الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 72
- بتاريخ: 01 - 08 - 1929
فضل العربية على سائر اللغات
1 -
توطئة
لم يبق شك في أن ألفاظ جمة من إغريقية ورومانية تشابه كل المشابهة حروفا سامية عديدة. ولا سيما حروفا عربية. لأنه إذا كان ثم عشر كلمات من اللغتين المؤتمتين تضارع كلمات عبرية أو ارمية، فهناك مئات من الألفاظ الضادية تنظر إلى اللغتين المذكورتين.
فهذه المجانسة البينة لكل ذي عينين لم تأت من باب الاتفاق والمصادفة ولا هي وليدة توارد الخواطر، لأنه لو وقع شيء من هذا القبيل، لكان في بضعة حروف، وليس في عشرات ومئات. إذن هناك اصل هو أبو الجميع، ومن هذا الأب نشأت سائر الفروع. وهذا الأصل الوالد الكبير هو في نظرنا لغتنا
العربية ومزاياها، والذي يدفعنا إلى هذا القول أسباب جمة:
2 -
أدلتنا على فضل لغتنا
أول هذه الأدلة اختلاط سلفنا العرب بالأمم القديمة أصحاب اللغات التي كانت مبثوثة في سقي البحر المتوسط أي بالأمم الهندية الأوربية وبسواها.
والهنود الأوربيون في مختلف لغاتهم غير متصلين بعضهم ببعض على طراز الساميين إذ هؤلاء تستحكم بينهم عرا النسب وتشج وشجا وثيقا، ولا يمكنك أن تنكر ما عند القبيلين من المنازل التي تدل على أصلهم منذ القدم. ومن هذين القبيلين نشأ العمران الأكبر، عمران العالم الحديث. وأصل هذين القبيلين البشريين وتطورهما أو تكاملهما هما المسألتان الرئيستان اللتان تهمان التاريخ.
على أن بعض متعصبة الإفرنج وشعوبيتهم يحاولون أن ينكروا كل ممالأة جاءت من قبل الساميين. وينسبون كل تبحر في الحضارة إلى العنصر غير السامي بيد أن مكشوفات العراق وسورية وفلسطين وديار مصر والهند هبت من قبورها ودفائنها لتفند هذا الزعم الفائل، وتكذب أولئك المتقولين والمغرضين.
ولهذا صار مما نرغب فيه اليوم ويفيد المؤرخين والباحثين أن يتقصى الحفي في الآثار، ليطلع على أقدم الطوارئ الآرية التي هبطت على آسية المتقدمة، ويحاكم أحداث تلك
الأجيال محاكمة مجردة من كل غرض.
إننا نعلم أن الفريجيين والأرمن وبعض أقوام آسية الصغرى الواغلة في القدم كانوا ينتمون إلى العشيرة الهندية الأوربية. والآن جاءت الأنبياء لتروي لنا أن هناك آريين أسبقين بدوا لنا اليوم لينضموا إلى العشيرة المذكورة. فانبثاق هذا الفجر الجديد يطلعنا على أمور كان علماء الإفرنج أنكروها قبل نحو بضعة قرون وهي الآن تزداد جلاء ووضوحا، إذ يبدو لنا الآريون، بل قل: الآريون الأسبقون بمظهر العائشين في الشرق المتقدم، عيشة تدل على أنهم كانوا يخالطون الساميين منذ الأزمان الضاربة بعرق في القدم. فإلى ذلك العهد تنسب الألفاظ اليونانية والرومانية التي تشبه في تركيبها وبنيتها وبساطتها الألفاظ السامية، أو
قل للأوضاع العربية.
2 -
في اللغتين المؤتمتين ألفاظ لا ترجع أصولها إلى مواد معروفة فيهما، وهذا ما أقر به جميع لغوييهم العصريين من ألمان وإنكليز وفرنسيين وإيطاليين وغيرهم ولما عارضناها بالأوضاع العربية: وجدنا مفتاحها فيها فهي إذن من أصل عربي صريح، إذ لغتنا وحدها تحل مغلقها وتؤيد معناها وتطلعنا على سر وجودها في تلك الألسنة.
