الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولمّا كان البيت الحرام عند فرض الحج معمورا بالكفار، أمرهم بجهادهم ليتمكن المسلمون من الحج، فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَاّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قلت: (التهلكة) : مصدر هلك- بتشديد اللام- قاله ابن عطية. وضمن (تُلْقُوا) معنى تفضوا، أو تنتهوا، فعدَّاه بإلى، أي: ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة. ولا يحتاج إلى زيادة الباء.
وسبب نزول الآية: أن المشركين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع في قابل، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم، فيقاتِلُوا في الحرم والشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت الآية.
يقول الحق جل جلاله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وإعلاء كلمته الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي: يبدءونكم بالقتال، وَلا تَعْتَدُوا فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ لا ينصرهم ولا يؤيدهم. ثم نسخ هذا بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
…
الآية. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: وجدتموهم، ولا تتحرجوا من قتالهم في الحرم، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية، وَأَخْرِجُوهُمْ من مكة حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ منها، وَالْفِتْنَةُ أي: الكفر الذي هم فيه، أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ لهم في الحرم، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ابتداءً حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ فيه، وفي غيره، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم، فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم.
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: شرك وَيَكُونَ الدِّينُ خالصاً لِلَّهِ بحيث لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين واحد، فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم، فلا تعتدوا فإنه فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم.
القتال الصادر منكم لهم في الشَّهْرُ الْحَرامُ في مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم في الشهر الحرام، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يقتص بعضها من بعض، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام، بمنعكم من البيت، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الأشهر الحُرُم، أو في الحرَم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تنتصروا لنفوسكم، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالحفظ والتأييد.
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في جهاد عدوكم، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا بِأَيْدِيكُمْ أي: بأنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ أي: الهلكة فيستولي عليكم عدوكم.
رُوِيَ عن أبي أيوب الأنصاري (أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار، قالوا- لما أعز الله الإسلام وكثر أهله-: لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها، فأنزل الله فينا وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وأما هذا فهو الذي قال فيه الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ....)
أو: ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة، أو الطمع في الخلق، ولكن القصد، وهو الوسط. وَأَحْسِنُوا بالتفضل على المحاويج والمجاهدين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فيحفظهم، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة.
الإشارة: أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة: النفس والشيطان والدنيا والناس.
فمجاهدة النفس: بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان: بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا: بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس: بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.