الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، أو من كلام الحق تعالى لنبينا- عليه الصلاة والسلام.
الإشارة: من شأن غالب النفوس ألا تقبل الخصوصية عند أحد حتى تظهر علامتُها، ولذلك طالب الكفارُ الرسلَ بالمعجزات، وطالب العوامُ الأولياءَ بالكرامات، ويكفي في الولي استقامة ظاهره، وتحقيق اليقين في باطنه.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: «إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بمزيد الإيقان ونعت العيان، وكرامة العمل على السنة والمتابعة، وترك الدعاوى والمخادعة، فَمنْ أُعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل
…
» الخ كلامه رضي الله عنه.
وقال في العوارف: وقد يكون مَنْ لا يُكَاشَفُ بشيء من معاني القَدَر أفضل ممن يكاشف بها، إذا كاشفه الله تعالى بصرف المعرفة، فالقدرة أثر من القادر، ومن أُهِّل لقرب القادر لا يستغرب ولا يستكثر شيئاً من القدرة، ويرى القدرة تتجلّى من سُحُب أجزاء عالم الحكمة. فالكرامة إنما تظهر للقلوب المضطربة والنفوس المتزلزلة، وأما من سكن قلبه باليقين واطمأنت نفسه بالعيان لم يحتج إلى دليل ولا برهان إذ الجبال الراسية لا تحتاج إلى دُعامة، والله تعالى أعلم.
وكل من طالب أهلَ الخصوصية بالكرامة الحسية ففيه نزعة إسرائيلية، حيث قالوا لنبيهم بعد أن عيَّن لهم مَنْ أكرمه الله بخصوصية الملك:(أَنَّى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُ بِالْمُلْكِ منه) . ورد الحق تعالى عليهم بقوله:
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ. وما أظهر لهم كرامة التابوت إلا بعد امتناعهم من الجهاد المُتَعَيَّنِ عليهم رحمةٌ بهم. والله تعالى أعلم.
ثم كمّل قصة خروجهم إلى العدو، فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
قلت: قال في القاموس: غرف الماء يغرفه: أخذه بيده، كاغْتَرَفه، والغَرْفَةُ للمَرَّة، وبالكسر: هيئة الغرف وبالضم: اسم للمفعول، كالغرافة، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرْفَة، ثم قال: والغُرْفَةُ، بالضم: العُلِّيَّة «1» .
يقول الحق جل جلاله: ولما اتفقوا على مُلك طالوت تجهز للخروج، وقال: لا يخرج معه إلا الشبابُ النشيط الفارغُ ليس وراءه علقة «2» ، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفا، وقيل: ثلاثون، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا في البيداء، - وكان وقت الحرِّ والقيّظ- عطشوا، وسألوا طالوتَ أن يُجري لهم نهراً، فقال لهم بوحْي، أو بإلهام، أو بأمر نبيهم: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي: مُختبركم بِنَهَرٍ بسبب اقتراحكم، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ كَرْعاً بلا واسطة فَلَيْسَ مِنِّي أي: من جيشي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي: يَذْقه، فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه، فالاستثناء من الجملة الأولى.
فَشَرِبُوا مِنْهُ أي: كَرعُوا، وسقطوا على وجوههم، إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر، على عدد أهل بدر، وقيل: ألفاً. رُوِيَ أن من اقتصر على الغَرفة كَفَتْه لشربه ودوابه، ومن لم يقتصر غلب عطشُه، واسودَّتْ شفتُه ولم يقدْر أن يمضيَ. وعن ابن عباس: أن القومَ شربوا على قدر يقينهم: فالكفار شربوا شُربَ الهيم، وشَرِب العاصي دون ذلك، وانصرف من القوم ستةٌ وسبعون ألفاً، وبقي بعضُ المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغَرفة، فأما من شرب فاشتد به العطشُ وسقط، وأما من ترك الماءَ فحسن حالُه، وكان أجلَد ممن أخذ الغرفة. هـ.
وحكمة هذا الامتحان: ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون، إذ لا يقع النصر إلَاّ بهم، فلما جاوز النهرَ طالوتُ ومن بقيَ معه ممن لم يشربْ قال بعضهم لبعض: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لكثرتهم وقلة عددنا، قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي: يَتَيَقَّنْون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة: لا تفزعوا من كثرة عددهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وإرادته ومعونته، و «كم» للتكثير، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة.
الإشارة: قال بعض الحكماء: الدنيا كنهر طالوت، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه، ونَشَطَ لعبادة مولاه، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها، وكان أسيرا فى يدها.
(1) العلية بضم العين وكسرها- هى الغرفة في الطبقة الثانية من الدار وما فوقها، وجمعها (علالى)
(2)
أي: ما يتعلق به وجمعها علق. وذلك كتجارة، وزوجة لم يدخل بها، وغير ذلك.
وقال بعضهم: طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر، كلما زاد شربه ازداد عطشه. هـ. وقال صلى الله عليه وسلم:«من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط «1» منها بثلاث: بشغل لا ينفد عناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، وحرص لا يدرك مداه» وقال عيسى عليه السلام: الدنيا مزرعة لإبليس، وأهلها حراث له. هـ. وقال على رضي الله عنه: الدنيا كالحية: لَيِّن مسها، قاتل سمها، فكن احذر ما تكونُ منها، أَسَرَّ ما تكون بها فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش.
وقال عليه الصلاة والسلام: «مِنْ هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها» .
وقال سيدنا علي- كرّم الله وجهه-: أول الدنيا عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن. هـ. وقيل: الدنيا تُقبل إقبال الطالب، وتُدبر إدبار الهارب، وتصل وصال الملول، وتُفارق فراق العجول، خيرها يسير، وعمرها قصير، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية.
وقال عيسى عليه السلام: تعملون للدنيا، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل. هـ. وقيل: أوحى الله إلى الدنيا: مَنْ خدَمني فاخدِميه، ومن خدمك فاستخدِميه.
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات «2» :
نهارك يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ
…
وليلُكَ نومٌ، والأسَى لك لازمٌ
تُسَرُّ بما يفْنَى، وتفرحُ بالمُنَى
…
كما سُرَّ باللذَّات في النومِ حالمُ
وشغلُك فيها سوف تكرَه غَبَّه
…
كذلك في الدنيا تَعيِشُ البهائمُ
وقال آخر «3» :
هي الدارُ دَارُ الأذى والقذى
…
ودارُ الفناءِ ودارُ الْغِيَرْ
فلو نِلْتَها بحذافيرها
…
لمِتَّ ولم تقض منها الوطرْ
أيا مَنْ يؤملُ طولَ الخلودِ
…
وطولُ الخلودِ عليه ضررْ
إذا ما كبِرْتَ وفات الشبَابُ
…
فلا خيرَ في العيش بعد الكبر
(1) التاط: أي التصق.
(2)
الأبيات لمسعر بن كدام، كما فى حلية الأولياء 7/ 220
(3)
وهو أبو العتاهية.