الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 66
اللغة العربية والتجدد
هي اللغات ترى في سيرها غيرا!
كثر التسآل والترداد. في هذه الأيام، عن اللغة العربية، وتجددها، وموافقتها لأهواء ذا الزمان، ومقتضياته. الحقيقة هي أن العربية في حاجة إلى التجدد. ولكن ليس إلى ذلك المقدار الذي يتوهمه المجددون المغالون والمتطرفون، بل إلى مقدار معلوم، ومحدود الآن؛ أما في المستقبل. فتحتاج إلى الضروري من التعديل، شأن اللغات الأخرى الحية. وهي ليست كما يتقول ويتشدق عنها الرجعيون المتعنتون، الذين ينعتونها بكل ما وسعته المعاجم من الألقاب الضخمة ويزعمون أنها بغناها، وكثرة مترادفاتها، ومتوارداتها، ومفرداتها، قادرة على أن تقوم بلوازم هذا العصر، فهي وإن كان لها بعض ما يتوهم من الغنى. في كثير من الألفاظ والاصطلاحات والمفردات، وحائزة درجة عظيمة من الرقة والجمال، في عوز من الأوضاع العصرية فعلينا أن لا نغفر كثيراً، ولا نتوهم ما هو مناف للواقع، بعيد عن الحقيقة، بعد الثريا عن الثرى ونؤخذ بقول أحدهم:
إن الذي خلق البرية كلها
…
جعل الجمال وسره في الضاد!؟
أهذا تخيل؟ أسفاسف؟ أجهالة؟ - العربية ليست بأكثر جمالا، وأعز مكانا، وأوفر غنى من اليونانية أو اللاتينية أو الفرنسية مثلا. ولكل لغة ميزتها الطبيعية. وكلنا نعلم أن العربية جمدت في مكانها، أربعة قرون، فلم تتحول عما كانت عليه. وليس لدينا من شك، ولولا قرآن تتلى آياته، صباح مساء، بين عرب وعجم، لذهبت اللغة الفصحى إلى سقر، وحلت مكانها اللغة العامية. ولولا تيسير المولى الرحيم بعض نوابغ أخذوا بناصرها، لظننا أن قد قضي عليها. ولذا تقدمت يسيرا. ولكنها لم تزل في سلم التقدم. فإذا لم نعمل لها، وجمدنا حيث نحن، ذهبت تعبهم سدى!
انقضى زمن السلف، ودالت دولتهم، وتركوا لنا تراثا: هو لغتهم!، هذه اللغة التي عرفنا كيف نبذ أهلها، يوم كان لا يزال لهم بقية سلطة. فنبغ منهم الأخطل والمعري والمتنبي وغيره. فنافسوا عرب الجاهلية في لغتهم، وأصابوا منها أكاليل المجد والفخار. وما درس ملكهم، وذهبت دولتهم، حتى جمدنا نحن لجمودهم. نعم. إن أكثر اللوم يقع على تلك
الجماعة. التي حلت مكانهم، حكومة بني عثمان، والتي وافقها أن تنزع من البلاد. التعليم والثقافة، ليتسع المجال في حكم بلاد رماها سوء الحظ والدهر بين براثنها فريسة باردة. وكم، وكم وضعت من العراقيل في سبيل تقدم الشعوب التي تحت إمرتها! فهؤلاء (التتار) بحكم الطبع الذي فيهم، وحب التملك والسلطة جاروا على البلاد الناطقة بالضاد جورا هائلا. فعفت آثار المدارس، واندرس التعليم، وسقط الشعب في هوة الجهل الفظيع. وأنى له أن ينهض، وعدوه الجاهل بالمرصاد يزرع بذور الفتنة، ويدس سم الجهل والتعصب. غير أن حكمة الله العادلة، ما لبث أن نفخت في الغرب الغيرة على هذا الشرق المسكين فهب بعض أبنائه، ولله درهم! واتخذوا سورية أول هدف لهم، لما يربطهم بها، من الذكريات الدينية، ونزلوا منها على الرحب والسعة، فنتج من ذلك إن تمكن السوريون من أن (لعبوا بدورهم التاريخي)، ويساعدوا الأمم الشرقية على الترقي،
واقتباس التمدن العربي. وعلى يد هؤلاء الفرنجة، انتعشت اللغة العربية اعتناقا، ذلك الانتعاش الذي لا يزال يغاديها. ونرى آثاره بادية إلى الآن. ولكن يا أسفاه! بعد هذه النفخة الغربية، لم يصلها من أبناء الشرق إلا هبات قليلة متقطعة، كأن البلاد عدمت أبناءها! وما أكثر ما نسمع الآن من جعجعة في الجرائد والمجلات بجمال اللغة العربية، وما تحويه من البدائع! فما أشبهنا بذلك المرء يلعب بالدنانير التي بين يديه، ولا يعلم سر استعمالها لفائدته، فإنك تجد بطون المهارق محشوة شدوا بغنى هذه اللغة، وما تضمه من مترادفات، ومتواردات واشتقاقات، ونفوذ القياس واطراده في اغلبها كأن هذه الشقشقة كافية أن تبعثها، وتنفخ فيها روحا جديدة! معاذ الحق! لقد ساء فألنا، وأردنا لها الموت من حيث توهمنا لها الحياة!
