الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضحك، ثم قال: إنَّ رسولَكم [قد] صدقَ، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولُكم؛ فكنّا عليه، حتّى ظهرَ فينا ملوك، فجعلوا يعملون بأَهوائهم، ويتركون أَمر الأَنبياء؛ فإن أَنتم أَخذتم بأمر نبيّكم؛ لم يقاتلكم أحد إِلّا غلبتموه، ولم يشارِرْكم (1) أَحد إِلّا ظهرتم عليه، فإذا فعلتم مثل الذي فعلنا، وتركتم أَمر نبيّكم، وعملتم مثل الذي عملوا بأَهوائِهم، يُخَلَّى بيننا وبينكم، فلم تكونوا أَكثر عددًا منّا، ولا أَشدّ منّا قوة.
قال عمرو بن العاص: فما كلمتُ أحدًا قطُّ أَذكى (2) منه.
حسن - "تيسير الانتفاع/ عمرُ بن علقمة".
15 - باب فتح نَهَاوَنْد
1430 -
1712 - عن زياد بن جبير بن حَيَّة، قال: أَخبرني أَبي (3):
أنَّ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قال للهُرْمُزان (4):
(1) أي: يفعل بكم شرًّا يحوجكم إلى أن تفعلوا به مثله، وهو تفاعل من الشر؛ انظر "النهاية".
(2)
في طبعتي "الإحسان": (أَمكر) بالميم، وفي "تاريخ ابن عساكر" (13/ 515 - 516):(أَنكر) أخرجه من طريق أَبي يعلى، وكذلك ابن حبان، فهذا اختلاف شديدٌ يحار فيه الخريت، ومنه ما في "مسند أَبي يعلى" بلفظ:(أذكر) وهذا أنكرها، والأَقرب عندي من حيث المعنى ما أَثبتُّه أَعلاه، والله أَعلم.
ولقد صدق عمرو! ولم لا؟! والرومي كأنه يترجم بكلامه مثل قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ، وواقع أمراء المسلمين يشهد لذكائه!
(3)
أَبوه: جبير بن حيّة بن مسعود الثقفي، من أَعيان مسلمي عصرِه، تولى ولاية أَصبهان في خلافة عبد الملك رحمه الله، وتوفي فيها.
(4)
الهُرْمُز والهُرْمُزان والهارَمُوز: الكبير من ملوك العجم، كما في "لسان العرب".
أَمّا إِذ فتَّني (1) بنفسِك؛ فانْصَحْ لي؛ وذلك أنّه قال له: تكلّم لا بأس، فأمَّنه، فقال الهرمزان: نعم، إنَّ فارس اليوم رأس وجناحان.
قال: فأَين الرأس؟ قال: (نهاوند) مع (بُندار)(2)، قال: فإنَّ معه أَساوِرَةَ (3) كسرى وأَهل (أَصفهان).
قال: فأَين الجناحان؟ فذكر الهرمزان مكانًا نسيتُه، فقال الهرمزان: اقطع الجناحين توهن الرأس.
(1) الأصل: (أمنتني)! والتصحيح من طبعتي "الإحسان"، والمعنى: نجوت بنفسك من قتلي، وذلك أن عمر رضي الله عنه قال له: تكلم، لا بأس، وقد جاءت هذه الجملة في قصة بين عمر وأنس رضي الله عنهما، قال أنس:
"حاصرنا (تستر)، فنزل (الهرمزان) على حكم عمر، فلما قدم عليه استعجمه، فقال له عمر: تكلم لا بأس عليك، وكان ذلك تأمينًا له.
ذكره الحافظ من رواية ابن أبي شيبة، ويعقوب بن سفيان في "تاريخه" بإسناد صحيح عن أنس.
قلت: وهي في "ابن أبي شيبة"(12/ 456 - 457 و 13/ 2524)، وأخرجها أبو عبيد أيضًا في "الأموال"(113/ 304 و 305) كلاهما بأتم مما ذكره الحافظ، وكأنه اختصره.
