الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدب ومعناها
1 -
ورودها في العاديات باسم آدم بي أو دنون كي
لقد بحثت بحثا دقيقا في المصنفات الشمرية والبابلية والآشورية لكبار علماء الآثار في هذا العصر عن معنى هذه المفردة وبعد تنقيبات وتحقيقات استغرقت عدة ساعات ظفرت بضالتي المنشودة وعثرت على ما كنت أبحث عنه في صفحات تلك الكتب وعليه أذهب إلى أن معنى تلك الكلمة (مدينة آدم) أي موطن الإنسان الأول وهي لفظة شمرية النجار قديمة العهد جدا كانت تلفظ أولا - أدبه ثم صحفها الشمريون وأخذوا ينطقون بها على توالي الأيام بقولهم: آدم لأن الباء المثلثة النقاط أي تتحول في لهجتهم إلى ميم إذا أفادت معنى إنسان وذلك استنادا إلى ما جاء في نص عادية اقتبسها فوسي فأدرجها في القاموس الشمري الأكدي.
نشأت الكتابة أولا تصويرية أي أنه كان يعبر عن لفظة رجل بصورة رجل وعن لفظة شمس بصورة شمس وعن لفظة سفينة بصورة سفينة وهكذا كان الأقدمون يعبرون عن كل الصور والمناظر الطبيعية ثم صارت الكتابة هجائية أي مقطعية أي أنه كان يعبر عن الكلمة المعنوية بصورة ما تدل عليها وأخيرا أمست أبجدية أي أن اللفظة تتألف من أحرف وقد تطورت الكتابة في عصرنا هذا فباتت اختزالية أي تكتب بإشارات اصطلحوا عليها لتعبر عن كلمات معينة بمعانيها وأرى أن أحسن لفظة عربية تؤدي هذا المعنى (السيماء) وبعد هذا البيان الوجيز أقول:
كانت كتابة الأسماء والمفردات البابلية القديمة تتألف من حروف صونية تطابق معنى التصاوير الرمزية ومن جملة الحروف العديدة التي كانت لها معنى صوتي كلمة (مو) التي خصصت تشير إلى إنسان حينما اقتضت كتابة الإنسان
الأول وهذا ما صرح به الأستاذ سايس المعدود اليوم من أساطين علماء الآثار.
وجد الدكتور ثورو دنجين - العالم الأثري الفرنسي الشهير لفظة (ادمو) مستعملة (علما) في العاديات المستخرجة من أنقاض تلوء. وذلك في عصر سرجون الأول ملك أكد وقد اقتبسها الساميون من آدم الشمرية المصحفة عن أدب التي تفيد - معنى الحيوان ثم
خصصت بالإنسان - وأطلقت على كل حيوان ناطق ولإثبات ما نحن بصدده هاك ما ورد في قصة الخلق المسطورة في لغتين قديمتين مختلفتين فقد جاء في السطر التاسع منها ما يلي: أورو مو ديم آدم نو مون يا. ومعنى ذلك: (لم تكن قد بنيت مدينة ولم يكن قد خلق إنسان ليقف منتصبا) ومن أراد أن يقف بصورة مطولة على كيفية قراءة أدب وانتقالها إلى آدم فليراجع كتاب علم الآثار القديمة في الكتابات المسمارية الخط للأستاذ سايس.
وردت (أدب) في العاديات بصورة آدم بي فقد جاء في درج الأرقام الذي نشره الأب الدكتور شيل ما نصه (وقد أرخ ذلك في السنة التي قهر الملك رم انم - ديار آدم بي وسكانها) فأرى أن آدم بي هذه هي المدينة التي اكتشفت معالمها البعثة الأميركية عام 1903 و1904 وقد تسمت مدن عديدة في فلسطين باسم أدم وأدمة وأدمي فهذه الأسماء مصحفة في الأصل عن أدب وأدبة وأدبي التي تعني الإنسان في الشمرية ومعنى أحمر أو تراب في السامية ومنها العبرية والآشورية والعربية ومن أراد التوسع في هذا الباب فيلراجع معاجم الكتب المقدسة لولتر باتشز ووليم سميث وجورج بوست فيجد فيها أنباء عن مواقع هذه المدن وسكانها الأولين وما آلت إليه اليوم.
