الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في روضة ظل رجاس ازاهرها
…
حتى تفتح أجفان لأكمام
أقول والطير قد هبت مغردة
…
أملأ لي الجام فاللذات في الجام
هلم نأوي إلى الآداب رائعة
…
ونستظل ضحى في صرحها السامي
في عهد فيصل ما أسماه من ملك
…
معصب من بني عدنان قمقام
بتاجه الشعب كل الشعب مغتبط
…
ما أحسن التاج معقودا على الهام
وأنه هو مولاه وسيده
…
وأنه هو في الجلى له الحامي
الشعر في ظله عصفورة غرد
…
والعلم مخضوضل من غيثه إلهامي
لو لم أجد لي في الأقلام تسلية
…
كسرت من عنت الأيام أقلامي
صفحا إذا كان خنذيذ القريض كما
…
فلم يساعد على جريي وأقدامي
بغداد: أكرم أحمد
نشيد وتفنيد
يا رابضا وبه الآمال تصطخب
…
إن قبل ممن؟ يقل آبائي العرب
أنت البقية من شعب ذوي عظم
…
أوهاهم العجز والتفريق والوصب
ملوا الجهاد فظلوا في عمايتهم
…
كأنهم تائه أودي به التعب
أصوب الطرف فغي أحوالهم فأرى
…
بؤسا يحيط بهم من بعد ما غلبوا
من بعد تحليقهم في أوج رفعتهم
…
لقد هووا مثل مقطوع به السبب
يستنجدون وما من منجد لهم
…
ويستغيثون إذ أصمتهم الكرب
والله كم سال دمعي عند رؤيتهم
…
وكم بقيت بلج الحزن أضطرب
شتان ما يومهم والناس تخدمهم
…
ويومهم قد نكى في جمعهم عطب
أين البهاليل من شعبي فيا أسفي
…
أودت (قعاد) بهم لما بها طربوا
وقد تفانوا وما كفوا تفانيهم
…
عن قتل أمتهم حتى معا عطبوا
يا للتعجب من شعب يذوب كما
…
ذاب الضريب بنار هاجها حصب
العرب هل أصبحت فتيانهم حمما
…
وكم براقش تجني بل وكم تثب؟
قد دنسوا الحق تدنيسا وما ارتدعوا
…
عن منكرات بهن الذل والكلب
أسدد فمي قبل بوحي بالذي عجزوا
…
عن ذكره فزمان البوح مقترب
غاض الكرام وقد غاض اللئام فلا
…
نصح يفيد ولا علم ولا كتب
لئن ذكرت رجال اللؤم أحرقني
…
جوى كمين وفي قلبي له ندب
أف لهم ولما يبغون من أرب
…
مدنس مات فيه العز والأدب
قلوبنا ضعضعوها وهي صابرة
…
على الأذى وبنار الطعن تلتهب
تعسا لقوم عتوا صدت بصائرهم
…
عن الصلاح وبالتضليل تنتقب
نرى الأذلة ترمينا بقسوتها
…
وأنها لفلول الخبث منقلب
غشوا نفوس ضلالات بثوب هدى
…
كأنهم نجس بالخز محتجب
هم الذين أضاعونا بخستهم
…
يزجون غدرا إلى خبث ولن يجبوا
وا حسرتاه على حر يذوب أسى
…
على العروبة والأعراب تحترب
وا حسرتاه علينا إذ سفينتنا
…
أضحى بها الجهل ربانا ويا عجب
هذي الجزيرة مجتاحا ومضطربا
…
في كل يوم بها حرب ومستلب
ضاع التراث كما ضاعت سعادتنا
…
وقد وقفنا فلا غذ ولا خبب
لم يبق من أمتي العظمى سوى لغة
…
ظلت على طول هذا الدهر تنتحب
كم أعجمي غزاها وهي آمنة
…
وجيشه لجب من عجمة تعب
فانصاع مكتئبا تحدوه خيبته
…
والجيش منحطم أعضاؤه تعب
يا سائرا ووجيب القلب صاحبه
…
لنا ببغداد من بين القسوس (أب)
أقرأ عليه سلامي خالصا عطرا
…
فأنه من معين الحب منسكب
أب عزيز وذو علم ومعرفة
…
قضى السنين بسوق العلم يكتسب
حنا على لغة القرآن حنو أب
…
على الوليد وعنه تنطق الحقب
له أياد على أبناء يعرب ما
…
دامت لغاتهم أثوابها قشب
عقل منير وأخلاق معظمة
…
ودربه سيلها للعلم مصطحب
ذاكم (انستاس) معروفا ومرتويا
…
من بحر علم وللإصلاح منتدب
عرفته فاضلا من قبل ما نظرت
…
عيناي وجها له للطف ينتسب
حلو الحديث دميث الخلق ذو أدب
…
عال ومجلسه للعلم منتهب
طلاب حق وإصلاح ومكرمة
…
وصفو علم وفي أعماله سرب
صافي السريرة ضحاك إذا ضحكوا
…
ماضي العزيمة ذو حلم إذا غضبوا
قد (يوبلوه) فأبقوا خير مأثرة
…
لهم فيوبيله بالفخر مختصب
لم ينقموا منه إلَاّ أنه كلف
…
بالبحث لا مدع جهلا ولا غضب
حامي الحقيقة إن شطت وإن قربت
…
مهذب ولشطر الدهر محتلب
كم لقلق صات في يوبيله حسدا
…
وكم غراب نعى والقلب ملتهب
قد جلوا جهلهم ما كان أغربهم
…
والجهل ينفق في إفنائه الذهب
كل له دينه والعلم مقتسم
…
فلا ازدراء ولا حقد ولا صخب
بلى أنستاس أهل للذي فعلوا
…
بخلقه ومساع جلها شهب
بغداد: مصفى جواد
كتاب صاحب المعالي وزير المالية
حضرة العلامة الفاضل الأب أنستاس الكرملي المحترم
دعاني الواجب إلى أن أغيب عن العاصمة يوم يوبيلكم الميمون، فلبيت صوت الواجب وفي قلبي لواعج من الشوق للاشتراك بتكريم العلم في شخصكم النبيل والإشارة بمفاخر لغتنا العربية التي أفنيتم العمر العزيز في الوقوف على أسرارها والبحث عن مكنوناتها الثمينة والتنقيب عن كنوزها العجيبة الساحرة الفتانة.
إن حرمت حضور الحفلة وسماع ما يلقى من الدرر المنثورة واللآلئ المنظومة في مدحكم والثناء على خدماتكم المشكورة وأعمالكم المبرورة في الجهاد في سبيل العلم واللغة والتدريس فأن لي من أسباب السرور والحبور ما ينسيني هذا الحرمان ذلك أن فخامة رئيس وزارتنا المحبوب عبد المحسن بك السعدون قد تكفل بإقامة هذه الحفلة في داره العامرة وأن زميلي العزيز معالي توفيق بك السويدي وزير المعارف قد أقام يوبيلكم تحت إشرافه.
فنظرا إلى التضامن الموجود بيننا نحن أعضاء الوزارة السعدونية فأني أعد نفسي مشتركا في هذه الحفلة وإن لم أكن حاضرا
وهنا لا بد لي من كلمة أقولها ألا وهي: إن الأب أنستاس الكرملي موضوع فخر ومباهاة للوطن ولأبناء اللغة العربية الناطقين بالضاد فقد حمل مصباح العلم والعرفان مدة خمسين سنة وقد أقتبس من نوره الوضاح تلامذة يعدون بالمئات. وقد أسعدني الحظ أن أكون أحدهم بما أخذته عنه بعد مغادرتي المدرسة من الفوائد الفرائد.
لم تقتصر خدمات الأب الجليل على التعليم والتهذيب والتلقين بل هي أوسع نطاقا من ذلك. فها أن أبحاثه الجليلة اللغوية والتاريخية أكب شاد على ما أقول وها أن تنقيباته الأدبية لأعظم حجة على ما ألمع إليه.
لا يذكر اسم الكرملي إلا وينتصب في الذاكرة شبح كتاب (الإكليل) و (الموعب) وكتاب (العين) وغيرها من تراث الأقدمين التي كانت مفقودة فوجدها.
أما مجلة (لغة العرب) فاسمها يغني عن البيان والتبيان فهي كنز لغوي وتاريخي.
إن حب أنستاس للعرب والعربية جعله يتحمل مضض النفي والإهانة في عهد دولة مضت أيامها ودالت دولتها.
حيا الله الشعور العربي الصميم المتغلغل في قلب الأب المحترم. وهل من حجة لامعة على
هذا الحب أكبر من العذاب في سبيله؟
فإذا قرعت طبول البشائر في يوبيل العلامة الأب أنستاس فلا عجب. فما ذلك إلا دليل باهر على أن البلاد وأهل البلاد وحكومة البلاد تقدر العلم وتحترمه في شخص رجاله الذائبين في سبيله.
حيا الله الأب أنستاس الكرملي حامل مقياس العلم وعلم العربية. وحيا البلاد والرجال الذين يكرمون العلم.
بغداد 5 تشرين الأول 1928: المخلص يوسف غنيمة
الأب أنستاس ماري الكرملي
عماد للنهضة الحديثة
- 1 -
كان النصف الثاني للقرن التاسع عشر مبعث النهضة الأدبية في الشرق العربي بعد أن قطعت العواصف السياسية والاجتماعية علاقته بماضيه الوضاء ومهما يكن من الأسباب التي بعثت هذه النهضة المباركة، فأنها من غير شك كانت تقوم في جهات ثلاث: الشام، ومصر، والعراق، ويظهر أن الأسبقية إنما كانت للشام لتزاحم البعوث والإرساليات الأمريكية إلى هناك فتمكن رجالها من بذر البذور المباركة للحركة الأدبية والعلمية في هذا الشرق وقد تبعتها مصر منذ انتظمت حياتها الحسية وأسست على قواعد ثابتة تضمن للنهضة النجاح والاطراد، وقد نافستهما العراق منار الثقافة الإسلامية العربية في عهد (دار السلام).
وهنا يجب أن نقرر - إنصافا للحقائق التاريخية - أن هذه النهضة التي كانت في مصر وسورية والعراق كانت تقوم على أعمدة ثلاثة: مدرسة دار العلوم بمصر، ومدارس الإرساليات بالشام. والأب أنستاس ماري الكرملي بالعراق.
- 2 -
ليس من المبالغة أو العصبية أن نضع الأب الكرملي في العراق تجاه مدرسة عتيدة بمصر، وعدة مدارس بسورية، فأننا إذا فهمنا مقومات هذه النهضة أول الأمر علمنا صدق هذه
الدعوى، وأننا لم نشتط حين وضعناه في هذه المكانة، فأنه حين حاولت البلاد أن تحيا حياة أدبية أواخر القرن الماضي كانت لوثة العجمة شائعة في الألسن العربية، ولم تكن ترى شخصا يحسن التكلم باللغة الفصيحة، وكانت اللغة العامية خليطا من لهجات شتى، بعيدة النسب عن العربية فضلا عن أن النفس الشرقية كانت مقفرة من أية ثقافة إلا الجهل المطبق، والظلمة الحالكة، والانحلال الشائن، فكان لا بد لكل غيور على هذا الشرق العربي أن ينقذ هذه
الطوائف من جهالتها محاولا تقريبها إلى المثل الأعلى لتلك الحضارة الأدبية الماضية مراعيا في ذلك آثار الزمان والمكان، ودواعي الفروق بين الحالة الحاضرة أمامه وبين الحالة السالفة أمام العصر العباسي حيث ازدهرت الدنيا بآثار العربية وكنوزه الثمينة. . . وأي شيء يجب البدء به سوى تقويم الألسنة وتطهيرها من الأخطاء اللفظية والكلمات الأعجمية حتى إذا استقامت واشتد ساعدها كان على المصلح أن ينظر في محاولات أخرى معنوية وموضوعية عله يتم ما بدأ؟!
أفليس الناس إذ ذاك أشبه شيء بالطفل الناشئ يجب إصلاح لسانه ثم يتلقى بعد ذلك المعلومات؟ أريد أن أفصح أكثر من هذا فأقول: كانت النهضة محتاجة إلى تقويم جسمها قبلا حتى يتمكن من حمل ما يلقى فيه من الروح الحديثة التي هي في الحقيقة الغاية أو الوسيلة للرقي العام.
هكذا كانت تعمل دار العلوم بمصر أول نشأتها فكانت معنية بدراسة الأدب العربي القديم وتقليده بعض الشيء لفظاً وأسلوباً، وكان المتخرجون فيها يجتهدون في تقويم الناشئين بهذه الأساليب حتى تأسست الدراسة المصرية على نهج قويم، وقريباً من هذا في شيء من التجديد عمل رجال سورية لاتصالهم أكثر من سواهم بالحضارة الأجنبية فلانت لهم الأساليب وجروا شوطاً ليس بالقريب.
أما الأب الكرملي فقد كان ترتيبه الطبعي أسبق من ذينك العاملين: كان فقيها لغويا عليه وحده نعتمد في الإصلاح اللفظي: الأفرادي والتركيبي لأنه أتيح له ما لم يتح لقرينيه ففاز بخير نصيب.
- 3 -
نعم أتيح له ما لم يتح لغيره من جميع المشتغلين باللغة العربية في هذا العهد فكان طبيعيا
أن يكون عمله أجدى من ناحية، وأن يكون (صاحب الشريعة الغوية) أن أباح لنا هو هذا التعبير من ناحية ثانية.
من هذه الميزات ولوعه منذ الصغر باللغة وآدابها، وإذا علمت أن أول دراسته كانت في كتب الصرف تبين لك من أول الأمر ذلك المذهب الذي سيعتنقه هذا الصبي بعد. . . بناء اللغة وتكوينها وفهم أسرارها.
ومنها إكبابه الطويل على دراسة اللغة والبحث في معاجمها وجمع الكتب التي تصادفه وتفيده في هذا الباب، فحصل على أكبر قسط من المعارف اللغوية التي
تجعله بحق حجة وحده ومرجعا للباحثين.
ومنها معرفته عدة لغات شرقية وغربية مما يفيد في وسائل إثراء اللغة وطرق درسها وإنمائها، ثم الوقوف على فقهها وتاريخ نشأتها منذ عرفها التاريخ ولا أعرف رجلا غيره تيسر له الوقوف على هذه اللغات الشرقية بهذا الإتقان ثم الانتفاع بها في تحقيق الأصول العربية، فليس من الغريب إذا أن يكون كعبة الأساتذة والمستشرقين وطلاب التحقيق الفقهي للغة العربية.
ومنها رحلته إلى أوربة وبلاد الشرق ووقوفه على مظاهر الحضارة القديمة والحديثة وآثارهما مما جعله أوسع معرفة وأدرى بمقتضيات هذا العصر من تجديد واصطلاح وتواضع على ألفاظ خاصة لكل جديد حتى لا ترمى اللغة بالفقر والعجز عن مجاراة الحضارة الجديدة.
- 4 -
أفبعد هذا يكون من الغريب أن يكون الأب الكرملي محط آمال المجتمعات اللغوية العلمية. وإن تتهافت النوادي الشرقية في أوربة والشرق على انضمامه إليها ليكون عتادها الأوحد ومرجعها الذي لا مرد لحكمه؟! ولم لا تترجم آثاره إلى اللغات الأجنبية التي يعنى ذووها بدرس الآثار الشرقية. وفهم هذه النفس الجباة التي كانت مثال النبوغ في مظاهرها المتنوعة، مظهر الدين ومظهر الفلسفة ومظهر اللغة وعلومها؟ ولم لا يضطهده الأتراك أعداء العرب وهو يعنى بإحياء الحضارة العربية ويذيع ما كان لهم من مجد تليد وعلم جم؟ أليس هذا رجلا في أمة وأمة في رجل؟
لا أذكر مؤلفاته وآثاره المطبوعة والمخطوطة الباقية والبائدة، لا أذكرها فهي شيء ذائع معروف سيحفظها التاريخ في إثباته، وينتفع بها الناس بعد أن يحصلوا عليها.