ورب معترض يقول: إن العربية العصرية أو العربية التي استحكمت أصولها قبيل الإسلام غير العربية القديمة التي كانت في تلك العصور الواغلة في القدم. فعربيتنا في هذا العهد حديثة بالنظر إلى اللغتين المؤتمتين، ولا سيما مدوناتهما، فأنها أعتق من مدونات عدنانيتنا بعدة قرون. فكيف يسوغ لك أن تذهب إلى رأيك هذا؟
قلنا: إننا لا ننكر من هذه الحقائق إلا بعضا منها. نعم إن الصيغ والتراكيب والمباني في لساننا قد تختلف عما كانت عليه في الأزمان البعيدة العهد إلا أن (مادتها الأصلية واحدة) وإن اختلفت صورها وصيغها. وأكثر هذه المواد تعرف عروبتها لأنها أحادية الهجاء. ثنائية الحرف، أي أنها في أبسط حالة يمكن أن تكون عليها الكلمة في أول وضعها ونشوءها. فالمضاعف الثلاثي عندنا ما هو في الحقيقة إلا أحادي الهجاء ثنائي الحرف. أما أنه ثنائي الهجاء ثلاثي الحروف فهو من ابتداع النحاة ومن نتاج مخيلتهم ليلحقوه بسائر الأوضاع الثلاثية التركيب. وإلا فأصل (فر) مثلا هو بفاء مفتوحة وراء ساكنة حكاية لصوت الفرار والذهاب أو الطيران. ولما شددوا الراء وفتحوها أرادوا تحقيق الراء - وهو
الحرف الأخير - لكي لا يخلط بحرف آخر ويتضح أنه راء محضة لا حرف آخر.
والإفرنج لا يريدون أن يقروا بهذا الأصل العربي فهم ينسبون تلك الأوضاع إلى لغات كانت معروفة عند سكان آسية المتقدمة، وهم غير الأمم اليونانية المعهودة عندنا. وقد اخترعوا لهم اسما يدلون به عليهم، وهو (الأقوام الاسيانية) وسموا لسانهم (الاسياني).
3 -
مما لا ينكر أن أناسا من الحثيين كانوا في عداد الترواديين وكانت
صلاتهم باليونانيين الأقدمين الأبطال من أوثق الصلات وأقواها: وقد أثبتت الأخبار أن أكابر الحثيين كانوا يصاهرون أماثل اليونانيين. ووجد اليوم من الأنباء القديمة أن الدولة الأخانية الكبرى - التي ترتقي إلى النصف الثاني من الألف الثاني قبل المسيح - كانت تراسل عظماء الديار التي نسميها اليوم بالأناضول القباذقية وتواصلهم وصالا مهما يدل على ارتباط قلوب بعضها ببعض.
4 -
زد على ذلك أن أخبار التوراة تفيدنا أن أبناء (حث) كانوا ينزاون ربوع كنعان من شماليها إلى جنوبيها. وكان من الحثيين فرع ثالث يقيم في قيليقية وكانوا مرتبطين بالحثيين الكنعانيين - شماليين كانوا أم جنوبيين - ارتباطا وثيقا وعززت هذه الحقيقة مكشوفات فجر هذا العصر.
5 -
من الأدلة الجديدة العهد المراسلة التي عثر عليها في (تل العمارنة)، فإن أغلب ما فيها يبحث عن شؤون كنعان، ولغتها الرسمية المألوفة هي السامية وفيها أمثلة من رسائل أخرى عبارتها ميتنية وحثية. وهذا ما يدل دلالة صريحة على أن ارتباط الساميين بالاسيانيين كان ارتباطا وثيقا ومحكما فهو إذن دليل تاريخي منيع لا يتيسر نقضه.