وقف الأثريون أيضا على مدينة أدب في تمثال يعد اليوم أقدم أثر في العالم وهو قائم الآن في متحفه الآستانة وقد نقش عليه العبارة التالية: أيسار لو كال دا أو دو لو كال أو رر نون كي ومعنى ذلك: (هيكل الملك داود ملك أور نون
كي وقد ظهرت هذه المدينة في جدول أسماء مدن وجدت منقوشة على عادية في نينوى وفيها تعليق يستفاد منه لفظ (أدب) فاستدل علماء الآثار على أن مدينة أور نون كي كانت تعرف عند قدماء الشمريين بأدب ومما زاد في تحقيق وجود هذه المدينة عثور المنقبين على عادية دون فيها أن الملك حمرب (حموربي) أعاد بناء مدينة أور نون كي وهيكلها (ايماخ) وهي مدينة أدب القديمة وهيكلها أيسار.
2 -
القصر الواقع في الرابية الأولى
استمر النقابون بمشارفة الدكتور بانكس ينبشون موقع القصر في الرابية الأولى مدة ثلاثة أسابيع وهم مجدون في إزالة النفايات والتراب من أرضه وقد استطاعوا تنظيف 26 غرفة وأمعنوا فيها من مترين ونصف إلى أربعة أمتار وكانت نهاية الحفر في 14 ك 2 عام
1904 وقد تسنى بعد ذلك للدكتور بانكس أخذ رسم القصر وغرفه وصحنه وإرسال بنسخه منه إلى جامعة شيكاغو مع بيان يتضمن وصف القصر فإليك أيها المطالع بعض ما جاء في ذلك البيان:
(كان معظم المباني التي عثر عليها المنقبون تضارع الأبنية الشرقية القديمة وعليه كانت زوايا القصر متجهة تقريبا نحو الخوافق وعلى هذه الصورة كان الظل الظليل في فصل الحر يقع مباشرة على طرف من البناء ليقيه حرارة الشمس المحرقة هذا فضلا عن أن غرف القصر كانت قائمة في جهة يسهل وصول هواء الشمال الغربي إليها ووجه البناء يقابل الجنوب الشرقي ويمتد نحو 33 مترا على طول القناة ولم يعثر النقابون على أثر مبان هناك. وتقدر مسافة جهة الجنوب الغربي بثمانية عشر مترا ونصف متر وعلى طرفها شارع لا يتجاوز عرضه مترا وقد بقي شاخصا طرف من الجدار المقابل للشارع ولم يهتد أحد إلى الغاية من وجوده هناك ولا لأي غرض كان قائما. وإلى الشمال الشرقي من القصر كان الفناء وفي مؤخره على طول الجهة الواقعة إلى الشمال الغربي بيوت صغيرة وجدرانها محادة القصر.
كان أساس القصر مشيدا باللبن العادي الشكل والحجم بيد أن مقدمته والجدران المقابلة لقناة وللشارع كانت مبنية بالآجر أما لتلقي القصر من العطب وأما لتكون بمثابة زخرفة للعمارة. وقد أزال المنقبون كل آجرة من موضعها وفحصوها فحصا دقيقا غير أنهم لم يقفوا على كتابة - ليستلوا بهم على قدم البناء - وكان ثخن الجدار متر و40 سنتيمترا وذلك في صدر العمارة التي يبلغ طولها عشرين مترا ونصف متر أو نحو ثلثي طولها بينما سائر الجدران ما عدا واحدا أو أثنين منها كان ثخنها مترا وفي رأس كل جدار كانت دعامة سائخة في الأرض نحو خمسة عشر سنتيمترا. هذا إذ لم يكن قائم بازاء الجدار جدار آخر.
لقد وجد الآجر في مقادير جسيمة بين الأنقاض والردم في الغرف بيد أنه كان يكون أوفر عددا لو كان أستعمل بكثرة في البناء الأعلى. إن اللبن المشيد في الجدر القائمة في مؤخر القصر كانت سالمة من العطب على طول عهدها ويظهر أن الآجر اتخذ في وجه الجدارين الظاهرين في الخارج فقط أما ارتفاع الجدران وصورة سقوف وسطوح الغرف فلا نعرف عنها إلا الشيء النزر وذلك لعدم وقوفنا عليها وهي قائمة وعليه نترك الخوض فيها الآن
إلى أجل آخر حينما نقف على عمارة ما في حال الكمال.
