الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 74
- بتاريخ: 01 - 10 - 1929
ترجمة فنان عراقي
لما كان واجب الوطنية الصادقة يحتم على الكاتب أو المؤرخ أن يخلد ذكر من برز من أبناء الوطن في فضل أو فضيلة أو نبغ في علم من العلوم أو فن من الفنون، رأيت أن لا مندوحة لي عن أن آتي بترجمة فنان عراقي توفاه الله قبل مدة قصيرة من الزمن ألا وهو المأسوف عليه يوسف بن أنطون يغيا.
1 -
منشأ أسرته ونسبه
في غضون الربع الأخير من القرن الثامن عشر قدم إلى بغداد من ديار بكر شاب أرمني كاثوليكي اسمه يغيا (أي إيليا) بن بدروس أصلان (أرسلان) وكانت مهنته البيع والشراء، فضلا عن قيامه بأشغال تجار بغداد الكبار وأمور تجارتهم في طوقاة والآستانة وغيرهما من البلدان وذلك لحسن شهرته في النزاهة
والصدق والاستقامة والهمة العالية. وقد أتى ذكره بمديح وثناء في الرسائل القديمة التجارية.
وتأهل في بغداد بلوسية ابنة قسطنطين بن حنا دانا الآمدي الكلداني وكان قسطنطين من كبار تجار الزوراء المعدودين حتى كان يضرب المثل بثروته.
وتوفي يغيا في أحد أسفاره إلى الآستانة مخلفاً ثلاثة بنين وهم يوسف جان وبتراك وأنطون وابنة أو ابنتين وهما سيدي وكترينة وإحداهما ترهبت في دير الروميات الكاثولكيات في جبل لبنان.
فيوسف جان توفي في بلاد فارس بلا عقب والأرجح أن بتراك أيضا توفي هناك عن امرأته كترينة ابنة نعمان بن دنحا وابنته لوسي التي تزوجها بشوري ابن فرنسيس تيسي وبعد وفاة بتراك صارت كترينة امرأته لسليمان بن داود الجوخجي وذلك في 4 أيار 1835.
وأما أنطون فتزوج أولا بمدولة الحلبية وبعد وفاتها تزوج سنة 1836 بسارة ابنة يوسف حبش التاجر الكلداني ورزق منها تاكوهي سنة 1840 ويوسف الذي نحن بصدده وقد اعتمد في 19 آذار سنة 1844 وتزوج يوسف هذا في 7 ك1 سنة 1873 بريجينة بنت يوسف غنيمة المعروف بالشاهبندر. وبعد أن رزق منها ابنين وهما منيرة (التي هي اليوم
عقيلة الخواجا نعمة الله بن شمعون نازو) توفي في 25 نيسان عن السنة الحالية 1929 وكانت وفاة والده في 6 أيار سنة 1870 وتريزية التي اختضرت.
مواهب يوسف وصفاته
اشتهر يوسف بثلاثة أمور وهي الموسيقى العراقية والصياغة والنزاهة أو الاستقامة.
أما الموسيقى فأنه أتقنها منذ صغره من نفسه وبالنظر إلى كبار أساتذتها وقد أولع بالضرب على الكمانة (أي الكمنجة العراقية) فأخذ يتعلمها أولا على وتر واحد ممدود على قرعة حتى امتاز بها على من كان يضرب على مثلها من الآلات المتقنة صنعاً بل إن البارعين بها كانوا يقولون عنه: (إن إصبعه لا تخطأ)
وكل إذا عزف عليها أنطقها نطقا كأن إنسانا يتكلم بلسانه الفصيح فكان يثير في صدور السامعين مرة الحزن وأخرى الفرح وتارة البكاء وطورا الضحك والأنس. وقد جالس مجلس رجل كبار كانوا يطربون بسماع ضربه على الآلة حتى أنهم ما كانوا يودون سماع آلات غيره والطاعنون في السن يتذكرون ما كان يهيج في صدورهم حينما كان يضرب على الكمانة في الكنائس الشرقية وكل يرافقه فيها أحد الضاربين على الأرغن والسنطور أو القانون فقال أحد السامعين كنت أود أن أصم أذني حتى يبقى ما سمعته بهما ولا يخرج منهما إلى أبد الدهر، وكثيرا ما كان السامعون يظهرون إعجابهم بما كانوا يسمعون له بإمارات ظاهرة حسية حتى أنهم كانوا ينسون أنفسهم وأنهم في الكنيسة حيث يجب أن يراعوا المقام وقياسته ومع ذلك كانت تغلبهم العاطفة وتأخذهم نشوة الطرب وكل يصدر منهم كل تلك الإشارات والإمارات الدالة على الإعجاب بما كانوا يسمعون.
وكل من عادة القسس في العهد التركي أن يجولوا في الطرق محافظة على الأمن العام فكانوا إذ جاءوا إلى شباك دار يوسف قرعوا له بعصاهم فيفتح لهم النافذة ويسمعهم لحنين أو ثلاثة ثم يشكرونه ويقولون له: أحسنت وبارك الله فيك ونم بسلام آمنا فأننا نحافظ على بيتك كل المحافظة لما زينك لله به من موهبة لإطراب هذا فضلا عن حسن صوته فأنه كان رجيما كما كان صوت والده.