إنما أذكر (لغة العرب) التي كانت - ولا تزال - صدى الحركة اللغوية في العالم العربي وغير العربي، عند كل متعلم وأستاذ، ناشئ وشاد، أذكر (لغة العرب) التي عودتنا النقد النزيه، الحق، والتواضع الكريم والاعتراف لكل مجتهد بجهده، وأخيرا كانت خير صلة بين الناطقين بالضاد وخير عامل على حراسة اللغة من عوامل الفناء والجمود والاضطهاد.
- 5 -
فإذا كان من الحق على العالم العربي اليوم أن يكرم عالمنا الفذ، وأكبر مضح بعمره وماله، فأنه يكرم عنصرا قويا لا ندري ماذا كنا نكون لولاه،
نعم إن هذه النهضة الحديثة أخذت الآن تتحول إلى ناحية حديثة من الثقافة المعنوية الفلسفية، ولكنها في حاجة عظيمة إلى ذلك الأب البار يرؤمها ويرقبها في سبيلها، خوف الاضطراب والشذوذ والعثرات التي كثيرا ما تعترضها، اللهم إنا نحتسب عندك هذا العمر الذي أنفقه وذاك الجهد الذي قاساه ونرجو أن يمد الله عمره حتى يتم ما بدأ، ويصل بهذه الروح الشرقية إلى دور النضج التام.
فباسم مصر، وباسم الشرق، وباسم اللغة العربية، وباسم الآمال التي نعقدها على حياته. . . نقدم له أنفسنا مخلصة، ووفاءنا خالدا ونتقدم إلى لجنة الحفل بالمقترحات الآتية للسعي معنا في تحقيقها:
1 -
أن يعين في الجامعة المصرية أستاذ الفقه اللغة العربية.
2 -
أن تعنى لطبع مؤلفاته ونشرها.
3 -
أن تحتفظ بخزانة وتسعى في الانتفاع بها.
4 -
أن يكون هذا التكريم في كل من مصر والشام والعراق وغيرها من الأقطار العربية تكريما عمليا مؤديا للانتفاع الأوفى بآثاره الغراء.
الإسكندرية في 2 أكتوبر سنة 1928: أحمد الشايب
من الدجيلي
حضرة سكرتير لجنة تكريم الأب انستاس المحترم
بعد السلام فإني أشكركم على تقديركم إياي باللياقة للاشتراك في الاحتفال الذي ستقيمونه في بغداد في اليوم السادس عشر من شهر أيلول من هذه السنة ومن حيث أني في لندن والشقة بعيدة بيني وبينكم وكثرة النفقات تمنعني من
الحضور في ذلك الاحتفال الميمون رأيت أن استعيض بالكتابة عن الحضور بالنفس، متأسيا بقول من قال:(المراسلة نصف المواصلة) فإذا رأيتم ما كتبته مستحقا للقراءة والنشر فافعلوا ذلك وإلا فألقوا به عرض الحائط واتركوه في زوايا الإهمال وأنا لكم من الشاكرين. وفي الختام أهدي جميع أعضاء لجنتكم المحترمين السلام.
لندن 30 آب 1928: المخلص كاظم الدجيلي
سيدي وأستاذي العلامة معالي الرئيس المحترم
سادتي المحتفلين الكرام
إن تكريم الأحياء سنة قد جرى عليها الأولون والآخرون من البشر والقصد منها تشجيع الناس على إتيان الأعمال العظيمة التي يستفيد منها وطنهم وأبناؤه.
ولما كانت النفوس تميل - بطبيعتها - إلى تعظيمها وتبجيلها أخذت تسعى في مصلحة مبجلها والمعترفين بجميلها عليهم. وبهذه السنة صارت مصالح الفريقين تتبادل وقوادهم تزداد ومنافعهم تتكاثر. إلا أن سنة التكريم هذه لم تدم في الشرق كدوامها في الغرب الذي ازداد اعتبارها وعظم شأنها فيه. ولا غرابة في ذلك إذ التربية والآداب في الشرق انحطت فأنحط كل شيء بانحطاطها.
أما في الغرب فالحالة على خلاف ذلك حيث ترى للتربية والتعليم حياة راقية وآدابا سامية.
إننا في تكريمنا حضرة العلامة الأب انستاس - الذي هو أهل لذلك - نكرم في الحقيقة سواه من أبناء العراق إذ نبعثهم بعملنا هذا على الاجتهاد في إبراز الأشياء النافعة للجمعية العراقية خاصة والبشرية عامة بحيث تكون تلك الجمعية شاعرة كل الشعور بوجوب تكريمهم واحترامهم.
إننا في تكريمنا حضرة الأب أنستاس نثبت لأبناء العراق النبهاء العمل بقوله تعالى: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يره).
إن للأب أنستاس فضلا على كثير من شبان بغداد بل العراق وكتابه الحاضرين إذ درب
الكثيرين منهم على معرفة الآداب العربية وحسن الإنشاء بها بل النبوغ فيها، وأنجى بصنعه الجميل نبغاء الكتاب من الوقوع في أغلاط كانوا يجهلونها قبله
لو كان من المتعارف أو المستحسن أن يقص المرء سير الأحياء من غير متاقاة أو محاباة لقصصت عليكم من أخباره الطوال ما يستوعب كل وقتكم.
لحضرة الأب أنستاس منة لا تنكر على اللغة العربية وأبنائها لأنه يغار عليها أكثر مما يغار على أي شيء سواها ويحب إعلاء شأنها إلى السموات العلى ومن فرط حبه لها ينتقد مفسديها انتقادات مرة قد يرى المتعصبون الجاهلون لها أنه عدوها اللدود، وفي الحقيقة أن انتقاده هذا ما هو إلا كضرب الوالد الشفيق لولده الجاهل إذا أراد تأديبه وتدريبه على محاسن الأخلاق وطلب العلم.
إن إصدار مجلة لغة العرب مما رفع ذكر العراقيين في الآداب العربية وأحيا ميت أسمهم فيها. قد لاقيت غير واحد من المستشرقين في أوربة فكان أول شيء منهم إعجابهم بمجلة لغة العرب والتحدث عن مزاياها وفوائدها الجمة. ورأيتهم يقدرون كل التقدير اختيار الأب للكلمات التي يعبر بها عن المسميات العلمية والفنية الحديثة، وإن كان في بعضها مما يثقل على السمع تلقيه أو أصبح بحكم المهجور.
للأب أنستاس سعة صدر وحلم عظيمة، وكيف لا يكون كذلك وهو أحد الرهبان الذين من سيرتهم غفران الذنوب والإحسان للمسيء.
إن صلتي بالأب أنستاس قد تزيد على الخمس وعشرين سنة وهي متينة لم يصبها أي خلل طوال هذه المدة مع أنه راهب كاثوليكي - ومن مبادئ الكاثوليك الدعوة إلى المسيحية - وأنا شيعي أصولي - ومن مبادئ الأصولية التصلب في الدين والتنجس من غير المسلمين - يشهد الله علي أنه ما دعاني يوما إلى دينه ولا دعوته أنا إلى ديني، أو تناقشنا في هذا الباب كثيرا. فصحبتنا كانت ولا تزال أشبه شيء بصحبة الرضي والصابئ بل على ما أظن أقوى وأمكن.
(الفضل ناسب بيننا إن لم يكن
…
شرفي يناسبه ولا ميلادي)
قد كنت أحيانا اسمعه - بغير قصد - بعض الكلم التي لا يجب سماعها المتدينون مثله فيتشاغل عن سماعها بسواها ويغير الموضوع بأدب وحكمة. وإني أتذكر عند كتابة هذه
الأسطر حادثة من هذا القبيل حدثت بيني وبينه - شهدها حضرة محمود أفندي الشيخ علي والد المفاضل علي محمود المحامي، وقد يقصها
لمن يريد سماعها فظهر فيها الأب مظهر من أتبع المسيح وعمل بأقواله.
ذكرت هذا دحضا لقول المتقولين على حضرة الأب أنه يفسد على أبناء المسلمين دينهم وينصرهم. سبحانك اللهم أن هذا لهو البهتان المبين.
حسدوا الفتى إذْ لم ينالوا فضله
…
فالقوم أعداء له وخصوم
قد قرأت في بعض الجرائد الأميركية أن جماعة احتفلوا بأحد نوابغ أميركة وقد دعوا إلى تكريمه عددا غير قليل من مشاهير الأميركيين وكان بين المدعوين أحد الأغنياء فأحب أن يسلك طريقة جديدة في التكريم فكتب صكا بمائة ألف دولار ووضعه في جيبه ولما جاء دوره للخطابة رقي إلى المنبر وأخرج الصك من جيبه وقال للحاضرين هذه خطبتي ثم سلمه إلى المحتفل به فكان لصدى هذا الخبر دوي بلغ مسامع أوربة فذكرته جرائدها بإعجاب عظيم.
فهل للمحتفلين بالأب أنستاس أو للعراقيين عامة - أن يعملوا لحضرته شيئا من هذا القبيل أي طبع ما جمعه حضرته من المصطلحات العلمية، وما علق على كتب اللغويين من تصحيح واستدراك، ثم إهداء نفعه بعد استخراج نفقاته إلى حضرته ليعم نفعه فيكون العراقيون قد خلدوا لهم بهذا العمل المبرور ذكرا جميلا، ونفعوا البلاد العربية نفعا جما وما خسروا شيئا؟ فأنا أول المستعدين للاشتراك في الإنفاق على هذا المر الجليل.
وأختم كلامي هاتفاً عن بعد: ليحي الأب أنستاس وليشكر القائمون بتكريمه!
لندن 30 آب 1938: كاظم الدجيلي
الكرملي
الكرمل أحق بلاد الله بتكريم العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي الذي تشرف بالانتساب إلى هذا الجبل الذي استعير في العهد القديم لعظائم الأمور في حين إنه كان لها من الجلال والجمال بحيث صاروا يعبرون عن وقوع بلية بذبول أشجاره الغضة وأزهاره اليانعة.
و (عبد الله المخلص) أولى الناس بتعظيم (عبد يسوع المخلص) الذي أجتمع به لأول مرة في رأس هذا الجبل المشرف على بحر الروم كان فيه منارة علم يستضاء
بنورها إلى
جانب منارته الزجاجية التي تنير السبل للجواري المنشآت في البحر.
أجل أن الأب أنستاس الذي أقام في ديري الكرمل وأعني بهما دير (مار الياس) في رأس ناحيته الغربية و (دير المحرقة) في آخر سلسلته الشرقية وسكن بدار إيلياء النبي ومسكن اليشع أو بجوارهما قد أفاض علينا من فيض علمه ما نذكره له بكل شفة ولسان وفي كل زمان ومكان.
ولم يكن اغتباطنا بتكريم هذا الكريم بسبب حرفة الأدب التي تجمعنا جامعتها ولا للصداقة التي تربطنا روابطها وإنما كان لأن هذا العالم العامل والتقي الورع المنقطع إلى عبادة ربه وخدمة عباده قد نال في هذه الحياة الدنيا بعض ما يستحقه من الإكبار والإجلال فكان له في ذلك بعض العزاء والآخرة خير وأبقى.
وعلماء العراق الذين قاموا قياما على أمشاط أرجلهم للعمل على تكريم هذا العالم الفحل هم من أئمة الأدب العربي فكان حقيقا بنا أن نقلدهم ونشكر لهم هذا المسعى الحميد الذي أثلج الصدور وأقر العيون من الناطقين بالضاد العارفين فضل الأب على لغتهم الشريفة.
ولا يهمني قول البعض إن الأب الكرملي يكتب الصفحات الطويلة في سبيل كلمة من كلمات اللغة وأنه لو أنفق هذا الوقت أو بعضه في سبيل آخر لأفاد أكثر فذلكم التطويل دليل الغيرة على اللغة الفصحى وبرهان الاهتمام في الاحتفاظ بذلك التراث الذي ورثناه من الآباء والأجداد ومن علم أن بعض علماء المشرقيات يكتب مئات من الصفحات في سبيل بيت أو قصيدة عربية عذر الأب الغيور على تقصيه وبحثه بل عذله لأنه لم يزد في النكاية بهؤلاء المتشدقين الذين كادوا يفسدون علينا أمر لغتنا.
وأذكر أن أحد علماء البيان قال لي مرة أن كتابات صاحبك الأب أنستاس خالية من الصناعات البديعية فلا تجد فيها كناية ولا استعارة ولا عبارة جزلة ضخمة فأجبته أن صديقي الصادق يكتب في موضوعات علمية وبلغة علمية فلو أضطر مرة إلى كتابة خطاب حماسي أو مقال خيالي ربما جاء فيهما بالمبدع وحملك على الاعتراف معي بأن الذي يكتب هذا السهل الممتنع لا يعجز عن الكتابة بذلك الشكل الطنان الرنان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع فسكت وانتهى الجدال.
وإذا ما ذكرت للأب علمه الجم وفضله الغزير وأنه خير من تضرب له آباط الإبل وتشد
إليه الرحال فلا أنسى أن أذكر له مزية قلما نجدها في أمثاله من رجالات الدين هو ابتعاده عن التعصب الممقوت. على أن هذه الخلة لا تضير الذين اشتروا الآخرة بالدنيا فهجروا نعم الثانية في سبيل نعيم الأولى. أما دليلي على ذلك فهو وقوفه في وجه كاهن مثله ورده عن تنصير بعض الشعراء الجاهلين أو قل دفاعه عن حقيقة تاريخية دون أن يتأثر بما أريد أن يخلط فيها من أمور الدين.
وإني لا أزال أذكر رحلة صغيرة قمنا بها نزولا على رغبة الأب المحتفل به إذ كان يريد زيارة العش الذي درجت منه القديسة ماري ليسوع المصلوب الكرملية في قرية تدعى عبلين فبعد أن وصلنا بالمركبة إلى شفا عمرو وعلمنا أنه لا يمكن الوصول إلى عبلين إلا مشياً على الأقدام بضع دقائق أخذنا بالمشي والشمس في الهاجرة فقطعنا برهة زادت على البضع دقائق التي ذكرت لنا تهوينا وتشجيعا للمضي وقال لنا الدليل أننا سنضطر إلى قطع مسافة أكبر من التي قطعناها فوقفت وقلت للأب أقرأ لروحها الفاتحة على طريقتنا الإسلامية وأبعث بها إليها من هنا فابتسم وقال لي أن محاولتي زيارة البيت الذي ولدت فيه تلك القديسة هو لأنها شرقية عربية اعترف لها الغرب بهذا الحق وأوصلها إلى هذه المرتبة العليا فأعجبت بروح الأب العربية وعدنا أدراجنا إلى شفا عمرو ومنها إلى حيفا بالمركبة والأب العالم يطرفنا بحديثه الطلي الشهي وبعد فأنني أرجو لصديقي العزيز السعادة والهناء وللأمة العربية ما تتمناه من الأماني والآمال.
حيفا في 6 أيلول سنة 1928
عبد الله مخلص
من طرابلس لبنان
إلى لجنة تكريم العلامة الكرملي.
سادتي الأفاضل:
كتابي أطال الله بقاء السادة وأعز بهم العلم والأدب. وأنا شاكر لهم عملهم الطيب الذي نابوا به عن الناطقين بالضاد في تكرمة العلامة الكبير والبحاثة الذائع الصيت الأب أنستاس ماري الكرملي لأنه قضى عشرات السنين في خدمة العلم بين تحقيق وتدقيق ونشر وإفادة حتى غدا ومعظم القراء من تلاميذه.