إذا أنعم الإنسان نظره في هيئة بناء الدور الحديثة في الشرق يرى أول وهلة حلا لمعضلة الغرف العديدة في القصر وتتبادر أذهانه إلى الغرض من بنائها بهذه الصورة لأن منازل العراقيين منذ الأزمنة القديمة كانت على طراز يكاد يطابق هيئة بناء هذا العصر فإن أخذنا مباني مدينة بغداد مثلا لذلك نراها لا تختلف اختلافا يذكر عن الدور في عصر الشمريين البابليين ففي وسط العمارة يمتد الفناء وعلى جوانبه ترى الغرف منبثة يلاصق طرفا من الفناء جدار يفصل صحن الدار الثانية عن الأولى وتلك الدار كانت تتخذ لسكنى النساء وحجبهن عن الأنظار وتسمى في أيامنا هذه بالحرم. غير أننا لا نوافق الدكتور بانكس في رأيه هذا لأن البابليات كن مطلقات الحرية ولا يختلفن عن الرجال بشيء من ذلك ولهذا نذهب إلى أن الدار الثانية المجاورة للأولى كانت منزلا للخدام يفصلها جدار حتى لا يقفوا
على ما يحدث في القصر من أحوال قاطنيه.
إن القصر الذي كشف معالمه النقابة الأميركي يمثل رسم اختطاط بابلي بأتم وجه فإن طول الغرفة التاسعة كان سبعة أمتار في عرض 3 أمتار و53 سنتيمترا وهذه الفسحة كانت صحن دار كبيرة فيها ثماني غرف بأبوابها وإحدى تلك الغرف الواقعة في صدر الفناء كانت تقوم مقام دهليز (مجاز) لكل من الغرفتين التاسعة والعاشرة وهي أيضا كمنفذ وممر إلى الشارع. هذا ومن المحتمل أن الغرفة العاشرة كانت باحة ثانية يفصلها عن الغرفة التاسعة حائط ثخين وفيه منافذ أبواب غرف عديدة ومن هنا نستدل على أن كل الجهة الجنوبية الغربية من القصر كانت متخذة غرفا لقضاء مصالح الرجال ويصح أن نطلق عليها الديوان أو قاعة الاستقبال (السلاملك) وأما الجهة الشرقية فكانت خاصة بالنساء وهي تعرف بالحرم اليوم وسائر الغرف المرقمة بعدد عشرين إلى ستة وعشرين تمثل المطبخ والإسطبل ومساكن الخدام ولا يزال أثر الغرفة السادسة والعشرين ظاهرا للعين وهي بمثابة منفذ مؤد إلى الساحة الخارجية وبالقرب من ركنها الشمالي كانت قاعدة تنور يشابه كل المشابهة تنانير سكان مدن العراق في هذا العصر.
إن الباحث اليوم في غرف القصر لا يستطيع أن يبت رأيا في صورة استعمال كل منها لأن معظمها كان خاليا من الأثاث ولعل يدا أثيمة سرقت محتوياتها وتركت في بعضها قليلا
من الأوعية والقدور والصحون الخزفية وعددا من داح ودمى بصور حيوانات، وفي الغرفتين التاسعة والعاشرة لا أثر للألواح الحجرية ولا لصفائح الآجر أما الغرف المرقمة بعدد 4 و18 و24 ففيها مجار عمودية من الشكل العادي تؤدي إلى الصحراء وهذه الغرف كانت متخذة كحمامات غير أن الغرفة المرقمة بعدد 24 كانت كبيرة ولها هيئة خاصة ويظهر أنها كانت مطبخ القصر وأعظم عدد من صفائح الآجر وجد في الغرفة الثالثة المتخذة دهليزا للدار أما الغرفة الحادية عشرة فكانت مبلطة باللبن وفي وسطها دكة تشبه المقعد وقاعدتها مستوية على أساس الجدار فهذه الغرفة المنخفضة المدخل نصفها تحت الأرض تشبه (السرداب) كما يشاهد اليوم ما يماثلها في مدينة بغداد حيث السكان يقيمون في الصيف ويقضون ساعات الحميم الشديدة في الوغرة وقد ظهرت
دكة أخرى في الغرفة الثالثة عشرة وهي عبارة عن سرداب آخر مشيد على طرز دور العراق والشيء الذي لابد من الإشارة إليه هو أن معظم الغرف التي نحن بصددها صغيرة جدا ومنها ما يمثل غرف دور الشرق الحديثة العهد لأن الشرقي يفضل هذه المخادع على غيرها لتقيه الكوارث الطبيعية من أعاصير وزوابع وأمطار ولفحات الشمس المحرقة.