قلنا إننا ورثة هذه اللغة. ومن آل إليه أمر بالوراثة، تصرف فيه كيفما شاء وأنى أراد، فلم لا نتصرف فيها حسبما نريد، أو ليست اللغة ملكا مشاعا لنا؟ أم نحن ملكا لها! أكان العرب الذين أورثونا إياها، أرقى منا وأكثر تمدنا منا؟ لا! إذن ما الذي يمنعنا من فعل ما فعلوا - وليس هنالك من مانع جوهري - فنغير ما حسن لدينا تغييره، إذا بدا لنا فائدة تجني منه!
قد يخال القراء أننا ننعى على العربية، ونذمها، ونتهمها بالفقر، وما هي براء منه. بيد أن الأمر بعكس ذلك كل العكس. نحن لا نتقول عليها مطلقا. ولكننا نعلم حق العلم. إن لا حياة للغة ما لم يحاول أبناؤها التجديد فيها. فإذا وضعوا نصب أعينهم القديم وألهوه، فقل على
تلك اللغة ألف سلام! ولكننا نعلم أيضا أن العربية هي الآن على مفترق الطرق، ولا يمكنها أن تصبر كثيرا على زمر الزامرين المتقعرين، وليست في موقف يسمح لها بالانتظار والتمهل. إلى أن تدفعنا النخوة - والله وحده يعلم متى! - فنستعد لننفخ فيها روح التجدد ونضرم فيها هبة الحياة. فإذا - لا سمح الله - وجدنا أنفسنا عاجزين عن القيام بحاجاتها وتأهيلها بمقتضى ضروريات العصر، بالمفردات العلمية، فنحن احرياء بترك هذا التراث والبحث لنا عن لغة تستوفي كل الشروط ويمكنها أن تقوم بمطلبات العصر من أسهل وجه، فلماذا نقبع ونستذل فنرضى أن تكون لغتنا
العزيزة تحت مستوى اللغات الأخرى، وبعد إن كانت سابقة مقلدة، أصبحت لاحقة مقلدة! هاهو ذا تاغور شاعر الهند الأكبر، قد رفع مقام لغته وشأن أمته رفعا عاليا بين الغربيين، وسحرهم ببنات أفكاره. فترجمت تآليفه إلى كثير من اللغات الأجنبية، حتى إلى العربية، وأشتهر شهرة واسعة، وليس من متعلم في أوربة لم يقرأ منه شيئا، لو لم يسمع بصيته على الأقل. وهاهو ذا قد نال جائزة نوبل منذ سنوات عدة. فهل من أديب أو مؤلف في العربية عصري ترجمت مؤلفاه أو بعضها إلى لغة أوروبية واحدة؟ ولا نقول نال بها جائزة نوبل وإنما نود أن نعلم أنال شهرة فيها، ولو طفيفة! لا نسأل عن الجواب، فهو معلوم للجميع. . . وإذن من أولى باللوم وأحق بالتقريع؟ أهذا دليل على عقم العربية، أم على عقم ما تنتجه قرائح الكتبة عندنا؟ لا شك أن أمر اللوم يقع على الكتبة، فليس من يكد نفسه ليستخرج من أعماق روحه شيئا مستقلا عن القديم موسوما بطابعه الخاص، ممتازا عن غيره، ولم يحتذ فيه أسلوب قدماء كتاب العربية في التعابير والوصف وغيرهما، بل يشق له طريقا من جوفها فيخرج ما هو شاعر به، لا ما صاح به الثعالبي والأصبهاني وبديع الزمان والبحتري والحريري والجاحظ وسواهم من الأعلام. على أن من كتابنا الآن، من يسير على الطريقة الأوروبية الصميمة، حتى في التعابير، وهذا ما يضر بلغتنا، بغض النظر عن أن هذه في مواضع كثيرة أبعد عن أن توافق اللغة العدنانية. ونرى الأفضل اتخاذ الوسط بين طرق الإفرنج وتعابيرهم وطرقنا العربية وتعابيرها. وقد قيل (خير الأمور الوسط).