وإني ولئن كنت بعيد الدار فما فاتني أن أستفيد من بحوثه علما وأن أقتطف من جهوده ثمرا شهيا ولذلك احسبني من تلاميذه الفخورين بهذه النسبة. ولكم قرأت من كتاباته المفيدة مقالا أحسبه غاية ما يصل إليه براعة أو يتطال إليه فكره ولا أكاد أنتهي من دراسته حتى أفوز بما هو أعلى وأسمى وأجزل نفعاً.
ولا عجب من قولي عن دراسة كتاباته فإني لم أتجاوز الحقيقة إلى المبالغة والصدق كل الصدق أن معظم ما قرأت لعلامتنا الجليل من مثل ما أقرأ لأمثاله العلماء الأعلام الذين تؤخذ أقوالهم كدروس تلقى على الطلاب. وهذه مجلته لغة العرب فإني أقرأ العدد الواحد منها المرة بعد الأخرى ولولا شيخوختي لوعتها حافظتي.
وفوق هذا فالعلامة رجل كلما زادك إفادة تنظر خلال سطوره فتراه متصاغرا متضعا كأنه لم يكن مفيدا وهذا غير ما نرى من بعض رجال العلم والأدب وكلما قلدت من بحوثه درة غاص عليها حتى العباب نظر إليك كأنه هو المستفيد منك. فلله دره!
وأنتم يا سادتي الأفاضل لا تؤاخذوا جرأتي على مخاطبتكم فأني محب للمحسنين المجيدين ولو استطعت لركبت البر إليكم فاستأنست بحفلة تكريم أستاذي وبرؤية خيرة الرجال. وهاأنذا اجتزئ بتكرار الشكر وبالدعوات الصالحات للفيفكم الموقر. ودوموا معافين بمنه تعالى وكرمه.
طرابلس - لبنان في 23 آب 1928
الداعي جورج يني
اليوبيل في التاريخ
اليوبيل كلمة عبرية اصطلاحية معناها (التهليل) وقد خصها الإسرائيليون بعيد الشابؤوث عندهم أي (عيد نزول الوصايا العشر على موسى (ع) فوق جبل سيناء) وأطلقوها على يوم مخصوص من السنة التي تلي سني حاصل ضرب سبع في سبع (أي السنة الخمسين).
ومعلوم أن السبعة عدد مقدس عند اليهود كما هو مقدس عند معظم الأمم، ففي اليوم المخصص من السنة الخمسين عند اليهود تقام الولائم والأفراح ويطلق سراح جميع المسجونين وترد العقارات المغصوبة إلى أصحابها وتبطل جميع الأشغال والدوائر الإسرائيلية ويتنازل أصحاب الديون عن ديونهم ويعتق النخاسون جميع عبيدهم ويمتنع
المثرون عن زرع أراضيهم وعن حصد غلتها لأنهم يتركون ذلك للفقراء والمساكين وعلى وجه العموم هو يوم مقدس عظيم لا يصادفه الإسرائيلي في حياته إلا مرة واحدة وقليلون هم الذين يتمتعون بنعمه مرتين اتفاقا.
وقد سرت هذه العادة عند النصارى أيضا ودخلت في آدابهم الدينية. ففي السنة اليوبيلية المسيحية تغفر جميع الخطايا والذنوب ويتمتع المسيحيون باستحقاقات المسيح (ع) وأوليائه وهو عندهم يوم مسامحة وصفح وغفران ولهذا يعظمونه كثيرا ويحتفلون به احتفالا كبيرا.
وقد أنبأنا التاريخ عن أول يوبيل نظامي أدخله المسيحيون في آدابهم الدينية وإنه كان في عام (1000) المسيحي. فإن البابا سلفسترس الثاني لما أفتتح كنوز النعم الروحية للشعوب النصرانية بعد أن أرتبك الناس بتوقعهم قرب انتهاء العالم في تلك السنة. أدخل عادة شريفة في الدين المسيحي بأن يفتتح كل قرن بقصد (رومة) لأداء المناسك الدينية ونيل غفران الأثام.
ثم رأى خلفاء بونيفاشيوس ما ولدته هذه العادة من الخير والنعم على البشر بنتيجة اليوبيل الذي أقيم عام 1300م فأحب أن يجدد هذه الذكرى الحميدة في كل خمسين سنة كما هي العادة عند اليهود وهكذا كان. غير أن الناس استطالوا هذه
المدة أيضا واسترحموا من (اربانس الثامن) ثم من بولص الثاني أن يجعلا اليوبيل أنواعا. ومنذ ذلك الحين بدأت النصارى تحتفل بذكرى اليوبيل كل 33 سنة مرة إكراماً للسنين التي قضاها السيد المسيح (ع) على الأرض وبمرور كل 25 سنة مرة (أي كل ربع قرن) وهي العادة الجارية اليوم فأنهم يحتفلون بيوبيل كل كبير ديني عندهم إذا قضى في منصبه خمسة وعشرين عاماً.
ومن اليوبيل الديني أشتق الملوك والعظماء والأدباء اليوبيل المدني وجعلوا أنواعه أربعة هي:
1 -
اليوبيل الفضي: وهو الذي يقام في حفلة شائقة لكل من أدى للوطن وللبلاد خدمة جليلة مدة 25 سنة.
2 -
اليوبيل الذهبي: وهو يقام للذي يؤدي خدمة جليلة مدة 50 سنة متواصلة.
3 -
اليوبيل الألماسي: وهو الذي يمنح لمن يخدم البلاد والوطن 75 سنة متتالية.
4 -
اليوبيل القرني: لمن مضى على حياته مائة سنة وهو جاد في خدمة البلاد والوطن.
وقد سبقت مصر بقية الأقطار العربية - شأنها في جميع الأمور - فأكرمت بحفلة يوبيل أول أديب عربي نعني به المرحوم سليمان البستاني صاحب المؤلفات القيمة. ومنذ ذلك الوقت أعتاد أدباء العرب أن يكرموا رجالاتهم بحفلات يوبيلية. ومن مصر أنتقل اليوبيل إلى سورية ومنها إلى العراق.
ولم تقم حتى الآن أية حفلة يوبيلية لأي أديب أو شاعر عراقي. ولكن الهمة الناشطة التي بذلتها جماعة من أدباء بغداد وفضائلها لإقامة حفلة يوبيلية تكريما للعلامة الأب أنستاس ماري الكرملي صاحب (لغة العرب ببغداد) بعثت في القلوب فرحا وحبورا إذ شعر العراقيون بضرورة تقدير خدمات الذين أفنوا أعمارهم وقضوا أوقاتهم في سبيل خدمة بلادهم خدمات جليلة مشكورة. إن كنا قد جهلنا أثمانها وفوائدها الأدبية فالتاريخ مسجلها لحضراتكم بمداد الفخر والمباهاة إذ أنه سيد المنصفين.
وقد تقدمني جماعة من الفضلاء فعددوا محاسن الكرملي ومزاياه وأطنبوا في مدح خدماته للغة الشريفة وما أنتجته من ثمار يانعة عادت عليها بالنفع الجزيل ولم يبقوا لي إلا لذكر آية محمدة تفرد بها الأستاذ الكرملي. لهذا اضطررت إلى أن أبحث عن تاريخ اليوبيل والأدوار التي مرت عليه وصورة انتقاله من الصبغة الدينية إلى الشؤون الأدبية والمدنية وأن اكتفى بما قدمه وبأن أختم بحثي قائلاً:
(إن كانت الحفلات اليوبيلية التي أقيمت لأدباء الشرق قد رددت صداها الأقطار الشرقية فستردد المحافل الأدبية والعلمية في الشرق وفي الغرب معا ذكرى احتفال العراقيين بيوبيل الكرملي لخدماته التي أسداها إلى لغة الضاد خمسة وثلاثين عاما متتالية).
فليعش الأب أنستاس ماري الكرملي مستميتا في خدمة لغتنا الشريفة وليخسأ الذين يقيمون الحرب العوان على علماء القطر وأدبائه حسدا منهم فالله نصير الحق في كل أوان والسلام.
السيد عبد الرزاق الحسني
لغوي العرب في القرن الرابع عشر
إن للإفرنج عادات جميلة في تكريم نوابغهم والاحتفال برجالهم وعظمائهم فلتكريم النوابغ والعظماء فوائد عظيمة ومنافع جزيلة إذ أنه ينهض الهمم ويدفع الناس إلى أن تشرئب أعناقهم إلى ما في قمم المعالي من العز والسعادة الأبدية. وفضلا عن ذلك أن الرجل النابغة
نفسه إذا وجد قومه يقدرون له خدماته يضاعف سعيه في سبيل العلم والإصلاح والوطن وغيرها ويزيد شوقه إلى خدمة أمته ووطنه، أما إذا وجد قومه يهينونه ولا يعتنون بأعماله الخطيرة بل ربما كانوا غير مبالين بما قام به من الأفعال الجليلة فبالطبع يتقهقر ويكر راجعا إلى الوراء. والعراق إذا أرادت أن تنهض من كبوتها وتستوي في مصاف الأمم العظيمة فما عليها إلا أن
تحيي مآثر عظماء رجالهم العاملين وعلمائها المصلحين.
فالعراق اليوم يفتخر بأبنائه الذين استجابوا دعوة العلم والأدب إلى تكريم لغوي العرب.
يعلم الجميع ما كان للأسماء الدينية والتحزبات المذهبية من المضار ولا سيما كانت وسيلة إلى تغلب أهل الغرب على أهل الشرق فأنزلوا فيهم المحن والبلايا؛ وما أشد سروري عندما بلغني أن أبناء دار السلام يقصدون الاحتفال بالرجل النصراني الذي خدم العلم والأدب خدمة يسجلها له التاريخ بسطور من ذهب فهذا يفيدنا أن الإخاء والصداقة قد أشتد ساعدهما وعظمت شوكتها بين أبناء الرافدين ورجع النفاق بخفي حنين.
الكرملي عربي صميم ينتمي إلى ميخائيل جبرائيل من بيت عواد. وهو بيت قديم في جبل لبنان، يرجع أصحابه في نسبهم العريق إلى بني مراد الشهيرين في تاريخ العرب في عهد الجاهلية. ظعن جدهم الأعلى إلى لبنان وهناك بقي مع ذريته إلى عهدنا هذا وتفرغ منه فرع في بغداد. أما أمه فمن بيت جبران وهو أقدم بيت نصراني في بغداد. وكان جبرائيل عواد رجلا دينا هبط بغداد فأتخذ له اسم (ميخائيل ماريني لأمور سياسية ألجأته الأحوال إليها.
الكرملي أديب أوتي قدرة بارعة على البيان يستطيع أن يتصرف فيها كيفما يشاء فينقل بواسطتها إلى مخاطبة كل ما توحيه إليه قواه العقلية التي لا تقل عن قدرته البيانية براعة.
الكرملي كاتب ينظم جواهر الألفاظ بسمط البلاغة ويجليها بإكساب الفصاحة ثم يعلقها على معان وزنها العقل السليم وأنتجها الفكر المستقيم فكلامه خفيف الوقع على الأسماع عظيم التأثير في الطباع شديد التعلق بالقلوب.
الكرملي أول من أنشأ مجلة في الوزراء أسسها عام 1329هـ واسماها (لغة العرب) كانت سببا عظيما لرقي اللغة ونشر الفصحى من قبرها وستجد لغة عدنان بفضل الكرملي - حياتها الخالدة.
الكرملي شيد صروح فن الانتقاد في العراق فوزن الكتب والآثار في مجلته وفي غيرها بقيمة الإنصاف وانتقدها انتقادا سالما من الأغراض منزها عن شوائب
الغايات.
الكرملي عرف الناس بتاريخ هذه البلاد نشر من المؤلفات وما أورد في مجلته عنها. كانت الناشة العراقية تجل تاريخ بلادها من غير أن تعرفه فصارت عالمة به بعد ما وقفت على (خلاصة تاريخ العراق) و (الفوز بالمراد) اللذين استخرجهما من كتب السلف والعلماء والمستشرقين، نعم أن البعض من حاضر وسلف وضعوا مصنفات في هذا الموضوع إلا أن نواقصها كانت كثيرة ومنها عدم إيرادها لتاريخ العراق في القرون الأخيرة فالكرملي سد هذا الخلل بهمته الشماء.
هذا ما أكتبه الآن خدمة للتاريخ وتلبية لطلب رئيس اللجنة أعزه الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سبزوار (إيران)
من خادم العلم والدين محمد مهدي العلوي
من زنجان
حضرة العلامة الجليل الأستاذ الزهاوي الكبير
تلقيت دعوتكم في وقتها وشكرت فضلكم. أحب شعراء قطرنا وأدباؤه أن يشتركوا بفخر في إجلال العلامة النابغة الكرملي الذي هو أهل له بخدمته العظيمة التي تذكر وتشكر مدة نصف قرن كما أن حسن صنيعكم بالقيام بتأسيس هذه الحفلة يحمد لكم حمدا صميما فقدم الشاعر المفلق الجليل الميرزا أبو الفضل (كرمان) قصيدة تعرب عن حسه الدقيق لفعل الجميل بكل معنى الكلمة وهذا الشاعر الجليل ولد في سنة 1314هـ ومنخرط في سلك أحرار الوزارة المالية في إيران.
وقدم إلينا قصيدة أخرى الشاعر الكبير خسرو ميرزا المولود سنة 1310هـ وهو من أعيان قطرنا والرجاء أن تنال قصيدتهما قبولا لديكم وتكون دليلا على حسن نظر الفارسيين وإجلالهم للعلم وذويه من غير فرق بين قوم ونحلة فأن دولة العلم يجمع تحت لواءها جميع محبيه وأهله. . .
المخلص لكم أبو عبد الله الزنجاني
(اللجنة) وصلت القصيدتان ولكون حرف المجلة عربيا صرفا لم تتمكن المجلة من درجهما.
تهنئة باليوبيل
سيدي العلامة المحترم الكبير الزهاوي الأستاذ الفيلسوف
أهنئكم تهنئة الحب والإخلاص، بإقامة بعض أدبائنا الناهضين الحفلة الشائقة التي رن صداها، ليس في سماء العالم العربي فحسب، بل شمل جميع أرجاء العالم الشرقي والغربي، وهي أول حفلة تكريمية أقيمت لهذا العلامة الروحي الكبير في عاصمة هذه البلاد العربية ولم يسبقها مثال، مما يدلنا على أننا بدأنا حياة الرجال الناهضين في خدمة العلم والدائبين في نشر الأدب العربي والرافعين لواءهما أمام من يريد أن يرتشف من مناهله العذبة ويقتبس من أنواره الساطعة؛ ونشعر بالواجب نحو وطننا، ورجاله المصلحين البررة لإقامة حفلة تكريمية نشجع فيها نحن العرب العلماء والأدباء، وأرباب الصحف وغيرهم وأن كنا نثق كل الثقة بشجاعة كل فرد نحو وطنه وأمته وتحريه الخدمة الملائمة له، والمصلحة النوعية لأبناء جلدته، وبذل النفس والنفيس، وما عز وهان في سبيل نشر العلم والعرفان، إلا أن إقامة هذا (اليوبيل) المهم الذي يعقد في بغداد سنة 1928 لتكريم العلامة المحقق الباحث الكبير الأب أنستاس الكرملي ذلك القس الغيور على اللغة الشريفة لغة يعرب والذي انخرط في سلك الرهبان وزهد في مشاغل الحياة ولذاتها وعكف منذ صغره على لغة القرآن، فخدمها خدمة خلدت عند الأمة ذكره وأوجبت علينا شكره فواجب إكرامه من أعظم الواجبات الضرورية وأهم الأعمال الحيوية، التي تمهد لقادة العلم والأدب مستقبلا زاهرا وستكون هذه الحفلة التاريخية قدوة حسنة لمن أراد أن يقتفي أثرها ويسير على منهاجها حذو القذة بالقذة هذا ورجائي قبول هذه الكلمة الموجزة التي سطرها قلمنا القاصر، ونهنئ الرجال الناهضين بهذه الأعمال الطيبة والقائمين بيوبيل العلامة الكرملي وعلى الأخص الصديق الحميم والأديب المحبوب الصراف، والسلام عليهم وعليكم في المبدأ والختام.