ولاحظ النقابون أن الغرفة الأولى والسابعة والثامنة وغيرها لا تسع أكثر من فراش واحد ويحتمل أن هذه المخادع كانت غرفا للنوم وهي تختلف كل الاختلاف عن حجر المنام في هذا العصر وربما كانت هذه الغرف أماكن لتوقيف المجرمين.
إن الآثار التي وجدت في القصر كانت قليلة جدا بالنسبة إلى عدد حجره فكان ما عثر عليه لم يتجاوز الثلثمائة عادية ولم تكن جميعها سالمة ولا صحيحة بل منها المثلوم والمكسر ومعظمها ملوث بالأوساخ وقد وجدت هذه ملقاة بين النفايات كأنها من سقط المتاع ولم يكن لها قيمة ما وكانت منزلتها كمنزلة الرسائل العادية في أيامنا هذه فإننا بعد أن نقرأ ما فيها نحجبها ونلقيها في سلة المهملات وقد شوهد للغرفة الثالثة خاصية لم نر مثلها في غيرها فإن الحفارين بقدر ما كانوا يتوغلون في التنقيب والبحث في طيات أرضها كانوا يعثرون على عاديات وقد أفضى بهم الحفر إلى عمق أربعة أمتار حيث لم يعثروا على شيء من العاديات وصفائح الآجر وأغلبها وجد محطما ومؤلفا من قطع عديدة وإحداها كشفت بصورة شظايا مبعثرة فجمعت معا فتقوم منها عادية بكتابة منقوشة على وجهيها بشكل دقيق سنيع
وكان طولها قبل أن حطمت لا يقل عن 40 سنتيمترا.
إن الكتابة التي وجدت على صفائح الآجر لم تكن بقدم الكتابة التي اكتشفت في الهيكل المنقوشة على شذرات الذهب وعلى شظايا الإناء فإن تاريخها لم يكن معلوما لأنه لم يدون فيها سوى اليوم والشهر أما السنة فلم تذكر فيها وعليه أن نص الكتابة وصورة الصفائح تماثل نصوص وصور صفائح الآجر في عهد حمرب ملك بابل وذلك قبل الميلاد بأربعة وعشرين قرنا وقد ظهر من بعض تلك العاديات أن القصر كان ملك حاكم عظيم أو أحد نبلاء البلاط
ومن المرجح أنه كان أحد رجال الأسرة المالكة فخلف لأبناء القرن العشرين رسائله ولعب أولاده الصلصالية وأثاث منزله الخزفي من قدور وصحون وبراني (جمع برنية) ونحوها وبعض آلهته المنزلية التي كانت تقوم حسب اعتقاد الأقدمين لطرد الأرواح الشريرة والدفاع عن رب الأسرة في النوائب والملمات.
استدل المنقبون في تنقيباتهم على أن مشيد ذلك القصر لم يسكنه وحده بل سبقه أناس كثيرون تعاقبوا في الاستيلاء عليه والسكنى فيه لأن النقابين وجدوا أسسا متراكبة وكل منها يمثل قصرا قائما على أساس خاص من الآجر غير المشوي وذلك على عمق أربعة أمتار ولم يعثر الحفارون على عاديات في طيات الأرض وخلاصة القول أنهم كشفوا أساسا فوق أساس وقصرا مشيدا على قصر آخر وبناية قائمة على متن عمارة أخرى بيد أنهم لم يعثروا على عاديات سوى ما في الطبقات العالية من الأرض.
