الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأسرار الربانية، التي هي وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس «1» ولا بالنقول، وإليها أشار ابن الفارض رضي الله عنه حيث قال:
ولا تكُ مِمَنْ طَيّشَتْهُ طروسه
…
بحيثُ استخفت عقَلَهُ واستفزّتِ
فَثمَ وراء النّقلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عن
…
مَدارِكِ غايات العقولِ السليمهِ
تَلَقيْتُه منّي وعني أَخَذْتهُ
…
ونفسي كانت من عَطاءٍ مُمدَّهِ
أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أمواكم ومُهجكم تلك العلوم المقدسة، والأسرار المطهرة، متحصنين من دنس الحس والهوى، غير مباشرين لنجاسة الدنيا، ولا مصطحبين مع أهلها، لتتمتعوا بشهود أسرارنا، وأنوار قدسنا، فما استمتعتم به من ذلك، فصونوه عن غير أهله، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله، من بعد حفظه عمن لا يستحقه، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم من عجز عن صداق الحرة، فقال:
[سورة النساء (4) : الآيات 25 الى 28]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
قلت: الطول: الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طَوْلاً، وهو مفعول «يستطع» أو مصدر له- لتقارب معناهما، و (أن ينكح) بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي: لأن ينكح، و (محصنات غير مسافحات) ، حالان، والعامل فيه:(أنكحوهن)، والخدن: الخليل.
يقول الحق جل جلاله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي: لم يجد غني يقدر به على نكاح الْمُحْصَناتُ، أي: الحرائر الْمُؤْمِناتِ، فليتزوج مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، من الإماء المؤمنات دون الكافرات، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة، فإنما أنتم جنس واحد، ودينكم واحد، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فلا تستنكفوا من نكاحهن،
(1) الطروس: الصحف.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، أي أربابهن، حتى يعقدوا لكم نكاحهن، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: أي: مهورهن، وهن أحق به دون ساداتهن، على مذهب مالك، بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل، ولا نقص، على ما تقتضيه السنة. حال كونهن مُحْصَناتٍ أي: عفيفات غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي: غير زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. أي: أصحاب يزنون بهن. وكان في الجاهلية مِن النساء مَنْ تتخذ صاحبًا واحدًا تزني معه خاصة، ومنها من لا ترد يد لامس.
قال ابنُ جزي: مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألَاّ يجد ما يتزوج به حُرة، والآخر: خوف العنت وهو الزنا. لقوله بعد هذا: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة، لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلا أهل العراق فلم يشترطوه. هـ.
الإشارة: فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية، بأخذها من أربابها، ويحصنها بالإخلاص في أخذها، ويقوم بحقها بقدر الإمكان، وهو بذلها لأهلها، والصبر على نشرها، والله لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فإن صح قصده، وخلص عمله، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله، حتى يصير من الأغنياء به، فيتأهل لنكاح الحرائر، ويلتحق بأولياء الله الأكابر، (وَمَا ذلك على الله بعزيز) .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة- قال: فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنا بمعرفته «1» ، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورا في مشاهدته، والعبد يستزيد [من حبه «2» ] فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم. هـ. فعلم الحقائق أبكار، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت، فقال:
قلت: أحصن الرجل- بفتح الهمزة وضمها-: صار محصنًا بالفتح والكسر، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول. وقيل بالفتح، معناه: أسلم، وبالضم: تزوج.
(1) فى الأصول: بمعروفه، والمثبت هو ما فى لطائف المنن للسكندرى.
(2)
ما بين المعكوفتين من تدخل الشيخ المفسر فى النقل.
يقول الحق جل جلاله: إن الإماء إذا تزوجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، وهو الزنا، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد، وهو خمسون، لأن حد البكر مائة. ويفهم منه أنها لا ترجم لأن الرجم لا يتبعض. وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها، ولا رجم عليهم، وسمَى الحد عذابًا، كقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
الإشارة: بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب، وانظر إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى لهن: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ. وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله. ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب، بعد التدريج والتدريب، وتأمل قضيةَ الجنيد، حيث قيل له في المنام: مثلُك لا يُرضى منه هذا، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل، غير أن المقربين يعاتبون، ويردون إلى الحضرة، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً، ولكن لا يشعرون، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل، فقال:
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
…
قلت: العنت: المشقة والضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم، ولا سيما بأفحش الفواحش وهو الزنا، (يريد الله ليبين لكم)، أي: لأن يُبين، واللام زائدة في المفعول، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة.
يقول الحق جل جلاله: ذلِكَ أي: نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا، الذي هو أقبح الفواحش، فنكاح الأمةُ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا. وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاحهن، مع التعفف عن الزنا، خَيْرٌ لَكُمْ لئلا يرق أولادكم. وعن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أراد أن يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر» وقال أبو هريرة: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ، والإماء هلاك البيت «1» » .
(1) الحديث ضعفه السيوطي فى الجامع الصغير.
وَاللَّهُ غَفُورٌ لكم فيما سلف من المخالفة، رَحِيمٌ بكم، حيث رخَّص لكم عند خوف الإثم نكاحَ الأمَة، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ شرائع دينكم، ومصالح أموركم، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: مناهج مَنْ تقدمكم من أهل الرشد، كالأنبياء والصالحين، لتسلكوا مناهجهم، كحفظ الأموال والأنساب، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنهن محرمات على من قبلكم، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي: يغفر ذنوبكم الماضية، أو يرشدكم إلى التوبة، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم، حَكِيمٌ بما دبر وأبرم.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرره توطئة لقوله: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات، وكأنه تعالى يقول: إنا نريد توبتكم ورشدكم، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم، والمراد بهم الزناة لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال، فإنه متبع للحق لا لهم، وقد قال- عليه الصلاة والسلام:
«تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا، فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة» . وقد كان سيدنا علي- كرّم الله وجهه- أزهدَ الصحابة، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ، وقيل: سبع عشرة، وقيل: المراد بهم اليهود والنصارى، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. وقيل: المجوس.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً في كل شيء، لأنه خُلق من ضعف، ويؤول إلى ضعف، أسير جَوعة، صريع شبعة، وخصوصًا عن شهوة النساء، فإنه لا يصبر عن الجماع، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء، وعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال:(ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا «1» ، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي، وقد مات صاحبي- يعني ذكره- منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه، على أنه لا سمع له ولا بصر.) .
قال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
…
الآية، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.... الآية، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
…
، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
…
الآية، مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ
…
الآية. هـ.
الأشارة: إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من
(1) أي: إلّا بمعاونة غيرى.