النجف: عبد المولى الطريحي
اللغة العربية في يوبيل الأب أنستاس
رأيتها واقفة وبيدها بوقها الذهبي تنفخ فيه لتسمع الأمم بهذا العيد الخمسيني وتتباهى بحبيبها البار.
هي الفتاة المعروقة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
رأيتها واقفة بين المهنئين رافعة صوتها المطرب وهو من ذوات الأوتار تبشر أبناء يعرب بهذا (اليوبيل الذهبي) مقبلة عليهم بمحياها الوضاح ووميض التبسم مرتسم على فمها الحلو الذي لا يبرح يسقي بلماه العذب قلوب محبيها!
هي الفتاة المعشوقة غزالة الصحراء! هب لغة الجدود!!!
رأيتها واقفة أمام المجتمعين تخطب وصوتها يرن في آفاق القلوب، وهو من ذوات الأوتار مشمرة عن ذراعيها كأنهما جمارتان تلوح بهما نحو الجهات التي يسكنها أبناء الضاد المتفرقين هنا وهناك، تناديهم (ألا هبوا من رقادكم يا نيام واجتمعوا في نادي لأسمعكم حديث نفسي وأبثكم أسرارها.
هي الفتاة العربية غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
سمعتها تقول إلا أنصتوا لنبوتي:
أيتها الأمم إلى متى وأنتم متفرقون بعلة (برج بابل)؟ أليس الإنسان أخاً الإنسان؟!
هلموا وانضموا تحت راية وحدتي واحتشدوا في ساحتي الرحبة متصافحين يدا بيد متفاهمين فما أنتم، بدلا عن هذا التنافر من جراء هذه العجمة، كل واحد منكم كأنه الأخرس مع أنه طلق اللسان أو مثل الطفل أمام الطفل لا يفهم مراما. آه وألف آه!
أنا الفتاة العربية غزالة الصحراء! أنا لغة الجدود!
صاحبت الأجيال وأنضجتني الدهور فازددت جمالا كما ترون، وأنتم الذين لا ترون جمالي اقتربوا مني تبصروا في بديع جلاله، والله أنا لغة الإنسان الأعلى (السبرمان)! أنا لغة الفردوس الأرضي!
والله أنا لا غير سوف أجمع في الأخير كلمة الأمم، فلا بأس بأختي (الأسبرانتو) فهي مقدمة الزاحف لا غير إلى حظيرة الإنسانية، ويحرم عليها الدخول في بيت (قدس الأقداس) قبلي! بل أنا داخلة إليه بجماهير الأمم فيه.
هي الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
سمعتها تقول وقولها ملؤه الحنان:
ألست أنا فتاتكم؟ أواه!! لماذا أنتم عني منصرفون؟ أناديكم ولا تجيبونني كأنني عجوز درداء شوه الدهر محاسنها، ألست أنا ربيبة أولئك الأباء الباسلين وسليلة تيك العرائس الأوانس؟
أترون جمالا خيرا من جمالي؟
أهذه سنة العشاق؟ أهذا جرى بين الأحباب في سابق الزمان؟
والله أن هذا لهو العجب العجاب!
هي الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
سمعتها تقول:
أنا أحصل على أرديتي بعرق الجبين وفتيات الأمم تتردى أرديتها وتتزيا بأزيائها بلا عناء وكلها مهيأة وذلك بثمن زهيد من أسواقها القائمة، ومع هذا أني حافظت على جمالي لئلا أبرز إليكم مبتذلة مشوهة الهندام قدام الأمم. وبودي أن أظهركم جميلين معي أمام الناس، من منكم تقرب إلي ولم أبرزه للناس جميلا، هذا علي بن أبي طالب، هذا الجاحظ، هذا جبران، هذا المنفلوطي، هذا الريحاني أينقصهم جمال؟
أالذنب ذنبي؟ أجيبوني يرحمكم الله!
أنا الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! أنا لغة الجدود!
سمعتها تقول:
أي: أولاد عدنان، ألم تخجلوا من أسمالي وملابسي هذه الرثة حينما أبرز أمام الأمم، فما لكم لا تذهبون إلى أسواق الأمم تبتغون لي أحسن الحلل اللائقة بي وغوالي الطيب لا تطيب بها واثمن العقود لا تجمل بها في هذه الحياة؟ لأن زي هذا العصر غير الزي الذي أنا متزينة له، فأبدلوه بل مزقوه يا كرام!
لا لا تستدلوا على فقري من منظر أرديتي فتقولوا أنها معدمة، بل أن حقائبي أمامكم كلها مملوءة من الدينار الفتان والدرهم الرنان، هاكم تزودوا منها ما شئتم فعليكم الحركة ومني البركة.
أنا الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! أنا لغة الجحود!
سمعتها تقول وبيدها سورة من سور العتاب: (وأبيكم، وهو قسم، لو تعلمون عظيم! لولا نفر من عشاقي وهو مبعث أحلامي ومصدر رجائي لهجرتكم هجر الرائل سغيبته. ولكن هذه صبابتي وهذا العشق المتبادل بيننا جعلني أرغب في البقاء وأصبر على مضض إعراضكم عني الذي - والله - علي لا شيء، فالله الله بفتاتكم!)
هي الفتاة المعشوقة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
رأيتها واقفة أمام جماهير محبيها الذين لبوا نداءها القدس، سمعتها تقرأ آية من آيات الحب:
(ألا انظروا أيها الأحباب إلى هذا الحبيب أتعرفون من هو؟ هو إذا ذكرته في نواديكم المقدسة فمن المحتم أن يقرن اسمه باسمي لأنه هو أنا وأنا هو.
أليس هذا هو الحبيب؟)
هي الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
هو نقطة الضاد هو الأستاذ اللغوي.
سمعتها تقرأ في سفر الحياة:
(منذ بدأ في السير في جادة الحياة وهو في باكورة شبيبته صادفها مع سرب من فتيات الناس، وطفقا في السير معا وفي نيته أن يقضي معها السير إلى منعطف الطريق ثم يفارقها، ولكن الحديث أخذ بعضه برقاب بعض فتكشفت الأسرار وأسفرت له بجمالها الفتان، فصار عشقا مقدسا.)
هي الفتاة المحبوبة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
هو نقطة الضاد هو الأستاذ أنستاس.
سمعتها تقول:
(لقد صرف معي خمسين حجة وها قد ذرف على الستين، وهو يتعهدني بحاله هذه المذهبة لا يزال يحملها إلي تارة في أطباق (المقتطف) وأخرى في أطباق (الهلال) وطوراً في أطباق (المشرق) وعلى التوالي في أطباق (لغة الجدود) وفي أطباق الأدب المتعددة.)
حلل ما أجود نسجها وأحسن صنعها وما أبهج ألوانها إذ دونها ريش الطواويس.
كم من صندوق لتجار المؤرخين فتش كي يحصل على خيوط وطاقات ليربط بها سدى هذه البرود.
وكم سوقاً من سوق حفاري طبقات الأرض جال فيها ليلقط من أحجارها الكريمة فيرصع صدر هذه الحلل.
وكم مرة جال مع طبقات الناس للسماع عن زي لون جديد يليق بهذه الملابس!
هي الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
هو نقطة الضاد هو العلامة اللغوي الأستاذ أنستاس.
سمعتها تهتف بصوتها المطرب وهو من ذوات الأوتار: يا فتيان الرافدين ويا فتيان
النيل ويا فتيان بردى ويا فتيان لبنان الساكنين في بلاد العالم الجديد ويا فتيان الصحراء.
أبشركم يا أحبائي وأعزائي أن هذا اليوم يوم التكريم أن هذا اليوم يوم ترف فيه أعلام السرور في سماء بغداد! هذا اليوم يوم عيد يوبيل أخيكم البار!
هي الفتاة الجميلة غزالة الصحراء! هي لغة الجدود!
سمعتها تنشد بصوتها الرخيم:
إلا قولوا معي وأمنوا فليحي الأدب وليبق العرب!
إلا قولوا معي وأمنوا فليحي أولو الوفاء أولو الهمم!
إلا قولوا معي وأمنوا ورددوا ذكر الحبور عيد السرور على مر الدهور بين الأمم.
الشطرة: رشيد الشعرباف
صوت من الكويت
بسم الله من الكويت إلى بغداد:
إلى حضرة الأديب الفاضل الأجل الأخ العزيز طاهر أفندي القيسي دام مجده وعلاه.
تحية واحتراما. وبعد فقد وردني كتاب كريم من لجنة يوبيل الكرملي فيه دعوة الكويتيين إلى مشاركة إخوانهم في حفلة تكريم الأستاذ الأب أنستاس الكرملي لبذله قصارى جهده في خدمة اللغة العربية وهي دعوة يجب على العرب عموما تلبيتها. وكان بودي أن تتاح لي فرصة ليحضر تلك الحفلة الزاهرة وأمتع السمع بما سيردد في أرجائها من القصائد الغر والمقالات البديعة ولكن الأشغال - والأسف ملء الجوانح - تعوقني عما أريد. لهذا بعثت إليكم اليوم بهذه الكلمة معتذرا أو طالب قبول العذر مع أعلامي إياكم مشاركتنا لأهل ذلك الاحتفال في شعورهم وعواطفهم وإن لم نحضر إذ نحن نرى أن خدمة اللغة العربية مما
تستحق الاعتناء التام ومما يجب أن يعرف للقائمين بخدمتها قدرهم. إننا نشارككم في تكريم الأستاذ الكرملي لخدمة تلك اللغة الشريفة الحية ذات البهاء والجلال والحسن والجمال الفتان هذا ما لزم.
الكويت: عبد العزيز الرشيد
صوت من مرسيلية
حضرة السري الأمثل السيد حامد أفندي الصراف المحترم أحد أعضاء اللجنة التي أنشئت لتكريم مثير دفائن لغتنا الوضاءة الأب أنستاس الجزيل الحرمة.
كم استفزني واجب الإقرار بالفضل والأدب أن أهرع إلى مشايعة الألباء أرباب النبل والوفاء الذين ائتمروا على إقامة احتفال يوبيلي لعلامة عراقنا الأغر الأب أنستاس ماري إيذانا ببذل ما عنده في إحياء رسوم اللغة وجمع شتيتها وجلائه غياهب الأوهام عن كثير من مسائلها التي ضرب إليها آباط المسالك بما لم تحلم به عقول المعاصرين والأوائل ممن اشتهروا بوحي الفكرة وسمو المدارك؛ إذ برهن على أن كثيرا مما انضوا في طلبه ركاب الأعمار لم يكن إلا نسجاً على غير منوال وطبعا على أسوأ نموذج ومثال؛ فأيد بذلك دولة اللغة ودعائم العلم الذي به أتسع نطاق المعارف البشرية إلى ما تجاوز مرمى الحواس والمدارك العقلية. إلا أنني لم أنكص عن القيام بما يتطلبه مني الواجب في ذلك الباب إلا ما تراءى لي من أن مجال القول ذو سعة ولا ندحة لي عن أن أطلق العنان للجنان ليمثل للعيان كيف يتشعع (النجم) في العنان؛ كيف كان يستتب لي مزاولة مثل هذا الشأن وأنا الآن مقيم ههنا في دار هجرتي وليس بين يدي من المراجع اللغوية وغيرها ما استعين على التنكب عن الهفوات والعثرات والانتبار لعقد الموازنات بين علامتنا وبين من تقدمه في التجلية في الحلبات؟ إذ أنني كنت أوثر أن اسم خطبتي ب (للناس فيما يعشقون مذاهب) وهذا ليس من المواضيع التي لا تستدعي الأعقد حكاية لتمثيل عاطفة بل من المواضيع المهمة التي تستلزم جمع مواد من موارد شتى لوفاء الموضوع قسطه في جميع أنحائه حيث أن ما أبرز أمامنا اللغوي من نتاج مواصلته إناء الليل بأطراف النهار إنما كان به نسيج وحده؛ وما بلغ ما بلغ إليه من القبض على أعناق اللغة وهتكه الستار عن كنه حقائقها وخباياها دون أن يفوت طرفه شيء من دخيلها ومولدها ومثقفها وآودها حتى غدا
ربها وقيمها إلا بفضل ما أوتي من سمو المواهب والثبات والصبر على مزاولة المطالب
هو جدير بأن يتخذ قدوة في التحري والاجتهاد في استخراج الحقائق المطموسة
وإرشاد البصائر إليها توسيعا لنطاق العلم واغتناما لبقاء الذكر؛ ومن ثم كنت أنوي أن أختم الخطبة بزف تهنئة نفيسة للغة نفسها حيث قيض لها من بين الأفواج ممن خاضوا غمرات الحياة ونفضوا أنحاء العلم في الانتهاء بها إلى ذروتها الحرية بالاعتبار من أعطى القدرة على البحث في أوعر مسائلها والإتيان على أطرافها والإحاطة بأكنافها حتى كشف ستر الغموض عنها إلا وهو الإمام الذي ائتمرتم على تكريم صنيعه وتقدير عنائه ووفاء اجره مما حق له أن يكون غرة أقطابها دون أن ينازعه في ذلك منازع.
فقد تبين مما تقدم بسطه أن المرء قد يخالف جهة القصد وهو يراها ويصرف عنانه عن الأمنية وهو يتوخاها وما أود أن أزيد على هذا القدر في الاعتذار إن صح أن يسمى مثل ذلك عذراً.
وهنا محل لأجهر بالثناء الطيب على حضرتكم وسائر حضرات أعضاء اللجنة إثر تنبهكم للقيام بهذه المأثرة الأدبية العراقية التي هي ولا ريب أصدق إمارة على يقظة وطننا من غفلته وهبوبه من ضجعته؛ واشكر في الختام دعوة اللجنة إياي إلى الانحياز إلى مصاف المهنئين الأدباء وأتمنى بلوغها في ذرى النجابة إلى المكان الذي يؤهله لها نبلها بالهام المولى سبحانه وحسن تسديده.
عراقي
الدائب للوطن
قال أحد الحكماء: العلم شيء، والعمل شيء، والمنفعة شيء، فربما كان علم ولم يكن عمل، وربما كان عمل ولم يكن علم، وربما كان علم وعمل ولم تكن منفعة. وقد يجتمع العلم والعمل والمنفعة في فرد من الأفراد المعدودين على الأصابع كما اجتمعت في سيرة المترجم.
نرى بين الناس من يتعلم العلم لينفع به نفسه فقط، ومنهم من يتعلمه ليفيد به نفسه وغيره، إذ يجعله وسيلة للحصول على حطام هذه الدنيا أو لتقويم أود معاشه، ومنهم من يتعلم العلم ويسبر غوره ويغوص على درره في أغوار بحره حارما نفسه خيراته وثماره اليانعة بها
أخوته بلا مقابل يذكر فترى صاحبه يسهر جفنه ويدمي
مقلته في التحرير والتحبير خدمة خالصة لأبناء جيله ومن هؤلاء الأفراد الأفذاذ العلامة الكرملي.
