الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلياس صالح اللاذقي
1839 -
1885م
تبكي عليك اللاذقية كلما
…
أخنى عليها الدهر في حدثانه
يبكيك تاريخ لها الفته
…
بمدامع كالودق في هميانه
ترثيك ما افتقرت أهاليها إلى
…
ركن أساس الشرع من أركانه
أسعد خليل داغر
نسب الرجل
هو الياس بن موسى بن سمعان بن صالح. ولد جده الأعلى في غزة، وشب فيها، واتخذ خدمة الحكومة مهنة ونهج على منواله ولده سمعان ونال مركزا ساميا، وحاز صيتا بعيدا واسما حميدا. فطلبه والي فلسطين وهو إذ ذاك محمد باشا أبو مرق فلباه وشخص إلى يافا مقر الولاة أيامئذ. وهناك زاد شأنه وعلت مرتبته. فصار رئيسا لكاتب الحكومة، واتفق أن توجهت زوجة حنا كبة، (ملتزم أموال) لواء اللاذقية، إلى يافا، أثر تحريض الطاغية الجزار، عدرة آغا صاحب قلعة المرقب على زوجها، فالانتهاء بالعصيان عليه وقتله. فأكرمها محمد باشا أبو مرق وأحسن وفادتها واحلها أجل منزل وفاء لصنيع أتاه زوجها حين فر إلى اللاذقية من وجه الجزار أيضا - ثم سعى فزوج ابنتها سمعان صالح جد المترجم، فرزق منها ذكرين وثلث بنات وبينما هم في نعيم ناعمي البال، إذ دار الزمان دورته، فبغى على سمعان وقتل بأمر حسن باشا والي دمشق الشام، واستولت الحكومة على مقتنياته وأملاكه في يافا والقدس. ولم يبق لدى أسرته سوى ما أخفي عن أعين الطغاة. ورجعت أرملته مع والدتها وأولادها وأخيها جرجس كبة إلى اللاذقية، حيث تزوج موسى ولدها، ورزق خمسة أولاد ذكور بكرهم صاحب الترجمة.
نشأته
ولد في 26 كانون الثاني عام 1839، فلما ترعرع أظهر ميلا عظيما إلى العلم.
فأخذ يدرس مبادئ العربية والافرنسية والإيطالية، وما كاد يشب، حتى أتقن هذه اللغات، وبرع في العربية أيما براعة، ونبغ فيها على صغر سنه: واتخذها وسيلة للدخول بها في ميدان
العمل والكسب شدا لأزر والدته وإسعافا لأخوته.
وفي عام 1859، أنشأ المرسلون الأميركيون مدرسة في اللاذقية فقرأ فيها زمنا يسيرا، على أحد معلميها ليتقن أصول العربية وقواعدها على طريقة علمية وذلك كلما سمحت الفرص. ثم انقطع يشتغل بنفسه فعكف على دراسة كتب أئمة اللغة والتفقه بها (لا يرشده في ترهات الإبهام سوى مشكاة عزيمته المتلألئة بنور الهدى ولا يؤنسه في وحشة السآمة والملل إلا جليس الجد والاجتهاد) حتى لم تفته شاردة ولا واردة وعرف مداخل اللغة وخارجها ووقف على دقائقها وأسرارها وبلغ فيها شأوا بعيدا.
المهن والوظائف التي احترفها
في سنة 1866م تعين ترجمانا لقنصلية أميركة في اللاذقية وامتهن التجارة مع الخواجات الياس وجبران صوايا. لكنه لم يلق فيها نجاحا وإنما حاز نجاحا في اشتراكه في التزام أعشار قضائي جبلة واللاذقية. وفي عام 1872 تولى إدارة قنصلية اميركة لداعي رجوع القيس قنصل الدكتور متيني إلى وطنه. ولكنه ما لبث أن استعفى منها عام 1875. وانخرط في سلك رجال الحكومة عضوا في المحكمة الابتدائية وظل فيها إلى آخر أيامه.