ومن الآلات الموسيقية التي كل يتقن النقر عليها السنطور العراقي والقانون والجنبر (وهو نوع من الطنبور) وأصول الإيقاع على الدق والدنبك (والدربكة) والطبل. وكان يجيد
أصول المقامات العراقية المعروفة بالقراءة وجالس كثيرا كبار القراء (المغنين) كشنتاغ وأبو أحمد وإسرائيل وأحمد زيدان وغيرهم وكان يتأسف على أن القراءة العراقية (الغناء العراقي) ماتت بموت أحمد زيدان وغيرهم إذ لم يبق لها ذلك الرونق البديع، وكل يحسن بعض المقامات التي ربما لا يتقيا اليوم المغنون من جملتها الحسيني الذي كان يأخذ بمجامع القلوب إذا ما قرعه على مكاننه وكل يسميها (ابنته) لحبه لها. ولم يكن يطرب للألحان السورية والمصرية بل أعظم طربه للألحان العراقية القديمة الحقيقية
والحق يقال إن أغلب المقامات العراقية إن لم نقل كلها - إذا ما أحسن
غناؤها وعدل بحسب الأصول الفنية العصرية يكون تأثيرها في النفوس أكثر من تأثير غيرها فيها لأن فيها تنوعاً متعدداً لا يرى في غيرها وخالياً من وحدة السياق إذ يجد فيها الفنان بعض محاسن الموسيقى الفارسية والتركية.
ومما اشتهر به أيضا الصياغة فقد أولع بها منذ صغره كما أولع بالموسيقى وتلقى هذا الفن من حنا بن توما هندي الكركوكي كان أستاذه هذا يعجب بذكاء تلميذه ومن جملة ما يحكى عنه أن أستاذه عجز مرة عن إكمال حاجة فلما ضاق صدر منها ألقاها في الدكان ومضى إلى الخارج ليروح نفسه ولما عاد إلى محله وجد الحاجة قد تم صنعها على أحسن وجه كان يتمنى أن تكون عليه. فلما سأل تلميذه عن ذلك قال إنه أتمها بنفسه على ما أوحى إليه الفن ومنذ ذلك الحين أيقن أن هذا الحدث يكون داهية في الصناعة وكان كذلك ولما أتقن الصناعة وأخذ يشتغل على حسابه أهدى باكورة مكسبه إلى والده الذي كان طريح الفراش يومئذ.
وكان إذا طلب منه أحد صياغة شيء أتقن عمله حتى أنه لا يمر في خاطره أن يذهب إلى غيره وقد شوهد أناس اتخذوه صائغا لبيوتهم طول حياتهم ولا سيما كبار الحاضرة من مسلمين وغيرهم كآل الباجه جي وكان يضرب المثل بحسن صياغته فيقولون: صياغة هذا الشيء تشبه صياغة يوسف جوجو (وجوجو اسم تحبيب ليوسف) وقد جلبت هذه الشهرة إليه جماعة من شبان النصارى الذين تعلموا منه هذا الفن أو بقوا عنده مدة ثم فارقوه.
ومما يزيده قدرا فوق فنية الموسيقى والصياغة نزاهته واستقامته في جميع أعمال حياته. فقد كان رجلا (إسرائيليا لا غش عنده) وأكد مرارا عديدة أنه في حياته الطويلة لم يخدع
أحدا بالذهب الذي يصوغه حتى أنه ما كان يضع فيه ذرة من البهرج أو ما يخالف الأصول المرعية عند الصاغة وإثباتا لذلك
كان يقول لهم هذه المصوغة الذهبية التي صغتها لكم إذا أحببتم أن تعيدوها إلي بعد مدة قصيرة أو طويلة فأني أشتريها بثمن الذهب الذي كلفكم وبالحقيقة كان يجري قوله بعمله.
ومن مزاياه التي خص به دون غيره من صاغة بغداد أنه إذا عين يوما لإنهاء ما يطلب منه من المصوغات دفعه إلى صاحبه أو صاحبته في اليوم وفي الساعة إذا كان قد عين لهما الساعة ولم يخل بهذا الأمر مرة واحدة في حياته كلها. اللهم إلا إذا وقع عارض لم يكن يتوقعه.
ولهذا السبب كان الشغل يتراكم عليه فكان يصوغ طول النهار وربما إلى نصف الليل ولا وقت له للراحة سوى وقت الطعام والنوم.
ولم يحد عن هذه المبادئ أبدا وكان قد تلقاها وراثة عن والده وجده. وينقل عن والده أنطون إنه لم يوجد في عهده رجل حسن السيرة والسريرة والأخلاق المهذبة كما كان هو عليها. وقد اقتدى يوسف بوالده فكان متمسكا بدينه ومتمما واجباته ببساطة وحسن نية وتقوى ويؤكد إنه لم يحد عن الطريق المستقيم في إبان شبابه ولا في حياته كلها إذ امتاز بالشغل والجد والسعي إلى أن خانته قواه في آخر أيام صباه ولهذا كسب ثروة طائلة فضلا عما ورثه من أبويه.
وقبل أن يغادر هذه الحياة كان مواظبا كل المواظبة على مراعاة أصول ديانته متشوقا إلى رحيله إلى الآخرة حتى أنه قبل وفاته بقليل طلب من نفسه الزاد الأخير ليواجه ربه. وطلب أن يدفن في فناء الكنيسة حتى يجلب مدفنه انتباه المارين به ليصلوا من أجله.
ووقف عن نفسه ونفوس أقاربه وآله وقفا مؤبدا لصنع الخيرات. رحمه الله وأبقى لنا في أولاده أحسن ذخر.