الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتخليته تعالى إياهم مع المكر، تسبب عنه الرفع إلى السماء، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان، حتى ينزل خليفة عن نبينا- عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان.
الإشارة: يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين، الذين جعلهم الله حواري الدين، ففي الحديث الصحيح:«خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ «1» الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ» . فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال، يهربون من حس الدنيا وشغبها، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله، وهم أهل التجريد، الذين اصطفاهم الله لخالص التوحيد، فروا إلى الله فآواهم الله، قالوا:(آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) منقادون لما تريد منا، (ربنا آمنا بما أنزلت) من الأحكام الجلالية والجمالية قد عرفناك في جميع الحالات، (فاكتبنا مع الشاهدين) لحضرتك، المنعمين بشهود ذاتك، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية، وانصرنا فإنك خير الناصرين، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين.
ثم ذكر الحق تعالى رفع عيسى إلى السماء فقال:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 58]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قلت: (إذ قال) : ظرف لمقدر، أي: اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، (متوفيك) أي: رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم: توفيت كذا واستوفيته: قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك بدليل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت،
(1)(شعف)، بفتح الشين والعين: جمع شعفة، وهى من كل شىء: أعلاه. والمراد بها هنا: رءوس الجبال.
قال تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وقوله:(ذلك) مبتدأ، و (نتلوه) : خبر، و (من الآيات) :
حال، أو (من الآيات) : خبر، و (نتلوه) : حال، أو خبر بعد خبر.
يقول الحق جل جلاله: اذكر إِذْ قالَ اللَّهُ لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، أي:
قابضك إليّ ببدنك تامّاً، وَرافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من مخالطة دنس كفرهم، وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين، وقال قتادة والشعبي والربيع: هم أهل الإسلام. هـ. فو الله ما اتبعه من ادعاه ربا، فمن تبع دينه حقا جعل فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا به من اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يغلبونهم بالحجة والسيف. وقد حقق الله فيهم هذا الأمر، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا «1» .
ثم قال تعالى: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ بالبعث، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين وأمر عيسى. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: فأجمع لهم عذاباً الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ في الدارين بالنصر والعز في الدنيا، وبالرضا والرضوان في الآخرة، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه.
ذلِكَ الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما، نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ أي: العلامات الدالة على صدقك، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب، بل هي من الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وهو القرآن المبين.
الإشارة: كل مَن طَهَّر سره من الأكدار، وقدس روحه من دنس الأغيار، ورفع همته عن هذه الدار، عرج الله بروحه إلى سماء الملكوت، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت، وبقي ذكره حيّاً لا يموت، وجعل من انتسب إليه في عين الرعاية والتعظيم، وفي محل الرفعة والتكريم، قال- عليه الصلاة والسلام:«هَاجِرُوا تكسبوا العز لأولادكم» ، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات، والركون إلى العوائد والمألوفات، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس، وتمكن من العز الذي لا يفنى، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، (وهو خير الوارثين) . هذه سُنة الله في خلقه، لأنهم نصروا دين الله ورفعوا كلمة الله، فنصرهم الله، ورفعهم الله، قال تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وقال تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا. وفي الحكم: «إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى» . والله تعالى أعلم.
(1) أيُّ: إلى زمن المؤلف، أما فى زمننا، فقد أنشئوا لهم دولة، فى قلب عالمنا الإسلامى، فى فلسطين العربية، بمعاونة الدول الظالمة. اللهم أزل دولتهم وفرق شملهم
…
آمين.