بحث النقابون ومن معهم من الأثريين في طبقات أرض القصر بحثا مدققا ونقبوا تنقيبا نعما باذلين أقصى جهدهم لعلهم يعثرون على عمد وأساطين منقوش عليها كتابات أثرية تنطق بتاريخ العصور القديمة غير أن أبحاثهم ذهبت إدراج الرياح ولم يفوزوا بطائل وربما تكشف معاول النقابين في المستقبل النقاب وتزيل الغموض عن أمور شتى تتعلق بأنباء هذا القصر الذي لم يدون المؤرخون عنه سوى نتف لا تشفي غليل الباحثين المدققين في عصر يتوق أبناؤه الوقوف على معالم المدنية السالفة للإطلاع على تاريخ الأمم والشعوب الحديثة العهد بنا.
هذا والقرون التالية ستنير الأذهان بمكشوفاتها
3 -
المقبرة
بعد أن انتهى النقابون من عملهم في القصر الواقع في الرابية الأولى ونقبوا آخر غرفة فيه تفرقوا في جميع أطراف الخرائب وكانت الغاية من ذلك العثور على بقعة آهلة بالآثار والعاديات لا تكلف الباحث مشقة عظيمة ولا وقتا طويلا هذا فضلا عن أن امتياز التنقيب في إطلال الدوارس كان مهددا دائما بثورات البدو وبإشاعات ملفقة تلصق برعايا الأجانب فتعرقل مساعيهم وتعطل مشاريعهم بأقل من لمح البصر ولذا رأى رئيس النقابين أن يفرق رجاله بإشراف نظارهم
بين الأنقاض فمنهم من وكل إليه الحفر في الهيكل وإزالة النفايات عن أطراف البرج القائم إلى الجنوب الغربي وقد تكللت النتيجة بالنجاح إذ وجد الفعلة عددا من الآجر مكتوبا عليه اسم دنجي وكشفوا قناة مبلطة بالآجر حديثة الشكل والعهد ودقر باب مصنوع من القار وهو مزلاج قديم ومن الفعلة من نيط بهم التنقيب في الرابية الثالثة الواطئة ولم يتوغلوا في النبش ولا في البحث حتى عثروا بالقرب من الزاوية الغربية من تلك الخرائب على جدران عريضة تحيط بفسحة واسعة وفي وسطها دكة مربعة مشيدة بالآجر وهي تمثل أرض دار مهدمة ووجد فيها المنقبون صفحة آجرة صغيرة مسطورا فيها كتابة قديمة جدا تختلف حروفها عن غيرها من الكتابات الأثرية.
وقد فوض إلى اثنين من النقابين الحفر في الرابية الثانية المنخفضة الملاصقة للقصر فعثر أحدهما - وهو البناء الذي كان يبحث عن آجر - على سطح قناة وأنقاض قبر فأدى ذلك إلى اكتشاف مقبرة ونجاحهما هذا أوجب أن يلتف حولهما كل النقابين ونظارهم ويشمروا عن ساعد الجد ويحفروا بكل حماسة ونشاط وقد كشفوا القبر الأول فألفوه كومة من الأنقاض ولم يستفيدوا من محتوياته شيئا يذكر بيد أن القبر الثاني كان بصورة صحيحة يحيط به جدار مبني باللبن وكان ذلك المدفن دارا صغيرة طولها متران وعرضها أقل من متر وارتفاعها أعلى من متر بقليل وكانت جدران المدفن قائمة ويعلوها سطح ذو قمة دقيقة وبناؤه مقبب ولما فتح القبر من أحد جوانبه سطعت فيه نور الشمس فأنارت ظلمته بعد طول احتجابها عنه ولم يكن مملوءا بالتراب على ما تتبادر إليه أفكار القارئ لأن جدرانه العريضة وسقفه المعقود بالآجر منعت دخول الماء وسقوط التراب وتراكم الأوساخ فيه ولو مرت على بنائه عصور عديدة وقد انبعثت منه رائحة كريهة جدا ليست من نتن الجثة المطمورة فيه بل من فساد الهواء وتجمع الغازات السامة منذ بضعة آلاف من السنين.