لقد وضع صاحب الترجمة تأليف عديدة من أدبية ولغوية واجتماعية وتاريخية. وغايته من جميعها خدمة الحقيقة لا غير وقد استفاد كاتب هذه السطور فوائد لا تحصى من مقالاته المنشورة على صفحات المجلات وأخص منها بالذكر ما كان يتعلق بتاريخ ديارنا العراقية كالطائر الخفاق على أطلال العراق والصابئة أو المندائية واليزيدية وغيرها من النبذ التي يطول تعدادها:
(كيف تعرفت بالمترجم)
كنت قد أصدرت مجلة باسم العلوم عام 1910 وقد جاء في مطاوي أبحاث الجزء الأول لفظة (بليون) وقلت إنها مليون مرة مليونا فأعترض بعض الشبان الذين تخرجوا في المدارس البغدادية على لفظه بليون وقالوا إنها خطأ بمعنى مليون المليون فراجعت إذ ذاك المحتفل به وعرضت عليه هذه المسألة فرحب بي غاية الترحيب وقال لي أنك مصيب في قولك هذا وقد ذهبت مذهب الإنكليز والألمانيين في تعبيرك بيد أن الفرنسيين استعملوا هذه بمعنى المليار أي ألف المليون وعلى أثر ذلك ألقى على مسامعي خطبة في الكتابة والإنشاء لا يزال صداها يرن في أذني، منها قوله:
يجب على الكاتب العصري أن يدرس الموضوع الذي يتوخاه درسا دقيقا ويراجع مباحث من سبقه في نفس الموضوع لئلا يكتب شيئا خلاف الحقيقة كجماعة من الصحفيين الذين لا يتروون في ما تخطه أناملهم حق التروي فتجيء مقالاتهم مشوهة أقبح تشويه. ثم عليك أن تكتب في المواضيع المبتكرة قدر جهدك ولا تطرق أبواب مباحث قد أكل عليها الدهر وشرب فأن بحثك وأن اختلف لفظا فهو لا يختلف معنى عمن تقدمك في بحثك أكثر الأحايين وأبذل مجهودك في أن تجعل كتاباتك حسنة مما يفتخر بها الوطن.
فاستحكمت منذ ذلك اليوم عرى الصداقة والإخلاص بيننا ولا نزال على ما كنا عليه منذ أول تعارفنا.
وللأب أنستاس فضل لا ينكر في تثقيفي وتدريبي على الإنشاء فأنا تلميذه
وخريجه وإقرارا بفضله العلمي والأدبي أهديته باكورة تآليفي وهو معجم معربات عوام العراق لأنه أثر من
آثاره اللغوية العديدة.
فعسى أن يأخذ الله بيده ليقوى على نشر كتبه وجمع مقالاته مجلدات ليرجع إليها عند البحث والتنقيب الأدباء أنه سميع مجيب.
تلميذه رزوق عيسى
الأب الكرملي
من صاحب الزهور (الحيفوية)
كثيرون هم أبطال العرب في عصرنا الحاضر، وليست بطولة السيف وقد يعتورها بعض المرات ضعف الاستكانة إلى ما هو أقوى منها من أدوات التدمير العصرية. ولكن البطولة الحقيقية التي نعنيها هي بطولة النبوغ والتبريز في حلبة جهاد يندفع الإنسان فيها، بطولة الخدمة الصحيحة للأدب والعلم، بطولة العمل بقوة نفس وبجد وثبات في سبيل غاية يرمي الإنسان إليها. وفي طليعة أبطال العرب اليوم في هذا النوع من البطولة حضرة العلامة المفضال والفيلسوف اللغوي المحقق الأب انستاس ماري الكرملي العالم العامل بإخلاص وتفان في ميدان الجهاد الواسع الذي نزل فيه منذ أن تذوق طعم الأدب وشعر من نفسه ميلا للغة العرب لغة آبائه وأجداده، ومنذ أن عرف ما خفي على غيره معرفته فيها أي منذ خمسين سنة.
عرفنا هذا الرجل النابغة - ومن لا يعرفه - بمباحثه المفيدة المختلفة في أرقى صحف العالم العربي كلها تبحث بحث العارف المتخصص في اللغة وآدابها وفلسفتها في اشتقاقات كلماتها، عرفناه بمجلة (لغة العرب) التي أصدرها مدة لجهاده المتواصل وللجهود التي يبذلها للوصول بأبحاثه إلى أقصى حد ممكن من التنقيب والدرس قشعا لغياهب الظلمات وطردا لغيوم الجهل وفتحا لمغالق لا تزال بعيدة المنال على طارقيها في العلوم والمعارف؛ عرفناه أيضا بشخصه الكريم وبعلو
نفسه وواسع اطلاعه ورحابة صدره يوم كان بين ظهرانينا في حيفا وقد قطن الكرمل جبل الوحي في أحد أديار رهبانيته وانفرد فيه إلى الله مستوحيا مبتهلا وقد كان فيه كعبة القصاد من رجال العلم يأتونه من كل حدب وصوب ليقفوا على آرائه الصائبة في اللغة. عرفناه كريم النفس واليد سخياً بعلمه ومعارفه وأدبه لا يخيب سائلاً ولا يرد طالباً. عرفناه أخيراً وعرفه جميع قراء مجلتنا (الزهرة) وقد خصها حضرته في سنتها الخامسة بأبحاثه القيمة حول نقد معجم (أقرب الموارد) وكان له في كل عدد مقال من هذا النوع يذكر له فيشكر عليه ليس منا فقط بل من كل من تابع هاتيك الأبحاث وجنى من فوائدها الجمة. . .
كنا نتمنى على الله أن يبقى حضرته بيننا إعلاناً لشأن الأدب في محيطنا ولكي نستزيده
فائدة ولكنا تمنينا من جهة أخرى أن يعود إلى جهاده في العراق إلى جانب خزائن كتبه الحاوية لكثير مما لا تحويه غيرها من نفائس المطبوع والمخطوط ومن ذخائر الأدب ما يمكنه معه أن تزداد اللغة من خدماته ويمكنه أن يتم ما أبتدأ به من الأعمال الأدبية خصوصا ذلك المعجم الكبير الذي سيكون الوحيد من نوعه إذا مد الله بعمره وابرز المعجم إلى عالم الأدب، ويمكنه أيضاً أن يستأنف إصدار مجلته (لغة العرب) وهي نطاق واسع لجهاده المبرور وأثر خالد لأعماله المجيدة ولسان ناطق يردد صدى أبحاثه وآرائه المفيدة بين الناطقين بالضاد.
هذا هو البطل العربي العصري الذي تألفت في العراق لجنة برئاسة فيلسوف الشعراء الأستاذ الكبير جميل صدقي الزهاوي وعضوية أكابر العلماء الأعلام هناك لتكريمه وقد سألت هذه اللجنة العالم العربي أجمع للاشتراك معها في هذا التكريم في حفلة تقام في بغداد في 16 من شهر أيلول الحالي. وإننا من فلسطين البلاد المقدسة، ومن حيفا ثغر الكرمل البسام إذا ما مددنا يدنا إلى أيدي القائمين بتكريم العلم والنبوغ شخص الأب الكرملي لنصافحها شاكرين لها المسعى فإنما نكون مخلصين بهذه المصافحة وحضرة المكرم عزيز على الجميع حقيق بالتكريم وجدير بكل ما يوجه إليه من الآيات الباهرات في مدحه وتعداد مناقبه وأفضاله.
فهنيئا للأب الكرملي بمقامه الرفيع في القلوب وشكرا للعراق وآله على هذا المسعى الخالد الذي يقومون به والله المسؤول أن يجازيهم على الأدب خيرا وأن يطيل بعمر صاحب اليوبيل ليكمل جهاده الأدبي فينال بعد ذلك الإكليل المعد للمجاهدين الأبرار والسلام.
جميل البحري صاحب مجلة الزهرة وجريدة الزهرة
يوبيل العلامة الكرملي للحكيم الأستاذ مرشد خاطر
احتفلت الزوراء في 16 أيلول المنصرم بيوبيل حضرة العلامة الطائر الصيت الأب أنستاس ماري الكرملي تقديراً لمقامه العلمي الكبير وخدمة الجليلة التي أسداها إلى اللغة العربية وقد رأس الحفلة شاعر بغداد الكبير وفيلسوفها الشهير جميل بك صدقي الزهاوي فكان ذلك اليوم كسوق عكاظ نثرت فيه درر الخطب ونظمت لآلئ القصائد الغوالي في مدح المحتفى به ولا عجب إذا هبت بغداد لتكريم علم أعلامها ونابغتها الكبير وهو الذي خدم
اللغة العربية نصف قرن باحثا منقبا، وهو الذي أنشأ مجلته (لغة العرب) فكانت أداة وصل بين الشرق والغرب، وهو الذي وضع من المؤلفات زهاء ثلاثين مؤلفا منها (تاريخ بغداد) و (تاريخ العراق) و (تاريخ الكرد) و (العرب قبل الإسلام) ومعاجم ثلاثة نادرة لم تطبع بعد، وهو الذي بانتمائه إلى العراق قد جعل بغداد قبلة العرب والمستشرقين وقد كنا من الذين بهرهم ذلك النور الثاقب منظوراً إليه يستضيئون به في رحلتهم العلمية المظلمة فكم من المصطلحات الطبية التي وضعها فاحكم وضعها وكم من الألفاظ القديمة التي أحياها بعد إن كانت مندثرة وأن مجلة معهدنا هذه ومؤلفنا (السريريات والمداواة الطبية) الذي أنجز طبع جزئه الأول لبرهان ساطع على ما للعلامة الكرملي على لغة الطب وعلينا من الفضل.
فنحن نتمنى لصديقنا ورصيفنا الفاضل يوبيلا مباركا وحياة طويلة لتستفيد البلاد العربية من علومه الغزيرة.
إلى الزهاوي الفيلسوف الخطير
حضرة الأستاذ المفضال والفيلسوف الشاعر السيد جميل زهاوي المحترم تحية واحتراما
وبعد فلقد تلقت إدارة هذه المجلة ما تكرمتم به من دعوة صاحبها إلى حضور حفلة تكريم الأب العلامة المفضال انستاس الكرملي. ولما كان يتعذر علينا اغتنام هذه الفرصة الثمينة للاشتراك في تكريم نابغة العرب جئنا بأسطرنا هذه معتذرين عن تخلفنا عن تلبية ندائكم راجين أن تتكرموا وترسلوا إلينا نبذة من تاريخ العالم المومأ إليه مصحوبة برسمه الفوتوغرافي أو الزنكوغرافي إن كان ذلك ميسورا. لنتمكن من نشره في عدد تشرين الأول القادم وهو العدد الأول من المجلة بعد احتجابها الصيفي ثم نعيده إليكم فورا مصحوبا بخالص شكرنا وامتناننا لازلتم فخرا للغة العربية ومن خيرة حملة ألويتها الخفافة سيدي
حلب في 27 آب سنة 1928
القس أغناطيوس سعد صاحب مجلة القربا
يوبيل الأب انستاس ماري الكرملي الخمسيني
تألفت في العراق لجنة رأسها فيلسوف الشعراء جميل صدقي الزهاوي وانضم إليها فريق
من علماء القوم وفضلائه وقد دعت هذه اللجنة الكريمة العالم العربي أجمع إلى الاشتراك في احتفال كبير إقامته في السادس عشر من شهر أيلول المنصرم في عاصمة العباسيين لمرور خمسين عاما على جهاد الأب انستاس ماري الكرملي في سبيل اللغة العربية ويا له من جهاد عظيم سيتمتع أبناؤها بثماره الغزيرة الطيبة مدى الأحقاب.
قليلون هم أولئك الذي لا يعرفون الأب المحتفى به فهو كتاب التحرير المبدع الذي لم تخل مجلة من مقالاته الرنانة ومباحثه المبتكرة الشائقة وهو اللغوي المدقق الذي أماط اللثام عما جاء في معاجم اللغة من مثل لسان العرب وتاج العروس ومحيط المحيط وأقرب الموارد وغيرها من أغلاط ومفاسد وهو العالم المحقق الذي أراد أن يتفرغ بكليته للغة العرب فأنصب على درس الآرامية والعبرية والحبشية
والفارسية والتركية والصابئية وهو صاحب مجلة (لغة العرب) الطائرة الصيت والمنقطعة النظير صاحبة الأيادي البيضاء على كثير من الكتبة والمؤلفين.
وقد ذاع فضله في الشرق والغرب فألحت عليه بعض المجامع العلمية في الانضمام إليها والعمل وإياها فلم يلب إلا طلب مجمع الشرقيات الألماني ومجمع العربي العلمي بدمشق وذلك لضيق أوقاته.
وقد أنفق عمره في التأليف حتى بلغت مؤلفاته الثلاثين مجلدا ولسوء طالع العربية استولى الأتراك أبان الحرب العالمية على هذه المؤلفات الثمينة وجعلوها طعام النار فلم ينج منها إلا القليل.
وقد جاب الأفاق والأمصار سعيا وراء الحصول على الكتب الخطية النفيسة فجمع منها في مدة أربعين سنة ما كلفه نحو ثمانية آلاف ليرة ذهبا وقد بلغ عدد المجلدات على أنواعها أثني عشر ألفا أتلفت يد الأتراك الأثيمة في 7 آذار سنة 1917 معظم تلك الكنوز النادرة.
فلا عجب إذا كانت الحكومة العثمانية تنظر إليه شزرا وقد أعلى منار لغة العرب جاعلا لأبنائها رابطة تفاهم وعلم وأدب ولا بدع إذا كانت تتحين الفرص لتوقع به وتثأر لأبنائها منه.
فلم تكد تدور رحى الحرب العالمية وتعلن الأحكام العرفية في البلاد العثمانية ويخلو الجو لحكومتها حتى ساقته في طليعة من ساقتهم إلى بلاد الأناضول السحيقة ملتقى رجال العلم
والفضل والوطنية في ذلك العهد المشؤوم وقد أجتاز في طريقه إليها بحلب حيث جعل سجنه في الغرفة القذرة المظلمة الكائنة تحت درج دار سجن الولاية وترامى خبره إلى الطيب الذكر المرحوم السنيور كاوتيري قنصل دولة إيطاليا بحلب فأخذ يعمل سرا على تخليصه إذ لم يكن في وسعه أن يتوسط علنا لدى المراجع الإيجابية لأن إيطاليا كانت في ذلك الحين على أهبة الانضمام إلى صفوف الحلفاء وكانت حكومة الأتراك حانقة عليها تعمل على كيدها. فأتى دار المطرانية المارونية حيث اختلى بصاحب السيادة المطران ميخائيل أخرس رئيس أساقفة الموارنة وبعد المفاوضة قر رأيهما على إرسال القس اغناطيوس سعد صاحب هذه المجلة إلى افتقاد السجين في سجنه ومراجعة ترجمان الولاية في أمره فذهب كاتب
هذه السطور ورأي العالم الكبير المفضال وما هو عليه من سوء الحال وحرج المكان وعرض عليه باسم سيادة الموفد ما يحتاج إليه من الخدم وأطلعه على اهتمام سيادته مع قنصل دولة إيطاليا بأمره وأنه موفد لمراجعة أولياء الأمر في شانة. ثم غادره وسار إلى دائرة الترجمة حيث قابل قدرة بك ترجمان الولاية في ذلك العهد وصاحب الكلمة لدى والي الولاية جلال بك. فلم يسمع الترجمان بوجود الأب الكرملي في السجن حتى دهش لذلك أعظم الدهش وقال له: الكرملي ذلك العالم الكبير هنا! إن أمره يهمني في درجة قصوى وسأصرف جهدي في الإفراج عنه. فأسرع صاحب المجلة فورا إلى سجن الأب والفؤاد منه يطفح بشرا وحبورا وبشره باهتمام قدرة بك بإطلاق سراحه وهو صاحب الحل والربط. فعبس الأب وجهه وقال إن هذا الرجل لهو اعدى أعدائي وقد كاشفني العداء مرارا ببغداد. وقد صدق ظن الأب ففي اليوم الثاني لما عاد إلى زيارته أخبر أنه سبق إلى قيصرية وهناك ذاق من العذاب والتنكيل إشكالا وألوانا. ولكنه ما لبث أن أخلى سبيله وعاد إلى جهاده الواسع في سبيل اللغة والعلم. وهنا نهنئ حضرة الأب العلامة فخر العربية في هذا العصر بيوبيله الخمسيني سائلين الله أن يفسح في أجله ويصل له الأعوام بالأعوام منارا يهتدى به وحجة تساق إليها رواحل الأدباء والعلماء.