معرباته وتآليفه
في عام 1869 طلبت إليه الرسالة الأمريكية نظم المزامير مع إبقاء المعنى الأصلي وتلحينه فأتمه سنة 1874 ثم اضطر إلى السفر إلى مصر على طلب الرسالة ليشرف على طبعه حيث بقي عاما كاملا. وشرع في تأليف تاريخ نفيس مطول لموطنه اللاذقية عام 1873 فبقي مخطوطا إلى الآن في ثلاثة مجلدات وقد حوى تاريخ هذه البلدة منذ إنشائها إلى أيامه ودعاه (آثار الحقب في لاذقية العرب) ولما كان من أرباب القانون ومن المتضلعين منه قد عرب عن التركية والفرنسية كتبا قانونية وتاريخية كالدستور الهمايوني وقوانين الدولة وغيرها ولكها لا تزال خطية ولم يطبع من مؤلفات سوى خطبة له في حقيقة التهذيب نشرت في المطبعة العمومية
ببيروت سنة 1866 وديوان شعر عني بطبعه ولده. رفيق أفندي عام 1910 في اللاذقية.
شعره
شعر الياس صالح كأكثر شعر القرن الماضي لا يخرج عن حدود القديم المعلوم من مديح ورثاء وغيره مما هو ليس شعرا موضوعيا كما يجب أن يكون الشعر العصري ولا يخفى علينا أن من واجبات الناقد أن يراعي في نظره الشاعر وزمانه ومحيطه وعليه كان الياس صالح في محيط لا يخرج كله عن الطور القديم وكثيرا ما نراه لا يطرق الشعر إلا لدى طلب منه في مديح وتهاني. ورثاء وتأريخ لمولود وسواه وقد وصفه محمد بك بهجت - (المدير الثاني للمدرسة السلطانية في بيروت المنتدب مع رفيق بك التميمي مدير مدرسة التجارة فيها في أثناء الحرب وقد انتدبهما عزمي بك والي بيروت حين ذاك لوضع تقويم طويل عن ولاية بيروت وملحقاتها) - وصفا يستدل من ورائه أنه لو لم يكن في ذلك المحيط بل في محيط آخر لكان له شأن يذكر قال: (وقصارى القول إن الياس صالح شعر في حياته بكثير من الهياج وحلول جهده أن يبثنا إياه ويطلعنا عليه ولهذا يجب على اللاذقيين عامة والمسجيين منهم خاصة أن لا ينسوا اسمه لأنه استطاع تحريك الاحساسات التي تخفق لها قلوبهم وتقريرها. وقدر على نقل حالتهم الروحية وتثبيتها.)
هذا مجمل ما وصفه به محمد بك بهجت وزميله وها أننا نأتي بأمثلة من شعره فيما يلي لمختلف الأغراض ومتباين الغايات وللقراء الكرام الحكم.
كان الشاعر متصلا بأكثر أدباء وشعراء عصره بالمراسلات الشعرية ومن أصدقائه فرنسيس مراش الحلبي شاعر حلب والسيد أحمد وهبي ونقولا بك نوفل وسواهم وأكثر مراسلاته كانت مع المراش ودونك قطعة من رسالة أو استهلها بالنسيب كعادة الكثير من شعراء العربية قال:
حتام تصبو يا فؤاد وتكلف!
…
وتكلف العين البكاء فتذرف؟
وتميل نحو الغانيات فتنثني
…
عنها وأنت من المعاطب متلف؟
فدتك من تلك القدود ذوابل!
…
وتناهبتك من العيون الأسيف؟
وتجاذبتك الغيد حتى قد غدت
…
بك كل خود في الهوى تتصرف؟
واختط على هذا المنوال قدرا تطرق بعد ذلك إلى ذكر شمائل مراسله:
رب الفصاحة! من بسحر بيانه
…
بهر النهى البدر الذي لا يخسف!
فرد، إذا لمس اليراع بنانه
…
نلقاه، وهو لنا حسام مرهف
بحر خضم، قد غدت أمواجه
…
كرما، لنا الدرر اليتامى تقذف
وذهب بعدئذ إلى الثناء والمديح:
لك طيب ذكر يا ابن مراش غدت
…
أرجاؤنا من عرفه تتعرف
نثرت علينا من صفاتك حلية
…
آذاننا أضحت بها تتشنف!