هذه أهم ما عندنا من الأدلة، ومن كان له رأي يخالف رأينا فليأتنا بما عنده لنرى مكانته من الحقيقة والمناعة، إذ لا ندعي العصمة في ما نقول، بل ننزل عن فكرنا حالما نرى من ينسفه نسفا بالطريقة العلمية الصحيحة.
3 -
ميدان اجتهادنا
إننا لا ندعي أن جميع الألفاظ الإغريقية والرومانية عربية الأصل كما لا ندعي أن ليس في لغتنا من ألفاظ الأقوام التي جاورهم أجدادنا، فإن كل جيل أعار الجيل الآخر جاره شيئا من مصطلحاته وأوضاعه الخاصة به، حتى أن أجدادنا اقتبسوا بعض الألفاظ التي كانوا في
غنى عنها.
قال محمد الرازي: (وهم (العرب) ربما استعملوا بعض كلام العجم
باتفاق وقع بين اللغتين كما قالوا للمسح بوزن الملح: بلاس وللصحراء: دشت) اهـ. واقتباس السلف كلما من جيرانهم مع استغنائهم عنها أكثر من أن يسمى فهذا الهلام أشهر من أن يذكر ومع ذلك أنهم أخذوا عن الأعاجم الخاميز. قال الليث: الخاميز اسم أعجمي إعرابه (عامص وآمص). وزاد في التاج: وبعضهم يقول: عاميص وآميص. وقال ابن الإعرابي: العاميص الهلام. وقال الليث: طعام يتخذ من لحم عجل بجلده. وقال الأطباء: الهلام هو مرق السكباج المبرد المصفى من الدهن. قلنا: هو المسمى بالفرنسية وقال ابن سيده: الخاميز أعجمي حكاه صاحب العين ولم يفسره قال: وأراه ضربا من الطعام. كذا في اللسان والتكملة.
وجميع اللغويين صرحوا في عدة مواطن من تآليفهم أن السلف اقتبسوا ألفاظا جمة من الأعاجم وكانوا في مندوحة عنها. قال ابن المكرم صاحب لسان العرب في كتابه (نثار الأزهار في الليل والنهار) معددا أسماء القمر فأوصلها إلى تسعة عشر ثم ذكر العشرين فقال: (والسلني وهو اسمه باليونانية وقد تكلموا به - وذكر من أسماء الشمس تسعة وعشرين أما الثلاثون فهو ايليوس. قال: (وايليوس وهو اسمها باليونانية وقد تكلموا به إذن وجود الشيء عند السلف لا يعني أنهم لم يضعوا له اسما في لغتهم ولا معناه أنهم في غنى عن اقتباسهم أوضاعا من جيرانهم لتأدية ذلك المعنى عينه والذي قد وضعوا له مسمى من سابق العهد بل معناه الإكثار من الأوضاع لا غير.
وعدم إدراك هذه الحقيقة دفع كثيرين إلى كتابة أمور يضحك منها الواقف على سر هذا الاقتباس على أن هذا الإنكار لم يرد في أقوال الأقدمين من لغويينا بل في بعض الكتاب المعاصرين الذين عرفوا شيئا وغابت عنهم أشياء فهم معذورون لأن الدافع إلى مقالهم هذا غيرتهم على تراث الأقدمين لا اجتهاد ولا تثبت في الحقائق.
وعندنا من أقوال اللغويين الأقدمين لإثبات هذه الحقيقة ما لو تجسم لغدا كمامة تسد بها أفواه أولئك المتشدقين الذين ليس لهم من الاشتغال باللغة إلا الإدعاء الفارغ.
أما الألفاظ اليونانية والرومانية التي تمت إلى لغتنا بصلة النسب فهي تلك الألفاظ التي يكثر فيها الهجاء الواحد أو الهجاءان ومدلولها أمر طبيعي أو محاكاة الطبيعة وأما ما يدل منها
على الإمعان في الحضارة أو التوغل في الفكريات والنظريات أو على شؤون لا تعرفها العرب، أو ما كان من هذا القبيل فإنها خاصة بتلك الأمم وقد اقتبسها السلف حين مخالطتهم إياهم.