ليس في العربية عقم وليست هي دون باقي اللغات المعروفة. فإذا ما كتبنا يوما من الأيام، في العلوم التي أندفع تيارها من أوروبة علينا، ولم نجد لبعض المفردات والاصطلاحات،
والتعابير أوصافا لم تعرفها العرب، فلم لا نذهب إلى الاستعارة فنأخذ تلك الكلمة ونكيفها ونصقلها لتوافق العربية، أو نذهب بأن نجعل الاشتقاق فيها فياسياء، وأن نفتح باب التعريب على مصراعيه - ذلك الباب الذي سد في وجوهنا، كما سد باب الاجتهاد في الدين -، وبأن نفهم أن مفردات اللغة إنما تتقرر باستعمال العامة اللهم إلا مصطلحات العلوم والفنون فأنها تتقرر بوضع
الخاصة، واستعمالهم إياها، فيجب إذن أن ندخل في معاجمنا كل ما وقع فيه التفاهم بين العامة من الكلمات الأجنبية التي لا نجد ما يقابلها في الفصحى فنثبتها في المعاجم كما تكلمت بها العامة، أو نتخذها بعد شيء من الصقل والتحوير وإلا أصبحت لغتنا جامدة جمود عقولنا في الأمور الدينية والحقيقة التي لا مراء فيها، أن لغتنا لا تزال جامدة لم يصبها شيء من التجديد إلا النزر اليسير؛ ومما يضحك ويؤلم معا؛ إننا أصبحنا عبيداً للغتنا! ذلك شيء لم يسمع بمثله في الأساطير فكيف بالحقائق المرة؟!. . . أجل! أصبحنا عبيدا لأولئك العرب الذين كتبوا وحوروا في العربية ما شاءت إراداتهم وسولت لا للغتنا فقط!!!! ثم نأتي أمامهم ونقدم لهم بخور التكريم، فلا نخرج عن حدودنا ما كتبوا - ولا نغير من العربية ما نرى أن وقت إلقائه في اليم قد حان وكذلك التخلص من حمل عبئه - كأنهم من طينة غير طينتنا! أو جاز لهم ما لا يجوز لنا؟ أيجوز لهم أن يهدموا العربية ويتلفوها - إذا أرادوا - أما نحن فلا يجوز لنا ترميمها - إذا رأينا مهاوي التلف والتصدع تحتها فاستنقذناها؟! عجيب والله أن نرى هذا التقعر والتخاذل من جانبنا؛ وغريب أن ننقاد لأوامر ونواه طوتها الأحقاب. ومرت عليها الأجيال ونحن لها عبدة وعبدان. . .!!