ثم اتفق أن نشر المراش ديوانه المعروف (بوق المحبة) فنقده أحمد العمري الموصلي، واعترض عليه، فرد عليه صالح، بقصيدة عصماء لم ينهج فيها منحى الابتذال والسقط في الكلام، بل انتقد العمري وأبان فيها أغراضه وضعف انتقاده، وافتتحها بحكم مليحة ذات روعة، قال:
زنة الكلام، لدى وجوب مقال
…
قبل التكلم من صفات كمال
وأخو النهى، من لا يجرد أبيضا
…
قبل التفكر في انتهاء قتال
فلربما قصد الوبال لغيره
…
رجل، فألقى نفسه بوبال!
ما الحزم إلا بالتأمل، إنما
…
عدم التأمل، خيبة الآمال!
والعلم ليس بصادق إن لم يكن
…
متقارن الأقوال، والأفعال
فلعل قول المرء قول أخي حجا
…
والفعل فعل أعاظم الجهال!
للناس أطباع! بكل يقتفي
…
ضربا من الأهواء والأميال
وانتقل إلى ذكر مراش وبوقه:
فرد غدا بذكائه عسرا على
…
الأيام أن تأتي له بمثال؟
متوقد الأفكار يمحو نورها
…
في كل خطبة ظلمة الأشكال
صاغ القريض فرائد منظومة
…
جيد الزمان، بها تبدى حالي
أو ما سمعت له دويا من صدى؟
…
(بوق المحبة) للبرية مال!
بوق له صوت ينادي في الملا
…
بالحب، يفصح عن بديع مقال
في شطرها الباقي، انتحى الرد على العمري:
قل للمعاند من أتى متعرضا
…
جهلا له، ابشر بشر نكال
عرضت نفسك للمهالك، عندما
…
وافيت تقحم غابة الرئبال
جردت هندي الخصام محاولا
…
حربا ولست ترى من الأبطال
وبرزت تدعو للنزال ولم تكن
…
لتطيق يوما، حملة بنزال!
فبم اغتررت بلا ارتئاه تاركا
…
سبل الفطانة، حابط الأعمال؟
إني أراك فقدت حزمك حيثما
…
غرتك غيبته، عن الأطلال
أفما دريت؟ بأن رشق سهامه
…
يصمي ببعد مثل قرب محال!
وبأنه إن غاب عنك فكم له
…
من صاحب حامي الذمار موالي!
لا غرو إن لم ينجلي لك صافيا
…
نظم له أشهى من السلسال!
فلقد بدوت لنا مقرا شاهدا
…
بفساد ذوقك في صريح مقال
وختمها بهذه الأبيات:
عار عليك بما أتيت لنا به
…
في مدح نفسك من سنى الأقوال!
ليس الفتى من بات يحسب نفسه
…
متسامياً بالعلم والأفضال
بل من يبيت القوم يشهر فضله
…
فيذاع في الأسحار والآصال
وإذا رأيت فتى تصلف معجبا
…
بالتيه فاحسبه من الجهال!
فالعالم السامي الحجا من لم يكن
…
عن عجزه يا صاح في إغفال
فاعلم وذو الدعوى يؤوب بخيبة
…
وبصفع وجه لا بصفع قذال!
واتفق أنه حين كان في مصر، اقترحت عليه (جمعية بطركخانة الروم الأرثوذكس) مدح خديوي مصر. إسماعيل باشا، لمكرمة أسداها إليها، فلبى الطلب ونظم قصيدة ذكر فيها أفضال الخديوي وقدمها إليه، قال:
البشر في قطر مصر فاح عاطره
…
واليمن قد نورت فيه أزاهره
والسعد غرد في روض النجاح على
…
أفنان أيك الهوى والصفو طائره
قطر رعته فأضحى السعد يخدمه
…
عين الخديوي وأحيته مآثره
مولى علي أثيل المجد باذخه
…
شديد عزم سديد الرأي باهره
بظله عم مصر الخير منتشرا
…
وكل شأو به قرت نواظره
وذكر فضل الخديوي وما أنشأه من المدارس، وعدل فذكر فضله على الأرثوذكس والمدرسة التي أنشأها لهم قال:
قد عم إحسانه كل الأنام وقد
…
جرى على فقراء الروم وافره
قامت بآلائه الغراء مدرسة
…
لهم بها شكره رنت مزاهره
لا يحصر الوصف أفضلا له عزرت
…
ولا يقوم بحق الشكر شاكره!