ثم رواها ابن أبي شيبة (13/ 19 - 24) بإسناد آخر مطولًا جدًّا بسند فيه جهالة عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال:
لما نزل أبو موسى بالناس على الهرمزان، ومن معه بـ (تستر)
…
إلخ.
وفيها روائع من بطولات السلف رضي الله عنهم.
(2)
الأصل: (بيداد)! والتصحيح من "تاريخ الطبري"(4/ 233 - 234)، و"فتح الباري"(6/ 364 - 265). ويبدو لي - والله أعلم - أن (البُندار) لقب يطلق على بعض تجار العلوج، فراجع - إن شئت - "أنساب السمعاني".
(3)
الأساوِرَة: جمع الأسوار: قائد الفرس، وقيل: هو الجيد الرمي بالسهام، وقيل: هو الجيد الثبات على ظهر الفرس، انظر "لسان العرب".
فقال له عمر رضوان الله عليه:
كذبت يا عدوَّ اللهِ! بل أَعمِدُ إِلى الرأس فيقطعه الله، فإِذا قطعه الله عني انقطع (1) عني الجناحان.
فأَرادَ عمر أَن يسيرَ إِليه بنفسِه، فقالوا: نُذَكِّرُكَ اللهَ يا أَمير المؤمنين! أَن تسيرَ بنفسِك إِلى العجم، فإن أُصبتَ بها؛ لم يكن للمسلمين نظام، ولكن ابعث الجنود.
قال: فبعثَ أَهل المدينة، وبعثَ فيهم عبد الله بن عمر [بن] الخطاب، وبعث المهاجرين والأَنصار، وكتبَ إِلى أَبي موسى الأَشعري: أَن سِرْ بأهل البصرة، وكتبَ إِلى حذيفة بن اليمان: أَن سِرْ بأَهل الكوفة؛ حتّى تجتمعوا جميعًا (بِنُهاوند)، فإِذا اجتمعتم فأَميركم النعمان بن مُقَرَّن المُزَنيّ.
فلمّا اجتمعوا بـ (نهاوند)؛ أَرسل إِليهم (بندار)[العلج](2): أَن أَرسلوا إِلينا يا معشرَ العربِ! رجلًا منكم نكلمه، فاختار الناسُ المغيرةَ بن شعبة، قال أَبي: فكأنّي أَنظرُ إليه - رجل طويل أَشعر أَعور -، فأَتاه، فلمّا رجع إِلينا سألناه فقال لنا:
إِنّي وجدتُ العِلْجَ قد استشارَ أَصحابَه في أَيِّ شيءٍ تأذنون لهذا العربي؟ أَبشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نَتَقَشَّفُ له فنزهده عمّا في أَيدينا؟ فقالوا: بل نأذنُ له بأَفضلَ ما يكون من الشارة والعُدّة.
(1) كذا الأَصل! وفي "الإحسان": (انفض)، وفي "التاريخ":"لم يعْص عليه".
(2)
زيادة من "التاريخ"، يشهد لها قول المغيرة الآتي:(إني وجدت العلج).
فلمّا أَتيتهم رأَيتُ الحرابَ والدَّرَق (1) يُلْتَمَعُ منها البصر، ورأيتهم قيامًا على رأسه؛ فإذا هو على سرير من ذهب، وعلى رأسِه التاج، فمضيتُ كما أَنا، ونَكَسْت رأسي لأَقعد معه على السرير، قال: فدُفعتُ ونُهِرتُ؛ فقلت:
إنَّ الرَّسلَ لا يُفعلُ بهم هذا! فقالوا لي: إِنّما أَنت كلب، أَتقعدُ مع الملك؟! فقلت: لأَنا أشرف في قومي من هذا فيكم! قال: فانتهرني وقال: اجلس، فجلست، فَتُرجِمَ لي قوله، فقال: يا معشرَ العربِ! إِنّكم كنتم أَطولَ الناسِ جوعًا، وأَعظمَ الناسِ شقاءً، وأَقذرَ الناسِ قذرًا، وأَبعدَ الناسِ دارًا، وأَبعده من كلِّ خير، وما كان منعني أَن آمر هذه الأَساوِرَةَ حولي أن ينتظموكم بالنُّشَّابِ إِلّا تنجّسًا لجيفتكم؛ لأنّكم أَرجاس، فإِن تذهبوا يخلى عنكم، وإِن تأبوا نبوِّئكم مصارَعكم.