خصت العربية بسلاسة وانسجام وغنى في الألفاظ. وإنما يعوزها الكثير من الاصطلاحات الفنية والعلمية والإدارية وغيرها لتعاصر غيرها فهي سهلة القياد لينة التكييف. . قلنا؛ إنها ليست فقيرة وليس فيها عقم البتة؛ إذا عرفنا كيف نديرها ونستنبط ما نحن في حاجة إليه، وإنما دواعي الكسل والجمود والتعصب الذميم، وما يطبل به من يريدون للشرق التأخر وحبوط العمل، تثبط عزائمنا وتميت هممنا، وتجعلنا لا نرى أبعد من أنوفنا! فإذا ما حاولنا هنيهة أن نرفع هذه الغشاوة قليلاً؛ إذ بهذه الغازات المخدرات تنزل ستارا كثيفا علينا فنعود إلى مضاجعنا ونحن نتثاءب ونهتف بغنى العربية وعصريتها؛ ونردد ما يقوله بعض أبناء الغرب عن كتاب العرب، فنشبه المتنبي بنيتشه. ونقرن ابن خلدون
بمكيافيل. نساوي
المعري بدانتي اليجيري الخ. . . وقد قرأت في صحيفة أجنبية مقالا لأحد علماء المشرقيات ينحي باللائمة على بعض المستشرقين الذين لا هم لهم سوى كيل المدح والثناء جزافا. لعلماء وشعراء العربية. فيرفعونهم إلى أسمى مكانة وأرفع منزلة. وذلك ليس حبا لأولئك الفطاحل. بل تبعا لأهواء سياسية. فهم يرجعون للشرق الخمود والجهالة. يعلمون أن مما يثبط همم الشرقي الثناء والفخر. فالشرقي بعكس الغربي إذا ما مدح همدت عزيمته، واعتاض من الماء بالسراب. فلا يعمل ولا يجد! هذا ملخص كلام هذا العالم الجليل - ولا يحضرني الآن أسمه - وأني أرى الحق في جانبه وقد أصاب كبد الحقيقة. فعسى أن لا نغتر إذا ما أطلعنا على بعض عقود ثناء صيغت في الغرب للعربية وإعلامها. وشر ما في الأمر أن هؤلاء الخدعة يستترون وراء أشرف رداء وأجمله فالتردي بلباس الاستشراق واتخاذه درءا تخفى وراءه مقاصدهم الخفية والسياسية دناءة ونذالة فمن المستشرقين الكرام خرجت نفحة العلم الأولى في الشرق - منذ مائة عام تقريبا - وهي تلك النفحة التي ملأ الآن شذا عطرها أرجاء بلادنا العزيزة. وهذي أثارها ظاهرة لكل ذي عينين. فهم قد أسدوا إلى اللغة العربية أجل خدمة. وهاهم أولاء كما كانوا يخدمونها للآن. فلغتنا مدينة لهم بما كشفوه ونبشوه من كنوزها الثمينة. ولولاهم لما وقعنا على شيء منها - وهؤلاء الذين اتخذوا من علم المشرقيات قترة استتروا فيها. يمدحون كل شيء قديم. وإن ثبت لهم عدم صحته للحياة الآن. ويتهمونه بكل جميل وحسن. في الهند والصين مثلا يمدحون البوذية والبرهمية والكنفوشيوسية. كي يظن أتباع هذه وتلك. إنهم أعلى من الأوروبيين بدينهم وأسمى بمعتقداتهم ولغتهم وآدابهم. هم يحاولون جهدهم ليحولوا بينهم وبين أن يروا تأثير التمدين المسيحي الذي أنقذ أوربة من الضلال وحضر شعوبها. يحاولون جهدهم أن يخفوا عنهم ما تفيض به من الاختراعات لئلا تنبهر عيونهم بذلك ويظهر لهم في أي ضلال هم. ففي الهند تعمل الآن المسز بزنت التي أفضت إلى أحط ما أخرجه العقل البشري، وأنتن ما ولده ذهن إنسان من الفلسفة، ونشرت مبدأ سافلا قذرا. زعمت عنه كل
حسن وخلاب. مبدأ الثيوصوفية ووجدت لها اتباعها - وما أكثر ما يجد الشيطان خدما! - وأمثالها الذين يدعون الاستشراق. في الهند يمدحون هذا المبدأ السافل. ويعظمونه ويظهرونه بمظهر الاعتقاد الأسمى. ويفضلونه على المسيحية. وانخداع الأتباع يعود إلى تعصبهم. وقلة
تبصرهم فيعتقدون ما طبل به أولئك الخدعة. ويرددون كالببغاء أقوالهم الخرقاء والجوفاء.