صاحب مجلة القربان
الراهب الكامل
لا أريد أن أبين تضلع المحتفل به من اللغة العربية ولا طول باعه باشتقاقها كما أني لا
أريد تعداد تآليفه ولا إذاعة ما فيها من الفوائد للناطقين بالضاد بل جل غايتي من هذه السطور تبيان خصلة من خصاله الحميدة ألا وهي (التقى) شعار الراهب الكامل.
التقى! وما التقى؟ التقى ماء المحاسن والفضائل وعصارة المناقب والشمائل، رحيق رباني يسكر الأفئدة الشريفة بشذاه، عاطفة نبيلة تهيم النفوس الكبيرة بهواها، قبس من نور الله تقطن ربوع القلب الأبية، بل شعلة روحية يستنير بها المرء في سبيل المكارم السنية، فلا عجب أذن أن يكون الكرملي هائما بحبها
باذلا مهجته منذ صباه باقتباسها.
دخل المحتفل به مدرسة الأباء الكرمليين ثم مدرسة الاتفاق الكاثوليكي وفي هاتين المدرستين رضع افاويق الفضائل فشاهده إذ ذاك رئيس الكرمليين ميالا إلى التقى ولوعا بالتحلي بها فأقترح أن يرسل إلى بيروت فقصدها سنة 1886 وانخرط في سلك تلاميذ المدرسة الأكليريكية اليسوعية وهناك أفرغ كنانة المجهود في اكتساب الفضيلة فتجلت تقاه بأجلى مظاهرها.
بل ما يدل على تقاه ترهبه في في بلجكة واقتباله درجة الكهنوت في ولا حاجة هنا إلى أن أبين ما أبداه من التقى في هذين الديرين فهي التقى التي جعلته راهبا وكاهنا معا.
آب المحتفل به إلى موطنه بغداد فتقلد زمام إدارة المدرسة الكرملية وأخذ يعلم بجد وفي الوقت نفسه كان يلقن تلاميذه مبادئ التقى المتغلغلة في صدره منذ نعومة أظفاره.
ترك إدارة المدرسة وشرع يعظ على المنابر حاثا الناس على الزهد والتقى واقتباسهما والعمل لهما.
أجل! القوا نظرة إلى لباسه، ألقوا نظرة إلى حياته اليومية فالتقى دليله ليل نهار والزهد خليله كل ساعة ودقيقة وكم شاهدت في غرفته من التقشفات ولا سيما أيام الرياضيات السنوية.
هذا ولا أريد أن أسرد ما قاساه أيام منفاه من الجفاء والقساوة من قبل القائمين بشؤونه أما هو فما كان ينبس ببنت شفة بل كان يتحمل كل ذلك بتقى وصبر.
واليوم كم يقاسي من المنتقدين وكم يحطون من منزلته العلمية وربما بالغوا في طعنه أما هو فلم يقابلهم كما يقابلونه بل يجيبهم بحلم ماؤه التقى.
فهذه وتلك براهين قاطعة وأدلة ساطعة على منتهى تقاه.
الأسر أيها الكرملي إلى الإمام سر ولا تلتفت إلى الوراء فأن أقوال المتخرصين تذهب أدراج الرياح أدامكم الله لرفع شأن بلادنا العراقية.
بغداد: رفائيل بابو اسحق
يوبيل الأب الكرملي
ترنحت أعطاف الزوراء (بغداد) طربا ليوبيل حضرة العلامة الشهير صديقنا ورصيفنا الأب أنستاس ماري الكرملي (من آل عواد الأسرة اللبنانية المعروفة الملقبة هناك بماريني) وذلك احتفاء بمقامه العلمي الكبير فترأس تلك الحفلة الحافلة الشاعر الكبير الفيلسوف جميل بك صدقي الزهاوي البغدادي وألقيت الخطب النثرية والقصائد الشعرية وتبادل العلماء والأدباء التهاني بهذا المهرجان العظيم الذي نشاركهم فيه على بعد الديار داعين للمحتفل به بطول العمر للاستفادة من جهاده العلمي الدائم.
وللأستاذ الكرملي آثار ومباحث مهمة في اللغة والأدب والتاريخ والآثار والاشتقاق قلما يجاريه بها مجار تشهد له المجلات الكثيرة التي ملاها بمقالاته الرائعة وآرائه السديدة وأوضاعه اللغوية مما تداولته الأقلام وشهد به كبار العلماء ولا سيما المستشرقون في الأقطار الأوربية والأمريكية وقد كان لمجلتنا (الآثار) حظ من تلك النفثات الساحرة فأنه أتحفها مقالات نشرت (في المجلد الثاني الصفحة 334 و481 و491 والمجلد الثالث 34 و198 و484)
وهو ضليع من كثير من اللغات الشرقية والغربية قوي البنية واسع الرواية جيد الحافظة وكفى بمجلته (لغة العرب) الطائرة الشهيرة في العالم شاهدا فأنه نشر منها قبل الحرب ثلاثة مجلدات مهمة ونشر جزءين من السنة الرابعة فقضت الحرب بتعطيلها وناله ما ناله من النفي وتشتيت خزانته الحافلة بالمخطوطات النادرة والمطبوعات المهمة ولما عاد سالما أستأنف خدمة الصحافة فنشر (لغة العرب) وهي اليوم في سنتها السادسة يعرفها القراء وجدد خزانته الثمينة وقد وضع أكثر من ثلاثين مؤلفا مهما منها (تاريخ بغداد) و (تاريخ العراق) مما طبع. ونشر معجم الخليل المعروف (بالعين) فأوقفته الحرب المذكورة عند 148 صفحة منه وأسس مطبعة الأيتام لرهبنته وله (تاريخ الكرد) و (اللمع التاريخية والعلمية) و (العرب قبل الإسلام) و (معجم كبير في موافقة العربية للغات الشرقية
والغربية) وغيرها من المخطوطات.
عيسى اسكندر المعلوف
صاحب مجلة الآثار
من الأستاذ المحقق حبيب الزيات
من رسالة له:
. . . وقفت في مجلة الآثار على خبر إقامة أدباء العراق يوبيلا لك في بغداد. فما ترى كان فكرك عن سكوتي؟ بيد أني أوكد لك إنه لم يخطر على بالي أن تكون هذه الحفلة في هذه السنة وإلا لقمت بما يطلبه مني واجب الصداقة ولبعثت إليك بوفد الأدعية وبما يكنه صدري من الإعجاب بك وحبي لك وتعلقي بك ذاك التعلق الموسوم بطابع الإخلاص والاحترام.
ولا جرم أنك تعفو عني لانزوائي عن الناس ولما يتقاذفني من أمواج هذه الدنيا، إذ أراني معذبا أي عذاب، منذ أن قدمت إلى الإسكندرية وتركت أهلي في فرنسة. على أن الأبطاء في مجيئي هذا إليك لا يألم شيئا من تهانئي الحارة الخالصة من كل شائبة. فأتمنى لك العمر الطويل خيراً للغة ولشرف العلم الشرقي ولوداد المعجبين بك الكثيرين. . .
من رسالة ثانية له:
. . . بما أن لجنة اليوبيل عينت اليوم ال 16 من أيلول لإقامة ذلك المهرجان فلماذا ذكرت بعض المجلات كالآثار مثلا أن ذاك العيد أقيم وتم في يومه المعين؟ وإذا كان هناك لجنة فلماذا لم تبلغ إلى أصدقائك العديدين كلمة تبعث بها إليهم منذ أول هذه السنة ليتسنى لهم تهيئة مباحث جدية إكراما لك واحتفاء بك على غير طريق الخطب والمقالات والقصائد؟ وإذا كان قد زرع مثل هذا البلاغ فليس لي ما ألوم به اللجنة الموقرة لأنها فكرت بإيصاله إلى الأعيان البارزين من أبناء الوطن العزيز أو إلى الممتازين بتآليفهم في الآداب الشرقية. أما أنا فقد نسيت لأن جل همي التجارة. على أنه يحق لي أن أحتج وأحتج بكل قواي لكوني صديقك الحميم وما كان يجدر باللجنة أن تجهل صديقا يعرفك منذ أمد بعيد ويعجب بعلمك ودرايتك ولهذا أتيتك لأظهر لك ما يكنه صدري من الحزن والألم بهذا الصدد.
لو كنت واقفا على حقائق الأمور كما وقفت عليها الآن لكنت هيأت لك بحثا
مبتكرا قبل
براحي فريسة يتعلق بتاريخ بغداد حيث يكون بحثا وجيها لا يحتقره الأدباء ولا المستشرقون أبناء الغرب، ويظهر للجنة البغدادية في الوقت عينه أن في أبناء دمشق الفيحاء من يقدر عظيم القدر عاصمة العباسيين ومن فيها من أنجالها الكرام المشهورين بالظرف والعلم والأدب.
ويسوءني أن أراني الآن في حالة لا يمكنني أن أخرج بها عن دائرة الأشغال التي ألقتني يد الدهر فيها ولعلني أبقى فيها إلى شهر أيار من السنة القادمة 1929 فأتمكن من القبض على ناصية الأعمال وأعود إلى مقامي في فرنسة.
إذن آتيك معتذرا عن القيام بمبحث خاص بك طالبا من المولى عز وجل أن يعوض عني بآلائه أضعاف الأضعاف ويغمرك بفيض نعمه أنه سميع مجيب. . .
حياة الأب أنستاس ماري الكرملي وخدمته للعلم وللغة العربية
أيها المحفل الكريم!
اسمحوا لي أن اسمي اجتماع هذه النخبة الصالحة من رجال الدولة والفضل وأخوان العلم والأدب بالمظاهرة القومية التي تتجمد فيها العروبة ويعلو شأن الوطن. وكيف لا يكون ذلك ويجتمع شملكم في عهد الملك فيصل الأول الهاشمي، وفي دار الرئيس السعدون العربي الصميم، بإشراف الوزير السويدي العباسي، وبرئاسة شاعر العرب الفيلسوف، في تكريم من أحتسب حياته لخدمة لغة القرآن الكريم، فلتحيي العروبة، وليحيي كل عامل في سبيل العرب ولسانهم المبين.
موضوعي حياة المحتفل به الأب أنستاس ماري الكرملي وخدمته للعلم واللغة العربية.
في موضوعي مجال للإسهاب ولكني محصاة علي كلماتي حرصا على وقتكم لذلك سأوجز في القول وسأجاوز المقدمات والتمهيدات ففي حضرتكم وأنتم صفوة أهل الفضل والأدب يتناول الموضوع تواً من غير مقدمات، أي على
الطريقة الإنكليزية - في الخطابة والكتابة طبعاً.
ولد الأب أنستاس في بغداد في 5 آب سنة 1866 وسمي بطرس، فلما بلغ الثامنة من عمره دخل مدرسة الآباء الكرمليين وفي هذه المدرسة ومدرسة الاتفاق الكاثوليكي تعلم التعليم الابتدائي حتى إذا رآه مدير مدرسة الكرمليين ولوعا باللغة شاديا في آدابها، أختاره
لتدريسها وهو ابن ست عشرة سنة فقط. وما برح يدرسها إلى هذا اليوم أي مدة 46 عاما وقد تخرج على يده تلاميذ أولعوا بالعربية وطفق في ذلك الحين يكاتب بعض الجرائد كالبشير والصفاء والجوائب بالمقالات الأدبية واللغوية باسمه الصريح أو بأسماء مستعارة. وقصد سنة 1886 المدرسة اليسوعية الألكيريكية في بيروت حيث تفرغ لتدريس العربية ودراسة اللغتين اللاتينية واليونانية.
ومن هنا رحل إلى في بلجكة فترهب، وانتقل بعدها إلى لاغتو قرب نيس في كورة جبال الألب البحرية وفي الدير الكرملي هناك وتعلم الفلسفة وأنجز الدراسة اللاهوتية والفقهية في مونبليه وسيم كاهنا باسم الأب أنستاس ماري الألياوي.
وبعد أن قسس غادر فرنسة فقام برحلة في بلاد الأندلس وأطلع على مخلفات المجد العربي ثم آب إلى موطنه بغداد فتولى إدارة المدرسة الكرملية وتعليم العربية والفرنسية فيها كما أخذ على عاتقه الوعظ في الكنيسة، والبحث والكتابة في لغة القرآن.
وما لبث أن ترك إدارة المدرسة وتفرغ للوعظ والكتابة والتأليف فشرع يكتب المقالات اللغوية والعلمية في الجرائد والمجلات العربية والفرنسية وليست هناك مجلة عربية راقية إلا وقد حملت بين دفتيها بحثا للأب أنستاس الكرملي ولكنه عادة لا يوقع مقالاته باسمه الصريح لاعتبارات مختلفة أهمها ثوبه الرهباني ولعلي لا أخطئ خطيئة مميتة إذا ما أبحث في هذا الموقف بسر تواقيعه المستعارة فهي كثيرة اذكر منها: (الشيخ بعيث الخضري، وساتسنا، وأمكح - والاسم مؤلف من أول حرف لكلمات اسمه الكامل - وكلدة، وفهر الجابري. ومستهل ومتطفل، ومنتهل، ومبتدئ، ومحب الفجر، وابن الخضراء) والذي يطالع
مجلات المشرق والمقتطف والهلال والزهور والمقتبس والمباحث والمنهل وغيرها يعثر على مقالات ممتعة بهذه التواقيع. ولو جمعت مقالات المحتفل به في كتب لجاوزت المجلدات العشرة وأغلب مباحثه لم يطرقها طارق قبله، نظير أبحاثه في الصليب والنور وبني ساسان والخزاعل واليزيدية والصابئة والداوديين والركوسية والشبك والكاكائية والدوطة عند العرب والكفل وإيوان كسرى وعقرقوف والوركاء وبعض هذه المباحث يعد الأب صاحب (لغة العرب) أول من كتب فيها في العربية كما أنه أول من كتب عن كتابي اليزيدية المقدسين مصحف رش وجلوة باللغة الفرنسية في مجلة النمسية وصدر حديثا
كتاب إنكليزي جليل عن اليزيدية يشيد بفضل الأب أنستاس في هذا الأمر.
وبالنظر إلى تخصصه في الفلسفة اللغوية أضطر إلى دراسة اللغات الآرامية والعبرية والحبشية والفارسية والتركية والصابئية فألم بطرف منها ونقب في أصولها وبعض ألفاظها وتوغل في علاقاتها باللغة العربية فجاءت أبحاثه في الموضوع فريدة في بابها. وقد نفاه العثمانيون في خلال الحرب العظمى إلى الأناضول فبقي في قيصري سنة وعشرة أشهر نال في أثنائها صنوف العذاب ثم أعيد إلى بغداد.
ورحل إلى أوربة مرار أفزار معظم عواصمها وحواضرها كما طاف أشهر أقطار الشرق مرات وتجول في أنحاء العراق. وقد عينته الحكومة بعد الاحتلال عضوا في مجلس المعارف وعهدت إليه بمراقبة إنشاء جريدة (العرب) سنة وتولى إنشاء مجلة (دار السلام) ما يزيد على الثلاث سنوات.
وللمكانة التي أحرزها الأب أنستاس في عالم انتخبه مجمع المشرقيات الألماني عضوا في سنة 1911 وأختاره المجمع العربي في دمشق ليكون من أعضائه وحضر سنة 1924 مؤتمر المرسلين المنظمين للمعرض الفاتيكاني في رومية. وأهدت إليه الحكومة الإنكليزية وساما مع لقب كما أهدت إليه الحكومة الفرنسية سنة 1920 وسام وانتخبته وزارة معارفنا أحد مؤسسي المجمع اللغوي الذي ألفته في العام الماضي ولم يعش طويلا.