والذي عندنا أن ما اقتبسه الإغريق والرومان ما آبائنا أوفر مما استعاره أجدادنا من تلك الحمراء والصفراء.
وما حدث في العهد القديم من تحول الألفاظ وتنقلها من قوم إلى قوم واقتباس بعضهم ألفاظ البعض الآخر كل هذا يقع في عصرنا لأن العوامل الفعالة واحدة في البشر فهي لا تتغير ولا تتحول. ألم يقتبس بعضنا كلمة فاميلية ومرسي وربل ومثلها مئات ومئات مع أنه عندنا الأسرة أو الأهل وشكرا والقطار أو السكة الحديدية وبيننا من يتحزب للإفرنج وأوضاعهم فيستعمل ما يستعمله هؤلاء العلوج كما يرى بيننا من يسير على نهج العرب المخلصين وإن أصبحوا هزءا في عيون أولئك الشعوبية الممقوتين. فما يجري اليوم قد وقع أمس والشواهد أكثر من أن تحصى.
ولما ننسب إلى السلف وضع الحروف الأحادية الهجاء أو الثائيته، لا نريد أن نقول: أن كل ما كان على ذينك المبنيين يعود إلى قدمائنا، بل نريد أن نشير إلى الكثرة التي سادت في تلك الأوضاع؛ وإلا فللإغريق والرومان ألفاظ على طراز الوضع العربي بيد أنها من أقل مما ورد من جنسها أخذا عن الناطقين بالضاد.
4 -
اقتباسنا الغريب
من غريب من استقريناه في هذا الموضوع أننا رأينا كلما عديدة وضعها الساميون ولا سيما أجدادنا العرب في عهد اختلاط الأمم بعضها ببعض على صعيد سقي البحر
المعروف بالبحر المتوسط أو بحر الروم في نحو الألف الثالث أو الثاني قبل المسيح فنقلها عنهم من ليس من الرس السامي فزادوا فيها حرفا أو حرفين أو أكثر فاقتبسها منهم بتلك الصورة الجديدة من عاصر أولئك الأقوام من الناطقين بالضاد غير معتبرين أن أصلها يعربي محض وقد ألبس ثوبا أحمر أو أصفر.
ولا نريد أن نعرض على القارئ كل ما جاء في هذا الموضوع فإنه يحتاج إلى وضع سفر جليل قائم برأسه؛ غير أننا نذكر شاهدين للإشارة إلى ما نذهب إليه:
إننا نعلم أن لفظة (سلني) كلمة يونانية تعني القمر. وقد ذهب فقهاء لغتهم إلى أن الكلمة مشتقة من سلاس أي ضياء. وعندنا أن كلا من سلني وسلا (أي سلاس والسين الأخيرة من علامات الإعراب عندهم) مأخوذة من السنى أي الضياء في لغتنا أو من (سين) الآرمية بمعنى القمر. وسين كانت تعني في لغة أقدمينا القمر ومنه السنمار للمعنى المذكور فهو مركب من (سن) أو (سين) السامية و (مار) الذي أصله (ماه) أي قمر وذلك باللغة الآرية، فكأن المتكلم يخاطب أناسا يعرفون الفارسية وقد نسوا الكلمة السامية، أو يخاطب أناسا محبين للإيرانيين ولا يحبون سماع الساميات إلا للذكرى ومثل هذه الألفاظ المركبة من شقين أو من جزءين مختلفين قدر لا يستهان.
والذي يعزز رأينا في هذا الموضوع قولهم أسنى البرق أسناء: دخل ضوءه البيت أو وقع على الأرض أو طار في السحاب. وأسنى النار: رفع سناها - ومن هذا القبيل قولهم ليلة قمراء صناجة أي مضيئة - والسنيج: السراج - والحاسن القمر وظنوها من مادة حسن ونحن نظنها منحوتة من (حي سن) أي الإله القمر الحي. لأنهم كانوا يزعمون أنه إله حي. وهناك حروف كثيرة مركبة من سن أو سين ومن اسم ثان مثل سنداد وسيناء وسنيق وكان هذا الإله
(أي السن بمعنى القمر) يصورونه بهيئة ثور ومنه في لغتنا: السن: الثور.
