الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الحق جلاّ جلاله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ تحريفاً لكتاب الله، ويَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خوفاً من أن تزول رئاستهم، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم، نزلت في أحبار اليهود لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، خافوا أن تزول رئاستهم، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإسلام، وكانت صفة النبي صلى الله عليه وسلم فى التوراة:«حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة» ، فغيروها، وكتبوا: طوالاً، أزرق، سبط الشعر، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ، ويأخذون من سفلتهم، فهو وإن كان كثيرا فى الحس فهو، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم، قليل.
الإشارة: ينزجر بهذه الآية صنفان: أحدهما: علماء الأحكام، إذا أفتوا بغير المشهور، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى، رغبة فيما يقبضون من الرشا، أو يحصلونه من الجاه، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ الثاني: أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم، فإنهم إذا رأوا أحداً قام بولاية أو نسبة خافوا على زوال رئاستهم، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول في طريقته، فيكتبون في ذلك سفسطات وترهات، يُنفِّرون الناس عن اتباع الحق، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
ثم ذكر الحق تعالى بعض أمانيهم الفارغة، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
قلت: (بلى) : حرف جواب كنعم، والفرق بينهما أن (بلى) لا يقع إلا في جواب النفي ويصير إثباتاً، تقول: ألم يأت زيد؟ فتقول بلى. أي: أتى، ومثله: قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ فقال تعالى: (بلى) أي تمسكم، بخلاف نعم فإنها لتقرير ما قبلها نفياً أو إثباتاً، فإذا قيل: ألم يأت زيد؟ فقلت: نعم، أي لم يأت، وإذا قيل: هل أتى زيد فقلت:
نعم، أي أتى. وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
«نعَمْ» لتقرير الذي قبلها
…
إثباتاً أو نفياً، كذا قرَّرُوا
«بلى» جواب النفي لكنه
…
يصير إثباتاً، كذا حرَّرُوا
يقول الحق جل جلاله: وَقالُوا أي: بنو إسرائيل في أمانيهم الباطلة: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يوماً مقدار عبادة العجل، ثم يخلفنا فيها المسلمون. قال الحق جل جلاله: قُلْ لهم يا محمد: أَتَّخَذْتُمْ بذلك عهداً عند الله فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ- بَلى تمسكم النار وتخلدون فيها لأن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أي: كفراً ومات عليه، وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي: أحدقت به، واستولت عليه، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- وَالَّذِينَ آمَنُوا بما نُزِّل على محمد صلى الله عليه وسلم وَعَمِلُوا بشريعته المطهرة الأعمال الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ هذه عادته تعالى إذا ذكر فريقاً شفع بضده ترغيباً وترهيباً وبالله التوفيق.
الإشارة: اعلم أن كثيرا من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون: سمعنا من سيدي فلان يقول: مَن رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور، وقد قال- عليه الصلاة والسلام لابنته:«يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله» . وقال للذي قال: ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له: «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود» . نعم، هذه المقالة: إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين- الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث:«إذا أحب الله عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب» ، يعني: يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر:«افعلوا ما شئتم فقد غَفَرتْ لَكُم» . ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق.