة فليصنها.