قال المغيرة: فحمدتُ الله وأَثنيتُ عليه، وقلت:
والله ما أَخطأتَ من صفتنا ونعتنا شيئًا، إِن كنّا لأَبعدَ الناسِ دارًا، وأَشد الناسِ جوعًا، وأَعظم الناسِ شقاءً، وأَبعد الناسِ من كلِّ خير، حتّى بعثَ الله إِلينا رسولًا، فوعدنا بالنصر في الدنيا، والجنةِ في الآخرة، فلم نزل نتعرف من ربّنا - مذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم الفَلاحَ (2) والنصر، حتّى أَتيناكم، وإِنّا - والله - نرى لكم ملكًا وعيشًا، لا نرجع إِلى ذلك الشقاء أَبدًا؛ حتّى نغلبكم على ما في أَيديكم، أَو نُقْتل في أَرضكم.
فقال: أَمّا الأَعور؛ فقد صَدَقَكُمْ الذي في نفسِه.
(1) هي ضرب من الأتراس.
(2)
كذا الأصل، وفي "التاريخ":(الفتح)، وفي طبعتي "الإحسان":(الفَلْجَ).
فقمت من عنده؛ وقد - والله - أَرعبتُ العِلجَ جهدي، فأَرسل إِلينا العلج: إِمّا أَن تعبروا إلينا بـ (نهاوند)، وإِمّا أن نعبَر إِليكم، فقال النعمان: اعبروا، فعبرنا، فقال أَبي (1): فلم أَر كاليوم قط، إنَّ العلوج يجيئونَ كأنّهم جبال الحديد، وقد تواثقوا أَن لا يفرّوا من العرب، وقد قُرِنَ بعضُهم إِلى بعض، حتّى كانَ سبعة في قِران، وأَلقوا حَسَكَ (2) الحديد خلفهم، وقالوا: من فرَّ منّا عقره حَسَكُ الحديد، فقال المغيرة بن شعبة حين رأى كثرتَهم: لم أَرَ كاليومِ فشلًا، إن عدوّنا يُتركون أن يتتاموا، فلا يُعْجَلوا (3)! أَمّا والله لو أنَّ الأَمرَ إِليَّ؛ لقد أَعجلتهم به.
قال: وكانَ النعمان رجلًا بكّاءً، فقال: قد كانَ الله جلّ وعزَّ يشهدُك أَمثالها؛ فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك، وإِنّي - والله - ما يمنعني أن أُناجزهم (4) إِلّا لشيءٍ شهدته من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:
إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ إِذا غزا فلم يقاتل أَول النّهار؛ لم يعجل حتّى تحضر الصلوات، وتَهُبَّ الأَرواح، ويطيبَ القتال. [فما منعني إلا ذلك].
ثمَّ قال النعمان:
اللهمَّ! إِنّي أَسألك أن تُقِرَّ عيني اليوم [بفتح] يكون فيه عزّ الإسلامِ وأَهله، وذل الكفر وأَهله، ثمَّ اختم لي على إِثْرِ ذلك بالشهادة، ثمَّ قال:
(1) يعني: جبير بن حَيَّة؛ الراوي عن عمر.
(2)
الحسك: ما يعمل على مثال الحسك؛ كان يلقى حول العسكر، ويثبت في مذاهب الخيل، فينشب في حوافرها.
(3)
كذا الأصل، و"الإحسان"، وفي "التاريخ":(يتأهبون لا يعجلون)، ولعله أصح.
(4)
أي: أن أسارع إلى قتالهم.