ولما توفي المرحوم العلامة سليم البستاني، وكان من معارفه، رثاه بهذه المرثية الحكمية، قال:
يبدي لنا الدهر من أحكامه عبرا
…
في كل يوم وكم يجري لنا عبرا!
ونحن نغتر بالدنيا وزخرفها
…
دوماً ونلهو ولسنا نذكر الخطرا!
كأننا لسنا ندري أننا بشر
…
عقباهم الموت طال العمر أو قصرا؟
لا المال! كلا! ولا المجد الرفيع! ولا
…
شرخ الشباب نراه يدفع القدرا!
كم سيد ماجد تحت التراب ثوى؟
…
وكم فتى أروع يحويه جوف ثرى؟
لا كان يوم، به الناعي نعى أسفا
…
لنا سليما! فأجرى دمعنا مطرا
غالته أيدي الردى نورا مباغتة
…
وعفرت في الثرى جثمانه النصرا
تبكي عليك بنو الآداب قاطبة
…
أسى وترثيه أهل الفضل والشعرا
كذا الطروس تردت بالحداد على
…
من كان يلبسها من نسجه حيرا
والنثر والنظم والإنشاء قد حزنت
…
عليه إذ كان يجلوها لنا غررا
ناحت عليه المعاني! فهو مبرزها
…
نفائسا تدهش الألباب مبتكرا
وقد بكته زواهي اللفظ نادبة!
…
إذ طالما فاخرت في نطقه الدررا
ولوع الموت عرب الناس مع عجم
…
لما طواه وأبكى البدو والحضرا
لئن يكن قد قضى نحبا فما برحت
…
آثاره الغر تحيي ذكره العطرا
فكم له في فنون العلم من أثر!
…
ما مات من في الورى أبقى له أثرا!
ومن الخطبة التي أنشأها وطبعها في بيروت في التهذيب هذه الأبيات أختمها بها وكلها حض على التعلم الذي دعا إليه كثيرا، قال رحمه الله:
فجر العلوم على أرجائكم طلعا
…
فنبهوا منكم الطرف الذي هجعا!
وشاهدوا الكون في هذا الزمان تروا
…
نور التهذب في أقطاره سطعا
لا يقطن المرء إذ قد جاز سن صبا
…
فالعلم يفتح أبوابا لمن قرعا
وليس للمرء من فضل يزان به
…
إن لم يكن في نهاه للعلوم وعى
فالعلم للعقل مثل الحد في عمل
…
للسيف والسيف لولا الحد ما قطعا
ليس التهذب في تقليد من نسبوا
…
إليه إن لم يكن بالعلم قد شفعا
وكان متدينا ورعا تقيا وقد اقترحت عليه كثير من كرائم سيدات موطنه أناشيد في مدح السيدة العذراء عليها السلام فأجاب الاقتراح ولباهن في ما طلبن فنظم لهن عدة أناشيد تسامح فيها من جهة اللغة والإعراب ووقعها على وزن أغاني شائعة موسيقيا
وفاته وتأبينه - رثاؤه
عبث المرض بجسمه النحيل، وتعلب به الداء، وما كان ليحتمله، فسقط عياءا وإذا الموت يوافيه صباح الثلاثاء لمنتصف أيلول سنة 1895م فأودع الروح بارئها بعد جهاد طويل قضاه يعارك الزمان، ويطلب لوطنه الفلاح. وفي عصر ذلك اليوم بعد أن صلي عليه، وقف المرحوم الدكتور سليم الجريديني وابنه فالشاعر الثائر أسعد خليل داغر. فالمرحوم سامي كومين تأبينا مؤثرا بليغا ومن ثم أودع الثرى.
يسقي ثراه الغيث ما جن الدجى
…
والشمس ما طلعت وما سفر القمر
رحمه الله رحمة واسعة.
بركات (السودان): ميشيل سليم كميد