والذي يزيدنا رسوخا في هذا القول أن هذه المادة، مادة (س ي ن) أو (س ن ي) أو (س ن) في جميع اللغات السامية، فهو أعظم دليل على أن أجدادنا الأقدمين سبقوا غيرهم إلى وضعها.
هذا أصل السلني في نظرنا، وأما ايليوس الذي معناه الشمس في اليونانية، فصحيح لفظه بتفخيم الهمزة، أي يجعل الهمزة هاء أو حاء أو عينا في لساننا مما يحملنا على القول بأن أصلها كان (هيل) أو (حيل) أو (عيل) بعد حذف أداة الإعراب وبعد اعتبار القلب والإبدال فيها كلها. هذا فضلا عن أنه يسوغ لنا أن نعتبر الهمزة أصلية على لغة من لغاتهم. إذ لكل لفظة من تلك الألفاظ وجه في لغتنا وهو أمر عجيب.
فإن اعتبرت الأصل (إيل) فمعناها الإله وسميت كذلك لأن الأقدمين عبدوها كما يعبد الإله.
وإن ذهبت إلى أن الأصل هو (هيل) قلنا لك: أن هذه المادة معناها الدائرة النيرة. ومنها (الهالة) للدارة حول القمر. والهولة: نار التهويل.
وإن قلت أن الأصل هو (عيل) قلنا لك: أما أنه مقلوب العول مصدر عال عياله أي كفاهم معاشهم ومأنهم والشمس كما تعلم سبب معاش الخلائق كلها. وأما أنه مقلوب العلو لأن الشمس من أكبر الأجرام العلوية في نظر العوام من الناس.
أما إذا ارتأيت أن الأصل هو (حيل) قلنا لك: أما أنك تعتبر هذا اللفظ على وجهه الظاهر والحيل هو القوة كالحول والشمس هي سبب قوة المبروءات كلها. وأما أن تعتبرها مقلوبة (حول) والحول كالحيل القوة. بل حول نفسها (بلا لام التعريف وبضم الحاء غير المعجمة) علم للشمس. وقد ذكرها ابن منظور في نثار الأزهار ص 102 وهي التي نقلها اللاتين إلى صورة والفرنسيون إلى والإنكليز إلى وهكذا تراها في جميع اللغات واللغيات الصكصونية بفرق زهيد والأصل هو حول. ومن الغريب أننا لم نجدها في كتب اللغة القديمة ولا في المعاجم الحديثة وهي من الحروف التي
لا بد لما فيها من الصلة بالألفاظ الآرية الأصل.
ومن غريب الأمر أن مثل هذا التغيير وقع بعد الإسلام وفي أبان ازدهار الآداب العربية فأخذ السلف عن الأندلسيين الأجانب ألفاظا بصورتها الأعجمية في حين كانوا في غنى عنها لأن ما اقتبسوه من أولئك الأقوام من المفردات هو عربي النجار ونحن نضرب لذلك مثلا واحدا تقيس عليه ما جاء من هذا القبيل.
بين أدباء المائة السادسة للهجرة رجل عربي محض الدم هو أبو القاسم خلف ابن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال بن يوسف بن داحة بن داكة بن نصر بن عبد الكريم بن واقد الخزرجي الأنصاري القرطبي كان من علماء الأندلس الكبار وله التآليف الجليلة المفيدة. وهو معروف عند الكتاب والمؤرخين باسم (ابن بشكوال) ولم أجد من بحث عن أصل هذه الكلمة. والذي عندي أن اللفظة بهذه الصورة إسبانية أي أندلسية أعجمية وهي تصحيف (الفصحي). وبين الاسمين فرق في اللفظ لا يمكن أن ينكر. أما أنه كيف صار (الفصمعي) بشكوال فنقول: أن الإفرنج نقلوا الكلمة إلى لسانهم بعدة صور منها فنقلت الفاء العربية إلى حرف والصاد إلى والحاء إلى أو ولما نسبوا إلى الفصح الإفرنجية قالوا والإسبانيون قالوا ولما كان الإسبانيون والعرب الأندلسيون في العصور الوسطى يلفظون بعض الأحيان السين شينا صارت (الفصحي)(بشكوال) وهو أمر في منتهى
الغرابة لعدم وجود أدنى مجانسة بين الكلمتين ومع ذلك لا يمكن لأي كان أن ينكر هذه الحقيقة لوضوحها. هذا ولم نر أحدا صارح بهذا الأصل سواء أكان من أبناء لغتنا أم من أبناء الغرب.