من أهم الذين تلاعبوا في الآداب العربية. المختلق الكذابة رينان. فهذا والمتأثرة: الدكتور غوستاف لبون وغيرهما. حاولوا في كتاباتهم غش الشرق وذر الرماد في عيون أبنائه. فتركوا صيتا حميدا لهم واختلقوا اختلاقات كثيرة ومما كتبوه عن العرب ليس فيه من الحقيقة والصواب إلا عشرة أجزاء من المائة!!! وأمام هذه الحقيقة لا يسعنا ونحن خلقاء أن لا نتناول أمثال كتابات هؤلاء. وخصوصا حيث يكثر سيل الثناء والمديح. إلا بالتمحيص فلعل بين الدسم سما نقيعا؟ ثم إيانا نجنح إلى الضلال والتعصب السام. فنتهم من يمحضونا النصح ويبينون لنا محامدنا ومثالبنا. بما هم براء منه. ولرب متهم بريء!
نرى أن تقدم اللغة الفصحى. وتقريب العامية منها. يرتكز على أمور أهمها أعمدة ثلاثة. هي: المدرسة - الشعراء والأدباء - المجمع العلمي - ونحن نبسط فيما يلي آراءنا فيها. وعسى أن تقع من الأدباء الكرام موقعا حسنا.
أولا: المدرسة
المدرسة هي الأساس الذي ترتكز عليه الآداب. بل هي مهبط الوحي. والقلب الذي يدفع دم العلم الجديد في أعضاء الشعب. فإذا أسيء التصرف فيها. وقفت الحركة وأتت بأقبح العلل وأفسد النتائج فمن هذا القبيل يجب على الحكومات أن توجه إليها أقصى انتباهها وعنايتها. فلا تلتفت إلى ما منه يمكنها زيادة دخلها. فهو أمر ثانوي. بل إلى المدرسة التي هي الأمر الأولي فمن وراء نشر العلوم وارتقاء الآداب يحصل تثقيف من ينتج للحكومة أدخلا حسنا (إيرادات حسنة). عناية السلطات في الشرق بالعلم قليلة. فما كان قبل لحرب لا يزال معمولا به إلى الآن. اللهم إلا بعض إصلاح يسير ومما يؤلم أن أنفذ سهم وأضره يصيب العربية وآدابها في الصميم. وليس - ويا للأسف! - من يسعى في تضميد هذا الجريح المثخن. فالطرق التي تدرس بها العربية عقيمة للغاية تجعل الذي يتعلمها كارها لها أشد الكره. وجميع الطلبة في المدارس يكرهون ساعة العربية ويحاولون جهدهم أن يتخلصوا منها. ومنهم من يدرس في أثنائها درسا آخر بالخفية عن المعلم طبعا - ولا يعير أقل انتباه إلقاء الأستاذ وتعليقه. وفضلا عن ذلك أن ما يعطى لهم كمنتخبات من الآداب العربية، لا يظهر منها إلا صحيفة سوداء قاتمة مشوهة تزيد كره المتعلم لهذه اللغة. فما تكاد أيام
دراسته تنتهي حتى يقذف بكتبه هذه إلى آتون نار! ناظرا إليها نظر الصحيح إلى الأجرب، وما تكاد تحدثه عنها حتى يبتعد عنك كأن مجرد ذكرها يخدش أذنه وسبب هذا أن من يؤلف هذه الكتب الدراسية عندنا، ليس له أقل إلمام بعلم التربية - وعلم النفسيات أو لا يريد إعنات نفسه أقل عناء ومشقة بينما نرى كل أمثالها في الغرب يعلمها أساطين هذين العلمين، ولا يقبل كتاب للدراسة ما لم يكن مستوفيا جميع الشروط.
لا أزال أذكر كيف كنت أنا وكل الطلبة نكره الدروس النحوية، ونشعر بسأم في ساعة درسها. وما كنا لنطيق درس تلك الجداول الكثيرة التعقد والتشويش، القليلة الجدوى. وما يوافي الامتحان. وينقضي حتى يسرع كل منا إلى كتبه العربية فيستل منها كتب النحو والصرف وغيرها، فيطعمها
النار، وبئس القرار!