وقد ترجم كثير من مقالات المحتفل به إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والروسية والإيطالية والأسبانية والتركية وقام بإصلاح كتب ومقالات ورسائل
لكثيرين من الكتاب والمؤلفين وقد يبعث إليه أحيانا بعض المؤلفين والكتاب بكتبهم ورسائلهم من مصر وسورية وأوربة وأميركة ليدقق النظر فيها ويصلحها قبل طبعها.
إن انصراف الأب الكرملي إلى أبحاثه وكتابته المقالات لم يدع له مجالا لنشر مؤلفاته العديدة، وما نشر من كتبه شيء لا يعتد به ولا يمثل شخصيته العلمية والأدبية في حين أن له نحو 30 مؤلفا طبع منها خمسة كتب دينية وكتابا (الفوز بالمراد في تاريخ بغداد) و (خلاصة تاريخ العراق) وكلاهما طبع في غيابه فشوه بالأغلاط. إلا أن هذا لا يبخسه حقه في مؤلفاته الخطية الجليلة في اللغة والتاريخ ويمكنني أن أذكر منها:
(تاريخ الكرد).
(خواطر علمية) وهي موضوعات لغوية لم يطرقها الأقدمون.
(جمهرة اللغات) الحاوية أنواع اللغات واللغيات التي كان ينطق بها العرب في أقطار كثيرة من جزيرتهم جمعها من كتب الأقدمين.
(كتاب الجموع) فيه أسرار الجموع الكثيرة والأوزان الغريبة التي أفرغت فيها ولم يذكرها الصرفيون والنحاة في كتبهم.
(كتاب السحائب) يتضمن قوانين لم يذكرها الصرفيون والنحاة في كتبهم إلا أن اللغويين ذكروها استطرادا في دواوينهم.
(كتاب العجائب) ويشتمل على غرائب اللغة والصرف والنحو وردت في عدة كتب من أقدمي اللغويين ومشاهيرهم.
(الغرائب) وقد أتى فيها على ما تناثر في كتب المحققين من غرائب الصيغ والأمثلة والقواعد.
(الرغائب) ذكر فيها ما اختلج في صدور اللغويين من الصيغ والمعاني التي كانوا يودون أن تفرغ فيها اللغة.
(كتاب أديان العرب)
(حشو اللوزينج) حوى غرائب مقالات الأقدمين المبعثرة في الكتب المختلفة التي بسطها كل لغوي.
(مختارات المفيد) فيها مقالات عديدة لم تدرج في المجلات والجرائد وفي نيته أن يبرزها إلى النور شيئا بعد شيء.
(متفرقات تاريخية) ومعظمها يتناول تاريخ العراق وأقوامه.
(الأنباء التاريخية) وقد حدثنا بها عن أنباء الرافدين وجزيرة العرب في القديم والحديث.
(اللمع التاريخية والعلمية) في جزءين كبيرين.
وهي مقالات باللغة الأفرنسية في الأبحاث اللغوية والتاريخية.
(الغرر النواضر) معظمها فيه نفائس أقوال الأقدمين في الفنون والعلوم العربية.
(النغم الشجي في الرد على الشيخ إبراهيم اليازجي) في النقد اللغوي.
(العرب قبل الإسلام)
(المجموعة الذهبية) كنز فيها خواطر فلسفية.
(ترجمة كتاب أرض النهرين)
(شعراء بغداد وكتابها) وهو تنقيح كتاب ترجم عن التركية.
(رحلة بغدادي إلى اليمن) سنة 1861 نشرها باللغة الفرنسية في مجلة وهي رحلة قام بها ميخا يوسف النجار البغدادي من أهل القرن التاسع عشر إلى بلاد اليمن.
وقد فقد الكرملي في أثناء نفيه إلى الأناضول سنة 1914 ونهب من خزانة كتبه سنة 1917 طائفة من مؤلفاته الخطية الثمينة منه أربعة كتب في تصحيح المعاجم: (لسان العرب) و (تاج العروس) و (محيط المحيط) و (أقرب الموارد) ورسائل وكتب هذه موضوعاتها: -
(الألفاظ اليونانية في اللغة العربية) وقد نشر منها منا نماذج في مجلة المشرق استشهد بهذه الأبحاث على تأثير النهضة المأمونية في العقلية العربية الدكتور رفاعي في كتابه الحديث (عصر المأمون) و (الألفاظ اللاتينية في اللغة العربية) و (الألفاظ الفارسية في اللغة العربية) و (الألفاظ الدخيلة من عبرية وهندية وقبطية وحبشية وتركية في اللغة العربية). و (الألفاظ الأرمية في اللغة العربية). و (الألفاظ العربية في اللغة الفرنسية) ومقالات عديدة في إصلاح أغلاط الكتاب المعاصرين ولغة الدواوين. كما أن له انتقادات خطيرة على معجم دوزي (ملحق المعاجم العربية) ومعجم فريتاغ العربي اللاتيني.
وجمع كتاباً نفيساً في (أمثال العوام في بغداد والموصل والبصرة) و (حكايات
اللغة الدارجة) وعني بتصحيح كتاب (الإكليل) للهمداني و (الموعب) في اللغة لابن تيان و (مقامات ابن ماري) وكان قد شرع قبل الحرب العظمى بطبع كتاب (العين) للخليل بن أحمد اللغوي العراقي الشهير مع حواش لغوية فاكمل منه 144 صفحة وحالت الحرب دون إنجاز البقية. فعسى أن يتيسر من ينفق على طبع هذا الكتاب وسائر مؤلفات الكرملي الخطية لغني بها الخزانة العربية.
وقد جمع الأب الباحث كتبا نادرة المثال حوت زهاء أثني عشر ألف مجلد من مخطوط ومطبوع وأصبحت بغية القصاد من الدارسين والباحثين ولكنها أصيبت بالنهب في 7 آذار سنة 1917 فتفرقت أيدي سبا.
وعاد سنة 1918 إلى جمع الكتب وتجديد خزانته الشرقية فجمع منها زهاء أحد عشر ألف كتاب مطبوع وسبعمائة كتاب مخطوط تغلب عليها الأبحاث التاريخية واللغوية ونقل بإشرافه كتبا خطية عديدة منها ما أتلفته يد الضياع ومنها ما يحتفظ بها بغية طبعها ونشرها تعميما لفوائدها.
وكلكم تعرفون مجلة صاحب اليوبيل (لغة العرب) التي أتمت في هذه الأيام السنة السادسة فهي المجلة العربية التي تعد صلة بين علماء الشرق والغرب وتنقل معظم مقالاتها إلى اللغات الأجنبية وهي المجلة الفريدة التي تنشر أبحاثها الشهرية كثير من المجلات العلمية الأوربية والأميركية.
ويستخدم الكتاب الآن ألفاظا جديدة لبعض المسميات الحديثة ولا يعلم أنها من صنع الأب أنستاس كألفاظ برقية ل ووضيعة ل وإضبارة ل وكناشة ل ومعلمة ل ولا يمكن أن أتوغل في ذكر ألفاظ كثيرة من هذا القبيل لئلا أصدم أسماعكم بأسماء غريبة مثل اطريراء
وأهم ما يشتغل به الآن منشئ لغة العرب ثلاثة معاجم كبيرة:
1 -
معجم عربية كبير يذكر ما ذكرته المعاجم القديمة وما أغفلته.
2 -
معجم فرنسي عربي يحوي الألفاظ الأعجمية وما قابلها باللغة العربية الفصحى.
3 -
معجم عربي فرنسي مطول.
هذا غير مواصلة إصدار مجلته الحافلة بالأبحاث النفيسة وتحقيقاته اللغوية ونقداته اللاذعة وهجماته الفاتكة مما تجدونه بين طبقات المجلة.
والأب متعصب للفصاحة القويمة على نحو ما نقل عن السلف الصالح يمقت النحث ويشمئز من كل تعبير لم ينص عليه في سند ثبت من القرآن أو الفصحاء الخالدين.
وبعد الأب أنستاس الكرملي حجة في آرائه اللغوية وأبحاثه في الأقوام الشرقية المعاصرة لنا. لذلك تجد اغلب المؤلفات الغربية والشرقية التي تتطرق لتاريخ الشرق الحديث وأقوامه ولغاته تذكر آراء الأب أنستاس وتناقشها. والذي يطالع الأنسكلوبيذية الإسلامية يتبين صحة ما أقول فضلا عن تآليف المستشرقين الآخرين وأبحاث الدكتور أمين المعلوف في (معجم الحيوان) وتآليف المعهد الطبي العربي بدمشق ومجلته وتقرير لجنة عصبة الأمم التي
زارت الموصل وأطرافها وقد ألف بعض العلماء الأوربيين رسائل في حياة صاحب (لغة العرب) منها رسالة المستشرق الروسي كراتشكوفسكي ورسالة المستعرب الإيطالي غريفيني.
ولا يمكنني أن أسكت عن أن الأب أنستاس يدفعه حبه للعربية إلى أن يصرف كل وقته لدرس اللغة والتأليف والبحث فيها وقد يزوره الغرباء في أوقات الصلاة فيجدونه غارقا في بحث لغة الفرقان (كذا؟!) ولم يمنعه ثوبه الرهباني من أن يناقش قسا آخر هو الأب شيخو اليسوعي العالم المعروف وينكر عليه دعواه بنصرانية بعض الشعراء العرب وأدبائهم أنصافا للتاريخ.
هذه لمحات من حياة الأب انستاس الذي تحتفلون بيوبيله ذكرتها من غير أن أتعرض لبسط آرائه اللغوية والنحوية وتذكرون أنني عاهدت نفسي على الإيجاز فكان إيجازي هذا التطويل. ولكن ليس الذنب ذنبي بل للرجل حياة حافلة بالعمل طويلة الأثر فأعذروني بكرمكم وشيم العرب الصفح والكرم.
رفائيل بطي
كلمة إبراهيم حلمي العمر
أيها السادة الأكارم.
إني وأن كنت أخطب الآن فيكم من دون أن يذكر اسمي في منهاج هذه الحفلة الشائقة إلا أن اقتراح الفاضل كتوم (سكرتير) اللجنة علي أن أتكلم ما يناسب المقام من جهة وصلتي الوثقى بالعلامة المحتفل به كان مما يشفع لي في الوقوف أمامكم متكلما عن الخدمات الجلية التي أسداها الأب المفضال الكرملي إلى اللغة العربية في حياته الأدبية الطويلة التي نطلب لها المزيد والاستمرار.
إن الكلام عن منزلة العلامة الكرملي من النهضة الأدبية وآثاره العلمية قد سبقني إليه صديقي الفاضل رفائيل بطي الذي وفى الموضوع حقه في خطبته الممتعة التي سمعتموها قبل دقائق معدودات ولكني أقول كدارس على الأب علوم اللغة والبيان في حداثتي أن للأب أنستاس من الجهود والمساعي الكبيرة التي قدمها في سبيل إعلاء اللغة العربية وإقالة عثرتها وإنهاضها من كبوتها ما يستحق عليه كل تكريم وتعظيم، ومن أقدس واجبات أبناء
هذه النهضة المورقة الأغصان الوارفة الظلال أن يكرموا العلم والأدب وخاصة الأدب العربي في شخص هذا العلامة الكبير الذي نحتفل به اليوم تنويها بفضله واعترافا بأياديه البيض.
حقا أن قيام هذه الحفلة في دار فخامة السعدون بك الذي أرصد يوما من أيامه الثمينة لتكريم العلم والأدب من جهة واشتراك نخبة فاضلة من زعماء البلاد وقادة حركتها الفكرية وأساطين العلم فيها من جهة أخرى ليذكرنا بتلك الأيام الغابرة التي كانت ساسة العرب ورجالهم وإلى جانبهم شعوبهم الحية الناهضة يحتفلون بنوابغهم وفضلائهم مع قطع النظر عن المذاهب والأديان وبذلك شيدوا لهم مجدا خالدا وحضارة فخمة لا تزال آثارها ماثلة لعيون الباحثين المنقبين، وإذا أقام السعدون بك هذه الحفلة في قصره العامر لتكريم الأدب العربي في شخص الكرملي المفضال، فإنما هو يحذو حذو أجداده العرب الذين كانوا يعملون على بث العلم والعرفان وتنشيط الأدب في ظلال خلفائهم وملوكهم وسلاطينهم وما الملك الأعظم اليوم إلا رمزاً إلى تلك العزائم والهمم التي حمت العلم وذادت عن حياض
الأدب فكان وزراؤه بهدية يهتدون وبإرشاده يعملون.
لقد قرت عين الأدب بهذا الاحتفال البهيج الذي يقيمه العراق شعبا وحكومة لتكريم علامة العصر الأب الكرملي ولا نغتبط بهذه الحفلة من ناحية واحدة هي الاعتراف بفضل ذوي الفضل فحسب بل نغتبط بها من ناحية أخرى هي أن العلم فوق كل الاعتبارات والمظاهر الأخرى وأن هذا الروح الذي يدفعنا إلى التآزر والتعاون في نصرة النهضة الأدبية وتكريم رجالها العاملين خير كفيل بإيصال نهضتنا إلى المستوى الرفيع الخليق ببلاد كبلادنا كانت مهبط العلم وكعبة الأدب ومستقر الحضارة والعمران.
كلمة صاحب المعالي توفيق بك السويدي وزير معارف
العراق
فخامة الرئيس، سادتي الأفاضل:
أقف بينكم وقفتي هذه والسرور ملء جوانحي لما أراه فيكم من غيره محمودة للاحتفال بيوبيل العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي وتكريمه.
إني أود قبل كل شيء أن اثني الثناء العاطر على ما قامت به لجنة الاحتفال المحترمة من صنع جميل أتاح لنا الفرصة الثمينة لنعرب هنا عما نشعر به من التقدير العظيم لما قام به المحتفل به من الخدمة الصادقة للغة العربية وما أعلى به رؤوس العراقيين من صيت ذائع بين أبناء الضاد في الخارج والأجانب المستشرقين.
تعلمون سادتي أن تنشيط العلماء والأخذ بناصرهم هو من أهم الأسباب المؤدية إلى الرقي والعمران في عصرنا هذا. وبتكريمنا الكرملي اليوم نكرم العلم والعبقرية في هذه البلاد التي تحتاج إلى ذلك بقدر ما يحتاج الجسم إلى الغذاء.
يسرني جداً بأن أنتهز هذه الفرصة لأبين إعجابي بالجهود العلمية التي بذلها المحتفل به منذ حداثته حتى الآن في سبيل إعلاء شأن اللغة العربية إذ أصبح منارا يستنير به طلابها وعشاقها حينما كانت مهجورة حتى من أبنائها في هذه البلاد
كما كان ذائدا بقلمه عن حوضها المتهدم آنئذ غير هياب وغير مبال بخوض غمار أخطار ذلك في أزمان عصيبة جداً.
كنت ذات يوم من سنة 1920 أطالع مجلة الهلال فوقع نظري فيه على مقال بعنوان (الثمائل عند العرب) مذيل باسم (مستهل) ولم أكن اعلم حينئذ أن هذا الاسم المستعار هو للعلامة المحتفل به.
قرأت ذلك المقال الممتع وأعدت قراءته ثانية لأحيط بما احتواه من حقائق علمية ولغوية غابت على الكثيرين من فطاحل اللغة من عرب وأجانب فدهشت لما فيها من دقة البحث والاستقصاء وحسن التنقيب عن خفايا موضوع لم يطرقه إلا وكان متدهورا في لجج الخطأ.
أظهر العلامة (مستهل) بذلك المقال أغلاطا عديدة كانت قد وردت في معاجم عربية وإفرنجية وكشف الستار عن حقيقة (الثمائل) مما دل على تضلعه من فقه اللغة والتاريخ تضلعا يغبطه عليه أكثر العلماء، فعرفت (مستهلا) من ذلك الوقت وقدرت له مساعيه العلمية.
