الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: حذَّر الحق- جل جلاله أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء الذين تعلقوا بهم لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!! فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق- تعالى- أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذوا إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان على وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم.
ثم بيَّن الحقّ تعالى قسمة التركة، فقال:
[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
يقول الحق جل جلاله: (يوصيكم الله) أي: يأمركم ويعهد إليكم، فِي أَوْلادِكُمْ، أي: في بيان ميراثهم، ثم فصَّله فقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين، فإذا ترك ابنًا وبنتًا، كانت من ثلاثة، للذكر سهمان وللبنت سهم، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان، ولكل واحدة قسمة، وهكذا، قال ابن جزي: هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل: نُسخت الوصية للوالدين والأقربين.
وإنما قال: «يوصيكم» بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال:(يوصيكم) بالاسم الظاهر، أي:(الله) ولم يقل: نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال:(في أولادكم) ولم يقل: في أبنائكم لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى، وليسوا من الورثة، فإن قيل: هلاّ قال: للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنثى
نصف حظ الذَّكر؟، فالجواب، أنه بدأ بالذَّكَرِ لفضله، ولأن القصد ذكُر حظه، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث. هـ «1» .
الأشارة: كما أوصى الله- تعالى- في أولاد البشرية، أوصى على أولاد الروحانية، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ، يسري إليه المدد، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر، على حسب ما سبق في القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن، فقال:
قلت: أنّث الضمير فى (كنّ) باعتبار الخبر، أو يعود على المتروكات، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ (واحدةُ) بالرفع، ففاعِلُ كَانَ التامة، ومن قرأ بالنصب، فخبر كان.
يقول الحق جل جلاله: فإن كان المتروك من الأولاد نِساءً ليس معهن ذكور فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي:
اثنتين فما فوق، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ، والباقي للعاصب، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فأعطاهما النصف كالواحدة، والجمهور على خلافه، وأن لفظ فَوْقَ زائدة كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وقيل: أخذ الثلثين بالسُنة، وإن كانَتْ بنتًا واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، والباقي للعاصب، وفيه دليل على أنَّ الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد لأن له مثل حظ الأنثيين.
الإشارة: انظر البنت، إذا انفردت أخذت النصف، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها، كذلك أمداد الأشياخ، من انفرد عندهم وحده، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره، لانجماع نظر الشيخ إليه، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه: ما زال يأتيك الرجال- أي: إخوانك من الفقراء- وكان وحده، فيقول له: الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع.
وكذلك أيضًا، انفراد العبد بالعبادة، في وقت الغفلة، مددها أعظم من كونه مع غيره، كالمجاهد خلف الفارين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: «طوُبَى للغُرَبَاءِ» ، والله تعالى أعلم.
(1) راجع تفسير ابن جزى.
ثم ذكر ميراث الأبوين، فقال:
قلت: (السدس) مبتدأ، و (لأبويه) خبر، و (لكل واحد) ، بدل من (أبويه) ، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس، ولو قال: لأبوَيْه السدس لأوهم الاشتراك.
يقول الحق جل جلاله: إذا مات الولد، وترك أبويه، ف لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، للصلب أو ولد ابن، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، والباقي للأب، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي: أخَوَان فأكثر، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أو مختلفين، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، والباقي للأب، ولا شيء للأخوة معه.
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فلم يحجبها للسدس باثنين، وجعلهما كالواحد، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع، وأقله ثلاثة، وأجيب بأن لفظ الجمع، يقع على الاثنين كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ» . وهذا كله، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين، وإنما قدّم الحق- تعالى- الوصية على الدَّين، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال لأن أرباب الدّين أقوياء، بخلاف الموصى لهم، فقدمهم اعتناء بهم.
الإشارة: الروح كالأب، والبشرية كالأم، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية، يعني له ورد منه، فالبشرية والروحانية سواء، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة الأدب للبشرية، والمعرفة للروحانية، إذا استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن، وبالعكس، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد، أو تقول: الإنسان مركب من حس ومعنى، فالحس كالأم، والمعنى كالأب، لأن المعاني قائمة بالحس، والروح تستمد منهما معًا، فهي كالولد بينهما، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة، استمدت منهما معًا، وإن كانت ميتة، كان استمدادها من الحس أكثر، كموت الولد في ميراث الأم.
أو تقول: الإنسان بين قدرة وحكمة، القدرة كالأب، والحكمة كالأم، والقلب بينهما كالولد، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة، واستوى نظرها فيهما. وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة، كفَقْدِ
الولد في ميراث الأم، وإن كان للقلب أخوة من الأنوار والأسرار يتقوى بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس، والباقي كله للقدرة، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة، ذوقًا وكشفًا، وإلَاّ.. فليسلُم لأهل المعرفة.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو، فقال:
آباؤُكُمْ
…
يقول الحق جل جلاله: قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه، وما يرث الولدُ من أبيه، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة لأنكم لا تدرون أيهم أقرب نفعًا للأخر، هل الأب أقرب نفعًا لابنه، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه، من الأب لابنه، فتخصونه بالإرث، ففرضتُ ميراث الأب وميراث الولد، ولم نكل ذلك إليكم. فَرِيضَةً حاصلة مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً بما فرض وقدَّر.
وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء، وأرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا، فيشفع الولد في والديه، إن كان أرفع درجة منهما، فيرفعهما الله إليه، ويشفع الوالدين في ولدهما، إن كانا أرفع درجة منه، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما. هـ. بالمعنى.
الإشارة: الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته، وبشريته إلا بروحانيته، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا، لأن البشرية محل للعبودية، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية، ولا بد للجمع بينهما، وكذلك الحس، لا يقوم إلا بالمعنى، والمعنى لا يقوم إلا بالحس، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد، فتؤثره، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس، فلا بد من ملاحظته.
وقال الورتجبي هنا ما نصه: أشكل الأمر من تلك الطائفتين، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون الفًا بغير حساب، أي: اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم، فربما يخرج منهم صاحب الولاية، ليشفع لكم عند الله تعالى، وحكمة الإبهام هاهنا ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور، لتوقع ذلك الولي الصادق. هـ. قلت: فسر الآباء والأبناء بالحسيين، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.