كتبنا الأجرومية ما هي إلا حشو في حشو. بينما نرى أمثالها الأوربية منسقة أتم تنسيق، ومبوبة أبدع تبويب ومرتبة من الأسهل إلى السهل ومن الأصعب إلى الصعب أحسن ترتيب فليس ثم حشو وعجمة كلام دون فائدة وإيجاز بحيث يجب التوسع وبالعكس!. . . . تناول أي كتاب شئت من كتب اللغة الأفرنسية لهذا الفرع للدراسة الثانوية. تجده يضم أصول هذه اللغة وأحكامها بل يتعداها إلى ترجمة حياة كبار أدبائها وشعرائها وفلاسفتها وما كتبوه وألفوه وقد يضم خلاصة تاريخ اللغات الأخرى كاليونانية واللاتينية والألمانية وغيرها مع خلاصة ترجمة حياة لعلماء كل لغة من تلك اللغات وفلاسفتها وشعرائها وأشهر كتبهم. ثم يشرح فيه تاريخ الأفرنسية واشتقاقها من اللاتينية أمها وتطورها فرقيها. هذا الكتاب هو عبارة عن معلمة (دائرة معارف) صغيرة عن اللغات وتطورها ومجموعة آدابها وبلاغتها وعلومها في حين أن أهم كتاب أجرومية ظهر في العربية لا تجد فيه غير أصول هذه اللغة وأحكامها وما قال سيبويه وأبو عبيدة. وابن الإعرابي. وغيرهم من أئمة النحو مكدسة تكديسا دون روية ولا تفهم. وليس من خلاصة نرى فيها ترجمة أو حياة لأحد أولئك الأعلام إلا ما ندر أو كان هفوة قلم. ولا شيء هناك يستفاد من نشأة العربية وتطورها وآدابها. فشتان ما كتبهم وكتبنا!. .
قلنا إن ما يعطى في المدارس من آداب العرب أو تاريخها ليس إلا صحيفة سوداء خرقاء بعيدة عن أن تدعى بآداب أو تاريخ وهي عبارة عن شتات (منتخبات) جمعت من هنا
وهناك حسبما شاءت المصادفة وضم بعضها إلى بعض دون تعقل وتبصر! وأكثر هذه المنتخبات ليست من طرف العربية ولا من غرر تآليفها - كيف نطلب إذن أن نجد بين المتخرجين في المدارس الأجنبية وسواها من يعشق العربية؟ بل من يشعر بأقل ميل إليها وهذه حالة كتبها وصفتها؟ إنا نرى الحق في جانب من يعشق لغة أجنبية ويهوى آدابها فأنها أجدر من العربية بحبه لما تبعثه في نفسه من الاستهواء بها وما تحويه كتبها المرسية من صورة جذابة لآدابها وتاريخها الرائع! كل ما بين يديه يمتاز عما في
العربية بوجوه عديدة!
إن تاريخ آداب العربية لم يظهر إلى الآن بالمعنى المعروف به في الغرب أي ولا سيما ما يوضع منه بين أيدي طلبة المدارس. هاك كتاب تاريخ آداب اللغة الأفرنسية للأبيل كلفه المعمول به في أكثر المدارس الثانوية. وقلبه هنية. فإنه يفيد الطلبة فضلا عن إفادته أي امرئ كان. فهو قد قسم كتابه على طريقة عصرية ابتكرها هو وجعله على جزءين أحدهما تاريخ للآداب الفرنسية منذ أقدم عصورها قبيل شارلمان إلى عصرنا هذا. والثاني حوى منتخبات جليلة تأييدا لكل فصل من فصول الجزء الأول وأحكامه. وفي نهاية كل ترجمة علم من أعلام الفرنسيين وقد وضع قائمة للمستندات التي يعتمد عليها ليقرأها المطالع ويرجع إليها إن شاء أن يتوسع أو يتخصص في هذا الموضوع. هذا الكتاب تحفة من تحف العلم والطرافة، فمتى تجد في العربية شبيها له؟!