كانت عظام الجسم قد تلاشت بأسرها ولم يتبين منها شيء سوى طبقة رقيقة جدا من ترابها وقطعة سن منخورة لم يبق منها إلا ظاهرها أي قشرتها
الخارجية حتى أن موضع دفن الجثة لم يتعين لدثور رفاتها وقد وجد بالغرب من حائط المدفن سبع جرار صلصالية من أشكال وحجوم مختلفة واثنتان منها كانتا مختومتين بغطائين أما الباقية فكانت مفتوحة وقد تحولت محتوياتها إلى طبقة من مادة بلورية في قعر الجرار لا يعرف على التحقيق ماهيتها وكانت بعض الجرار صحيحة وبعضها محطمة ولم يهتد المنقبون إلى سبب تحطمها لأن المدفن كان محكم البناء ولم يسقط منه آجرة واحدة ولعل الشورج أثر على طول الزمن في الخزف فحطمه.
وقد قيس المدفن من الداخل فوجد طوله مترا ونصف متر وعرضه سبعين سنتيمترا وعلوه ثمانين واكتشف فيه خاتمان وقلادة كبيرة من النحاس وخزامة وخمس وخمسون خرزة من حجر العقيق مصقولة وقد استدل المنقبون على أن هذا القبر مدفون فيه جثة امرأة لوجود هذه الحلي والأواني الخزفية فيه لأنه من عادة النساء أن يتخذن هذه الزخارف زينة لهن هذا وقبور الرجال تختلف اختلافا بوجود خواتم أسطوانية وقد اعتنى بمدفن هذه المرأة اعتناء عظيما أما لحسنها الفائق حسن بنات عصرها وقطرها وأما لسمو منزلتها في عالم الكهانة والنسل ومما يؤسف عليه أن النقاب الأميركي لم يتسن له تصوير ذلك المدفن من الداخل إذ سقطت جدرانه في اليوم التالي على أثر دخول نور الشمس فتحولت ترابا ولم يعثر النقابون بعد ذلك على مدفن سالم من العطب.
إن الرابية التي وجدت فيها القبور كانت ضيقة جدا وقد امتدت على طول ضفة القناة القديمة وظن المنقبون في بادئ الأمر أن هذا الموضع كان مدفن المدينة الكبير بيد أنه ظهر أخيرا أن موقع المقبرة كان في الطرف الأعلى من تلك الرابية وقد بحث النقابون في أعلى الرابية وحفروا فيه أخدودا فعثروا على سبعة قبور كان يحيط بخمسة منها جدار وقد حفظ من قاعدته نحو سبعين سنتيمترا سالما وإلى الجهة الشرقية من المقبرة وجد رصيف مشيد بالآجر يقوم مقام سد لمنع اندفاع الأمواج وإلى الطرف الجنوبي كان مجرى سرب مبني بالآجر أيضا.
كانت مدينة الموتى هذه منقسمة إلى قسمين بجدار منخفض وأرضها مفروشة بالطين. أما
قبورها فكانت بهيئة بيوت صغيرة وكان القبر الأول غير متهدم والقبر
الثاني كان ضريح امرأة والقبر الثالث كان مدفن رجل لأنه وجد فيه خاتمان أسطوانيان من حجر أبيض وجرة كبيرة فوجود خاتمين في قبر واحد يدل على أن رجلين دفنا في هذه الحفرة. أما القبر الرابع فكان مدفونا فيه رجل ولم يبق من مضامينه سوى إناء كبير وقد وجد ضمن القبر الخامس دملج (سوار) صغير جدا من النحاس وشظايا من آنية خزفية. وهذه العروض تدل على أن المقبور كان طفلا. وقد دفن في القبر السادس رجل ومن بقايا آثاره خاتم أسطواني ووعاء. أما القبر السابع فكان فارغا ولعل يدا أثيمة سرقت ما فيه من الكنوز وظهر من التنقيبات أن تلك المقبرة كبيرة جدا غير أن المياه جرفتها وأزالت معظم القبور - وبان للحفارين أنه كان لذلك المدفن سقف يجلله وقد انهار حينما سقطت الجدران التي كانت تدعمه.