والنصارى يسمون (بشكوال) أو أن شئت فقل (فصحي) من يولد من أبنائهم في زمن الفصح. وهكذا اشتهر عندنا كثير من الأئمة باسم (بشكوال) أي الفصحي. منهم القديس بشكوال الأول البابا المتوفى في سنة 824م (1109هـ) والقديس بشكوال بيلون المولود في سنة 1540 م (947هـ) والمتوفى سنة 1592م (1001هـ) فبشكوال اسم نصراني بحت. وابن بشكوال مسلم عربي.
فكيف تسمى مسلم باسم مسيحي صرف؟
نظن أن الاسم شاع في الأندلس شيوعا عظيما فسمعه المسلمون وسموا به أولادهم من غير أن ينظروا إلى معناه ومثل هذه التسمية كثير.
فمن كان يظن أن اسم بشكوال معناه ابن الفصحي؟ وإذا علمت أن نظائر هذه التغييرات جمة لا تحصى وورد مثلها قبل الإسلام وبعده تحققت أن أسرار اللغات من أدق الأمور بحثا واستقصاء.
الباء بعد إذا الفجائية
ذكر النحويون أن الباء الداخلة على الاسم الذي يلي (إذا) الفجائية لفظا هي زائدة وأن الاسم مبتدأ في الأصل وذلك في مثل قول الأصمعي في ص35 من الجزء الأول من الكامل (فإذا به في شملة) فتأويله عندهم (فإذا هو في شملة) فأقول: إن الذي أطلع على كلام أسلافنا الكرام وجد أن (إذا) الفجائية يليها ضمير رفع أو اسم ظاهر غالبا ولم أر في القرآن الكريم غير ذلك. أفعند دخول الباء شاذا أم نفتش عن سر هذه القضية النحوية فنؤيد من ادعى أن الباء قياسية الدخول بعد إذا. التفتيش عن السر أولى فالكيه (إن الضمير الذي يلي إذا أما يكون ضمير المفاجئ مثل (بحثت عنهم فإذا هم جالسون) وأما يكون ضمير المفاجأ مثل (بحثت عنهم فإذا أنا بهم جالسين) ولكن العرب استجازوا حذف ضمير المفاجئ على ما ظهر لي فالقول (فإذا به في شملة) أصله (فإذا أنا به في شملة) ومن ذلك يظهر لنا أن (إذا) لا تدخل على الضمير المجرور إلا بتقدير ضمير رفع بينهما يستقيم به الكلام. قال رجل
من ثقيف في (144: 3) من الكامل (ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة فأتيت الحسن (وإذا به) في دار علي عليه السلام فالأصل) وإذا أنا به في دار علي) والذي يؤيد دعواي قول رجل من أصحاب عبيد الله بن زياد في (149: 5) من الكامل (خرجنا من جيش زيد خراسان فمررنا بآسك (فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلا) فانظر إلى قوله (فإذا نحن بهم) لأنه يبطل دعوى من يقول إن الهاء في (بهم) مبتدأ في الأصل ويؤيد تعليلنا تأييدا شديدا فلو قال هذا (فإذا بهم ستة وثلاثين رجلا) ما أخطأ بل جعل كلامه عرضة للالتباس ويأبى ذلك ذوقه العربي.
مصطفى جواد