خذ أيضاً قاموس لاروس تجد قد ضرب في كل فن بسهم جامعا لأشتات الآداب والتاريخ والعلوم جميعها حديثها وقديمها ولآخر الاختراعات، يضم بين دفتيه أيضا طائفة من الخرائط الجغرافية الحديثة ومعلمة (دائرة معارف) صغيرة مفيدة. ولا تضع يدك عليه وتقلبه في أي موضوع تطرقه وتود أن تتفهم عنه شيئا حتى تجده تحت نظرك موضحا جليا - ولكن باختصار - فمثال هذا المعجم معدوم في العربية. وخلاصة ما عندنا منها - من معاجم مدرسية أو غيرها - لا تتعدى أن تكون جامعة لكثير من كلمات غير مستعملة خشنة اللفظ ثقيلة على السمع صعبة المخرج وقعت في صفحات عديدة لتأخر عقلية جامعيها ومنسقيها وتوهمهم أن الطلبة أو عامة الناس في احتياج إليها. بينما هي خالية من كثير من كلمات مستعملة جدا (عربية قحة خالصة استعملها العرب ووردت في كلام فصحاء العرب الإسلاميين. . . وأخرى عربية المادة هي كلمات اصطلاحية فنية أو
إدارية. وأخرى عربية المادة ولدها المتأخرون الخ. . . . . . فلو استغنوا عن تلك الكلمات الحوشية. واستبدلوا هذه بها لكفوا الطلبة
والناس مؤونة من التعب عظيمة!
معاجم العربية لا تتطرق أبدا إلى غير الكلمات العربية التي نشرها قدماء اللغويين في معاجمهم وتعف عن إدخال كلمات لم يذكرها هؤلاء إلا نادرا. ثم هي لا تحوي شيئاً من أفذاذ اللغة وفلاسفتها وتأبى عليهم بل تضن على من كان السبب في رقيها ببضع وريقات. مع أنهم من الأهمية بمكان عظيم. وعليه نجد نواقص المعاجم في العربية عظيمة وكثيرة جداً تحتاج إلى دروس طويل واف وعسى أن يعنى العلامة البحاثة الأب أنستاس ماري الكرملي بنشر ما يبرد الغليل منها ويفيد الطالب والباحث معا فهو العليم الخبير بعلل وأدواء اللغة الكريمة ومعاجمها.
بسطنا أن النقصان عظيم في الكتب المدرسية لا يتمشى والروح العصر الآن ولا سيما بعد أن صار من الضرورة في شرقنا العزيز تعليم اللغات الأجنبية في المدارس. ومن تدرب على تلك الطريقة من التعليم أو ذاق حلاوتها ولو قليلا منها صعب عليه أن يعود إلى طرق بالية ومناهج عقيمة مملة جافة المذاق.
سر تفوق الإفرنج علينا في هذا الباب لا يعود إلا إلى عدم نشرهم كتبا للتدريس قبيل الدرس العميق. ثم هم يشيدونها على أساس متين من ذلك أولاً: علم التربية ثانياً: علم النفسيات أما نحن فنأبى أن نمارس طرقهم ونعف عنها لجمودنا وكسلنا وتعلقنا بما أقره قوم لا يعقلون! انقرضوا مع أجيالهم ولم تبق فائدة لأساليبهم في هذا العهد فإن كانوا قد أفادوا في عصرهم فهم لا يفيدوننا اليوم. المدارس هي الروح التي تبعث في التلميذ العلوم وهي الأساس الذي نشيد عليه رقينا وتقدمنا. فإذا أسأنا وضع الأساس فقد استحق البناء الهدم! أو ليس القصير الذي يشيد على الرمل تسقطه الزوابع والأرياح؟ هكذا نحن لا نعلم العربية على أساس متين فإذا ما خرج إلى الميدان من أتقنها وصادمته التجارب وجد أن لغته تحتاج إلى جهد كثير فيدب دبيب الكره إلى قلبه فيقلعها منه ويتحول إلى اللغة الأجنبية التي يميل إليها ويصبو قلبه إلى اجتلاء محاسنها فيذهب جهد الأساتذة هباء باطلاً!!
هذه أهم ما في العربية من نقائص وعوج وهي أساس الجميع فلنتحول إلى ما يليها
(الباقي للتالي)
ميشيل سليم كميد