لا تختلف قبور البابليين القدماء كثيرا عن قبور العراقيين الحاليين فإن هيئتها تكاد تكون متشابهة من حيث البناء فكانت تلولا مرتفعة عن سطح الأرض وفي الأزمنة الغابرة كانت توضع الجثة تحت مسنم يشيد فوقها وأما في يومنا هذا فتوضع الجثة في حفرة ويهال التراب عليها ثم يقام فوقها كومة من التراب وفي صدرها قطعة من رخام أو حجر. هذا ولا يزال القوم في بغداد وغيرها من المدن يضعون الجثة في قبر معقود بالآجر والجص وذلك إذا كان المتوفى غنيا أو عزيزا لدى أهله أما الفقراء فيوارون الجثة بإلقاء التراب عليها.
إن المقبرة التي نحن بصددها لا يعرف زمن تشييدها على التحقيق فإن الختوم الأسطوانية كلها مصنوعة من حجر أبيض رخو بصورة خير متقنة ولا أثر للكتابة عليها غير أن شكلها المقعر قليلا يشير إلى عصر بابلي قديم جدا. هذا فضلا عن أن الجثث قد تلاشت بأسرها ما خلا قليلا من الأضراس المنخورة. أما الخزف فشكله يدل على كل العصور التي مرت في تاريخ بابل.
وجد النقابون في الجهة الشرقية من المقبرة كسرا من صفائح الآجر المكتوبة وقد دلت تلك الكتابة على عصر حمرب وأهل مملكته ولعلهم آخر من سكن مدينة أدب ودفن فيها وفي قعر قناة هذه البقعة اكتشف المنقبون بين أوان
وآخر جدار دار وخابية وصفحة آجر وأنفس ما عثروا عليه هناك كان إناء صغيرا من الخزف المزين بلون بهي وكان ذلك الإناء مدفونا
تحت سطح الأرض بيد أن معاول النقابين حطمته كسرا عديدة ولما لوئمت أجزاؤه وعاد إلى شكله الأول كان ارتفاعه تسعة سنتيمترات وقطره ثمانية أما لونه فسنجابي وتحيط به بضعة خطوط حمر وصورة حيوان أبيض في صدر الإناء وفي الفسحة الواقعة بين الخطوط الحمر وصورة الحيوان الشرس كانت بقع صغيرة بيض ولا أثر للكتابة فيه ليستدل به على العصر الذي صنع بيد أن هيئته غير المتقنة الخالية من الأحكام تنبئ عن العصر الخزفي البابلي القديم العهد وقد عثر النقابون أيضا حوض كبير معد للاستحمام في غرف إحدى الدور ملقى عند مدخل الباب وكان قطره مترا و46 سنتيمترا وأسفله مستدير الشكل قليلا والقسم الأسفل الواقع تحت المقعد مصنوع من قطعة واحدة من الخزف مركبة باليد والقسم الأعلى منه وفي ضمنه المقعد يشتمل على خمس قطع محكمة التركيب وملصقة بالقار وكان بالقرب منه قاعدتا عمودين مربعين من الآجر غير المشوي ويظهر أنهما كانتا تدعم السقف وعلى مسافة بضعة أمتار إلى الجنوب من حافة الرابية السفلى كانت غرفة منفردة طولها ستة أمتار ونصف متر وعرضها ثلاثة أمتار مشيدة بالآجر المخطط المستدير وقد أسود من دخان نار كانت توقد فيها على الدوام والأمر الذي حير المنقبين أنه لم يكن لهذه الغرفة باب ولا منفذ وقد ذهب بعضهم إلى أنها كانت أتونا (كورة) غير أن هيئتها تخالف الأتاتين المنبثة في أطراف العراق وعلى كل حال كانت الغرفة معدة لإحراق جثث الموتى ويظهر أن إحراق البشر بعد موتهم كان معروفا في القطر العراقي في ذلك الزمن البعيد.
هذا ما وقفنا عليه في المقبرة وهناك قبور عديدة ومدافن شتى لم يتوفق المنقبون لكشف معالمها ولا للبحث عن محتوياتها.
بغداد: رزوق عيسى