أَمِّنُوا - رحمكم الله -، فَأَمَّنّا، وبكى فبكينا.
فقال النعمان: إِنّي هازٌّ لوائي فتيسروا للسلاح، ثمَّ هازُّها الثانية، فكونوا متيسرين لقتال عدوكم بإزائكم، فإِذا هززتها الثالثة؛ فليحمل كلُّ قومٍ على من يليهم من عدوهم على بركة الله.
قال: فلمّا حضرت الصلاة، وهبت الأَرواح؛ كبّر وكبرنا، وقال: ريح الفتح - واللهِ - إِن شاء اللهُ، وإِنّي لأَرجو أن يستجيبَ الله لي، وأَن يفتحَ علينا، فهزَّ اللواء فتيسروا، ثمَّ هزّها الثانية، ثمَّ هزّها الثالثة، فحملنا جميعًا كلّ قوم على من يليهم.
وقال النعمان: إن أُصبت؛ فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن أصيب حذيفةُ؛ ففلان، فإن أصيب فلان؛ [ففلان]، حتّى عدَّ سبعة، آخرهم المغيرة بن شعبة.
قال أَبي (1): فوالله ما علمت من المسلمين أحدًا [يومئذ] يحبُّ أن يرجع إِلى أَهله؛ حتّى يقتل أَو يظفر، وثبتوا لنا، فلم نسمع إلّا وقع الحديد على الحديد، حتّى أُصيب في المسلمين منها مُصابة عظيمة.
فلمّا رأوا صبرنا، ورأونا لا نريد أن نرجع؛ انهزموا، فجعل يقعُ الرَّجل عليه سبعة في قران فيقتلون جميعًا، وجعل يعقرهم حسك الحديد خلفهم.
فقال النعمان: قدّموا اللواء، فجعلنا نقدّم اللواء، فنقتلهم ونهزمهم.
فلمّا رأى النعمان أنَّ الله قد استجاب له (2)، ورأى الفتح؛ جاءته
(1) يعني: أَباه جبير بن حية؛ الرواي عن عمر رضي الله عنه.
(2)
الأصل: (فلما رأى النعمان قد استجاب الله له).
نُشَّابة (1)، فأَصابت خاصرته، فقتلته، فجاء أَخوه معقل بن مُقَرِّن؛ فَسَجَّى عليه ثوبًا، وأَخذ اللواء، فتقدم [به]، ثمَّ قال: تقدّموا رحمكم الله، فجعلنا نتقدّم، فنهزمهم ونقتلهم.
فلمّا فرغنا واجتمع الناس؛ قالوا: أَين الأَمير؟ فقال معقل: هذا أَميركم، قد أَقرَّ الله عينه بالفتح، وختم له بالشهادة.
فبايع الناسُ حذيفةَ بن اليمان.
قال: وكانَ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بالمدينة يدعو الله، وينظر مثل صيحة الحُبلى، فكتب حذيفة إِلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلمّا قدِمَ عليه قال:
أَبشر يا أَمير المؤمنين! بفتح أعزّ الله فيه الإسلام وأَهلَه، وأَذلّ الشركَ وأَهلَه، وقال: النعمان بعثك؟ قال: احتسبِ النعمانَ يا أَمير المؤمنين! فبكى عمر واسترجع، فقال: ومَنْ ويحك؟! قال: فلان وفلان - حتّى عدّ ناسًا - ثمَّ قال: وآخرين يا أَمير المؤمنين! لا تعرفهم، فقال عمر رضوان الله عليه - وهو يبكي -: لا يضرهم أن لا يعرفهم عمرُ، لكنَّ اللهَ يعرفهم (2).
صحيح - "الصحيحة"(2826)، والمرفوع منه وبعض القصة عند "البخاري" من وجه آخر عن زياد بن جبير.
* * *
(1) الجمع: نُشَّاب، وهو النَّبْل. "لسان العرب".
(2)
في هامش الأَصل: من خط شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله: "أَخرج البخاري بعض هذا الحديث من وجه آخر".