الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُصف المتصف بها بالصدق والتقى، اللذين هما أساسُ الطريقة ومبنَى أسرار التحقيق، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة: ليس المطلوب من العبد أن يَتَوجَّه إلى الحق بجِهَةٍ مخصوصة، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهملَ الباطن، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر، ولكن المطلوب منه أن يُزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين، ويزكي نفسه من الرذائل كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخَوْف والجزَع، ويحليها بأنواع الفضائل كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة، والصبر والشجاعة، والعفة والقناعة، وسائر أنواع الفضائل، فإذا تخلّى عن الرذائل وتحلّى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار، وكان من العارفين الكبار، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب، وأولئك هم المتقون حق التقاة، فنالوا أعلى الدرجات، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنّه وكرمه.
ولمّا مدح الله تعالى الصبر والجرأة فى الحرب، أمر بالقصاص لئلا يتسع الناس فى إطلاق الجرأة، حتى يتجرءوا على قتل المسلم، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قلت: (عفا) لازمٌ يتعدى بالحرف: بعَنْ إلى الجناية، وباللام إلى الجاني، فيقال: عفوت لفلان عن جنايته و (اتباع) خبر عن مضمر، أي: فالأمر اتباع، و (حياة) مبتدأ، و (في القصاص) خبره، و (لكم) خبر ثان، أو صلة له، أو حال من الضمير المستكِنْ فيه. وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى، جعل الشيء مجيىء ضده، وعرّف القصاص ونكْر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم، أي: ولكم نوع من الحياة عظيم، وذلك لأن العلم به يَرْدَع القاتل عن القتل، فيكون سببَ حياةِ نَفْسَيْن، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فإذا اقتُصّ من القاتل سَلِم الباقون، ويصيرُ ذلك سبباً لحياتهم. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: يا أيها المؤمنون كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي شأن الْقَتْلى في العَمْد، فاستسلِموا للقصاص، فالحُر يُقتل بِالْحُرِّ، ولا يقتل بالعبد. بل يغرم قيمته لسيده، ودليله قوله- عليه الصلاة
والسلام-: «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌ بعبدٍ» ، والعبد يقتل بالعبد، إن أراد سيد المقتول قتله، فإن استحياه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد. وكذلك إن قُتل الحر خُيّر أولياؤُه بين قتله أو استرقاقه، فإن استحيَوْه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بِدِيَةِ الحر العَمْد، والأنثى تُقتل بالأنثى والذكر، والذكر يقتل بالأنثى.
وتخصيصُ الآية بالمُساوي، قال مالك:(أحسنُ ما سمعتُ في هذه الآية: أنه يُراد بها الجنسُ- أي: جنس الحر- والذكر والأنثى فيه سواء. وأعيدَ ذِكْرُ الأنثى تأكيداً وتهمُّمَا بإذهاب أمر الجاهلية) . هـ. يعني أن (أل) في الحر:
للجنس، تشمل الذكر والأنثى. وأعاد ذكر الأنثى اهتماماً بردِّ ما كان يفعله الجاهلية من عدم القَودَ فيها.
ثم قال الحق جل جلاله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ دم أخيه شَيْءٌ ولو قَلَّ، فقد سقط القتل، فالواجب اتباعٌ للقاتل بالدية بِالْمَعْرُوفِ من غير تعنيف ولا تعنيت، وأَداءٌ من القاتل بِإِحْسانٍ من غير مطل ولا بَخس.
ذلِكَ- الذي شرعْتُ لكم من أمر العفو والديّة- تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ بكم، وقد كُتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى العفو مطلقاً. وخيَّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الديّة والقصاص. فَمَنِ اعْتَدى بعد أخذ الديّة وقَتَل فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة، في الدنيا: بأن يُقتل لا محالة لقوله- عليه الصلاة والسلام: «لا أُعَافِي أحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَة» .
وَلَكُمْ يا معشر المسلمين فِي تشريع الْقِصاصِ حَياةٌ عظيمة في الدنيا، لانزجار القاتل إذا علَم أنه يُقتص منه، وقد كانوا يَقتُلون الجماعةَ في الواحد، فسلِموا من القتل بشروع القصاص، أو في الآخرة، فإن القاتل إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخذْ به في الآخرة، فاعتُبِروا يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: العقول الكاملة، ما في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الله في المحافظة على القصاص، والحكم به والإذعان له، أو تَكُفُّون عن القتل خوفاً من الله.
الإشارة: كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا، إن كانت له من الله عناية، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة. وتأمَّلْ قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، فنظر إلى امرأة، فلطَمْته كَفٍّ من الهوى، وذهبت عينه، فقال: آه، فقيل له: لطمة بنظرة، وإن زدت زدنا. هـ. وقضية أبي تراب النخشبي: قال رضي الله عنه: ما تمنت نفسي شهوةً من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنيت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلت إلى قرية، فقام واحد، وتعلّق بي، وقال: هذا رأيته مع اللصوص، فضربوني سبعين درة، ثم عرفني رجلٌ منهم، وحملني إلى منزله، وقدَّم لي خبزاً وبيضاً. فقلت في نفسي: كُلْ بعد سبعين درة.