أذكر له هذه المزية وهي ليست في الحقيقة إلا قطرة من بحر مكتفيا بذلك عن الاسترسال في تفاصيل أخرى.
أيها الأب الكريم!
إني مغتبط أشد الاغتباط بأن أحيطك علما أنك في بلاد معجبة بمزاياك الطيبة فهي تعرف فيك ولدا باراً تذخره ليخدمها بعلمه وقلمه وهي إذا قامت اليوم تحتفل بيوبيلك الذهبي فإنما هي ترجو أن يمن الله عليك بعمر يوصلك إلى يوبيل ماسي تكون فيه قد حققت لها نفعا أكثر مما حققته الآن.
فسر إذن مزوداً عونه وبركته وحقق ما تأمله فيك البلاد من نفع يعود عليها وعلى لغتها والعلم بالخير الجزيل.
توفيق السويدي وزير المعارف
قصيدة ميميه
در تهنيت جشن أدبا براي حضرة أب انستاس كرملي
(لغة العرب) اشتهر اليوم في ديار إيران شاعران كبيران: الميرزا أبو الفضل كيهاني وخسرو ميرزا. وقد نظم كل منهما قصيدة بديعة بلغته الفارسية فتذوقها كل من سمعها. ولم ننشرهما في محلهما لأنه لم يكن عندنا حينئذ حروف نصور بها الألفاظ الفارسية. أما الآن فوجدنا منها بعض القدر ولهذا ندرجهما هنا لنجعلهما بمنزلة أفخر الطعام يقدم إلى الآكلين فتبقى ذكرى الدعوة من أطيب الذكريات في مسامعهم. وهذه قصيدة فخر شعراء الفرس في عهدنا:
شبي جو قلب من وزلف يا رغرق ظلام
…
شبى جو خلوت دلداده كان براز آلام
فلك جو صحنه ميدان وكهكشان دروى
…
كشيده لشكر انواروبر كرفته نظام
أثير بيشه وزنجيرهاى نور دراو
…
جوتار كارتن اندر مسالك آجام
براين بساط وبراين كوشه وبراين مردم
…
براين أساس وبراين ملت وبراين أقوام
بجشم عبرت هرسوهزار هاخورشيد
…
نظارة كانند ازاين سبهر نيلى فام
عجب بعرصه اين بهن دشت بى آغاز
…
عجب بصحنه أين زرف بحربى انجام
زمين جوذره نابود ليك بر رويش
…
فكنده رحل أقامت جرائم وآثام
بشر بنام جراثيمى ازعناد وخلاف
…
بسطح توده غبرا كرفته جاو مقام
تمام لايق اعدام وآنكه ازنخوت
…
نموده وضع أساس سياست اعرام
بتيره شب نه مر اخواب بدنه فكر نشاط
…
كه دهر سفله أم افكنده بد بقيد ملام
كهى مكابره أم باستاره ريمن
…
كهى مناظره أم بامكاره أيام
دراين ميانه مه جارده جوسيم طبق
…
كشود جهرهء رخشان فكند نور بيام
أفق كشاده وقلب بازروح لطيف
…
بهر كرانه نهان كشت جون ذباب غمام
زجذبهء ملكوتم بدل رسيد نويد
…
زعطر عالم قد سم شكفته كشت مشام
رسيد طيف بت مهربان دلم براو
…
بسجده آمد وجون برهمن براصنام
تبارك الله زان مست نركس برشور
…
تمام فتنه وجذب تمام ضعف مقام
مكوى جلوه كه شد قلب خسته أم همه خون
…
وزان سبس جو عرق سرزداز عروق مسام
خطاب كردكه اى خسته ازنوائب دهر
…
جرا زبان قلم راكشيدهء دركام
بشعر تسلية مسعود سعد داشت تونيز
…
ستان قصاص خوداز روز كاربد فرجام
جه روح شاعرا نراخرد تواندو كفت
…
كه دور دهر شمارد بسان كردش جام
جواب دادم اى روح مهربان كه مرا
…
شكسته سنك حوادث جنان بجسم عظام
كه در خيالم نى وضع مانده ني موضوع
…
نه ذوق قوت تفكيرونى اداى كلام
تكلمم جو زمسلول نفثة المصدور
…
تخيلم جو زمحموم فكرت سرسام
جه جاى يادزدار أست ولعلى أست وعقبق
…
جه جاى وصف زاعشاب سبسب أست آكام
بدين تراكم أندوه وين تهاجم غم
…
كه هست طاير فكرم هميشه بسته بدام
نه حب جاه ومقامم بود كه نيل بوى
…
شود مسبب توقير سفله كان لئام
نه بيم شيخ ريايم كه مويد ازسر جهل
…
كه خون خلق حلالست جام باده حرام
دراين مفاوضه بوديم تاسحر زافق
…
فراشت خسرو خاور به آسمان أعلام
جو بيك صبح سعادت رسيد قاصد فضل
…
نمود دعوتم از سوى بيشواى أنام
زجاى جستم وجون محرمى بقصد طواف
…
جه كعبه بستم وبر طرف محضرش إحرام
كشيد قائد بختم بصدر محفل قدس
…
خجسته محضر وأستاد فيلسوف إمام
إمام شيخ أبى عبد الله انكه محضرا
و
…
رواست باشد ومسجود ومعبد إجرام
كجاست حضرت ويكتور هو كوكه تاكويد
…
كه هست ذاتش باب أرامل وأيتام
بجاي شيخ مبارك بيش هميدانست
…
مصنف بؤسا بد اكردراين هنكام
به بشتبانى دين وبرهنمائى عقل
…
نموده فك. قيود خرافة وأوهام
مرابكفت كه اى افتاب جرخ أدب
…
كه هست فكرت نضرت نمونه الهام
من أين حقيقة دانم تورا بحب وطن
…
علاقة ايست مقدس تعصبى أست تمام
رجوع كشور دارابفر عهد كيان
…
تورا بخاطره اندربود خجسته مرام
هماره كوئى فرزند خسرو شابور
…
زشهد بارس ناب باد شيرين كام
ولى نبايد تكذيب سازد عقل سليم
…
مآثر عرب اندر ممالك إسلام
كذرز صاحب طغرائى وبديع زمان
…
كه از جمال أدب بر فكنده أند لثام
نزاد خالص ايرانيند ليك أدب
…
كرفته رونق ازانان جلوه بدرام
بناى آئين تنهانه زيور عرب أست
…
زبان حاضر ما هم أزان كرفته قوام
كنون ملك عرب طرفه اكهى بزرك
…
رسيده أست فرح بخش مثل ذوق مدام
براى أهل أدب صاحبان فضل كمال
…
بشارتى أست كه هرجهره ميشود بسام
بماه آتيه سازند احتفالي عظيم
…
بجشن رآداب انستاس كرملي كرام
تونيز تهنيت آغاز ساز جانه سراى
…
كه زشت باشد وشمشير صيقلى بنيام
جواب دادم اى بيشواى أهل هنر
…
كه كل كرفته زخلق شريفت عطر بوام
من آن شناشم كه بيكرى أست شريف
…
كه از شرافت جان دارداز أدب اندام
نشار مطلع دوم كنم جواهر شغر
…
مكر كه روحم ازجلوه أش شود آرام
صبا زجانب من بادرود با إعظام
…
بياك مجمع فضل وهزببر بيغام
كه اى كناه جهانز افدائيان نجات
…
كرفته مركب توفيق رابد ست زمام
مجسته باد مبارك ستوده جشن بزرك
…
كة بر كريم هنر ميكنيد أين إكرام
جودر آداب انستاس كرملى لغتى أست
…
كه ذوق وسعى وشرافت دران بودادغام
يعصر باك تكامل بظهر روز سعيد
…
بسان غره صبح أست در ممالك شام
نه أز مساعى أن راد مرد إنسان دوست
…
لسان قوم عرب يافته أست استحكام
بفر دانش أو كشته أند شكر كذار
…
زبان كلده وأشور وعبرى وعيلام
زمن درود بران راد مفلق مفضال
…
كه دور كرده زجان لغت بسى إسقام
بيارك مجمع وبران رئيس دانمشند
…
جميل صدقي شمس الشموس دانش ونام
يخه شاعرى كه باسم مقدسش نازند
…
فرات ودجلة ونيل مبارك وأهرام
من رئيس وجنين مجمع وجنين موضوع
…
كه نعت مدح أدب راهمى كنند إلزام
جوم معرفتند ونجات نوع بشر
…
بيمبران تكامل مبشران سلام
سعيد باد جنين روز فرخى كه دراو
…
درود كويد وكيهان بجشن شيخ همام
ختام رزمشك أست واختتام خوش أست
…
جه بهتر أست ازاين اختتام مشك ختام
ميرز أبو الفضل كيهاني
قصيدة رائيه
(لغة العرب) ودونك الآن قصيدة زينة شعراء إيران في هذا اليوم:
سرى كه واجدذوق أست صاحب أفكار
…
درون فلسفه ماند بنقطه بركار
دماغ شاعر وشعر أست شمع بروانه
…
كه بالطبيعة بر اطراف آن شود سيار
بجذبه هاى غزيزى كه هست در خورشيد
…
زجذب هيئت سيار كان بود ناجار
نهال تازه وأنكاه منع أو زنمو
…
زبان شاعر وأنكاه وقفه در كفتار
جو آب جمع شوددر بحور ناجار أست
…
بى خروج ومخزن بدل شود ببخار
تخيلى كه مرا همره أست وزان دارم
…
تنى معذب وجانى غمين دلى أفكار
زنوك خامه اكرروى نامه ننشيند
…
شبيه باشد بر حبس نغمه در مزمار
جرانكويم كاين كردكرد كنبد خاك
…
جو كار خانه تندى بود جنا بار
جرانكويم دراين سراجة برشور
…
بجز فجايع جانسوز نيست اندر كار
جرا خموش نكردد زدوداه شموس
…
جرا سقوط نكيرد زسير خود اردار
نهاده نام تمدن بشيمه كه توان
…
بدان وسيلة برند ازميانه حق صغار
همان سياست غرب ومناسبات دول
…
مكربه مرصد صيد أست دامكا شكار
بى سهولت غصب حقوق سرعت قتل
…
رماح شعلة فشان لبين ومر كه طيار
يكانه معدون جور أست دهر سر تاسر
…
بخيره جون شده نام كرك آدمخوار
فقط عناصر باكى أست عذر خواه بشر
…
بدين جرائم زشت جهان بد كردار
وجود عده أز عالمان إنسان دوست
…
الكربنود دراين خاكدان كيه شعار
نه بد بهاى بشيزى حياترا بجهان
…
بسان بيكربى روح عشق بى دلدار
بدين ذوات مقدس سزد كه كوى زمين
…
كند بجشمه تابان مهر استكبار
شموس لامع افلاك عقل معرفتند
…
كه نور علم بنوع بشر كنند إيثار
بوبزه حضرت شمس الشموس عالم قدس
…
جهان مجد أبى عبد الله اسمان وقار
شعاع شمس بيكسوى أرض ميتابد
…
به قسمتى زشب وروز هست آنسوتار
ضياء باك ضميرش بهر دقيقة وآن
…
كند حيات بشررا مطارح أنوار
بزر كوار وجودى كه مهر عاطفة أش
…
جوروج ناميه ونوع آدمى أشجار
خوشا بدان نظرباك ونيت صافي
…
كه التيام دهد بين سبحه وزنار
لطف داد رهيرا بخدمتي فرمان
…
كه يافت كلشن جانم أزان صفاى بهار
بر آي تهنيت جشن محفل أدبى
…
زطبع ناسره أين جند بيت كشت نثار
نكين حلقه انكشت شرق بحر فخار
…
خجسته راد انستاس ستوده أخيار
جر فلسفة قطب كمال محور فضل
…
كه زتو قطر عرب أست فخربر أقطار
به نيم قرن اثر خدمت تو كارى كرد
…
كه قرنها زتو باقى بود همين آثار
بناي لحن عرب ازتو يافت تعميرى
…
كه طاق كنكره أش كشت جالب أنظار
لبسان توده يعرب بسان مرءآتى أست
…
زدوده كشته أزان باكف توزنك غبار
خوشا نزاد عرب خرما ديار عراق
…
كه ديده مثل توفرز مهر بان بكنار
يكي فراز مشعشع بصفحه تاريخ
…
زنام نامى توباز مانده در إعصار
فقط نه نسل عرب إذ توميكند تقدير
…
تورا رهينه منت بسى نزاد وديار
ثنا كرت نه همان روح امرء القيس إست
…
روان سعدى مدح توميكند تكرار
زقبر نابغه واز مزار فردوسى
…
رزاست بشكفد ازوجد كونه كون أزهار
نسيم لطف تو آراست كلشنى كه برآن
…
ترانه ساز زهر سو هزار هاست هنزاز
هران زبان كه سهيم أست بازبان عرب
…
بصد زبان شده نعمت توشكر كذار
منت بسلطنة حقه ميكنم تبريك
…
كه سلطنة نه بتخت أست وتاج كوهردار
مشاعر شعرا وقلوب أهل قلم
…
ممالكى أست كه فكرتو كرده استعمار
شهان بقوت سرينزه ملك ميكيرند
…
بملك خويش تورا كلك داده استقرار
نيافت كشورى ازهيج قائدى عادل
…
جنانكه كشور فضل ازتو يافت رنك بكار
لذا غريو مشد از صميم دل خسرو
…
كه يادراد انستاس زه بر خوزبار
خسرو
كلمة الشكر للأب المحتفل به
يا صاحب الفخامة ويا أصاحب المعالي ويا سادتي الأفاضل،
أول كلمة أنطق بها: الشكر لجلالة مولانا سيدنا ملكنا المفدى فيصل الأول، الذي لا يزال يحبب العلم ويرقيه في مملكته، ويبث لغتنا الكريمة بين ظهراني تبعته، ويرغبهم فيها بجميع الوسائل الممكنة. وما هذا الاجتماع إلا من جملة أدلة تشجيعية لمن يعنى بلغتنا الحسناء، وينشرها في طبقات الناس، أن بين الاقربين، وأن بين الأبعدين.
والكلمة الثانية التي أفوه بها: شكري لصاحب الفخامة عبد المحسن بك آل سعدون العربي الصميم الذي عرف روح متبوعنا الأعظم وأمنيته لإتقان لساننا فأخذ على نفسه وفي رعايته إقامة هذه الحفلة الدالة على حبه الجم للوطن وقومه ولغته، ولكل من يسعى في نشر هذا الحب بين وطنييه.
ولا أنسى فضل أصحاب المعالي الآخرين الكرام، وأعياننا، ونوابنا الأماثل الذين شرفوني بحضورهم هذا، وأخص بالذكر صاحب المعالي البارزة: توفيق بك السويدي، وارث العلم كابرا عن كابر، ونافخ ضرمه في صدور أبنائنا بلا فرق فيهم ولا تمييز. وهذه خطبته البليغة شاهدة على ما أقول، إذ أن كل درة تدل على سامي فكره وتقديره للمنتسبين إلى العلم، وأن لم تكن تلك النسبة مما يليق بهم كانتساب هذا العاجز إليه.
ثم أني أشكر حضرة أستاذي المكرم، فيلسوف العراق وشاعره الأكبر جميل صدقي الزهاوي لعنايته بهذا اليوبيل، وأشكر اللجنة التي قامت بتحقيق هذه الفكرة. وأخص منها بالذكر الأستاذ المحبوب، تلميذي المهذب، أحمد حامد أفندي الصراف مدير مطبوعات الحكومة العراقية.
وبعد هذا يحق لي أن أقول: يا سادتي الأجلاء.
إن أحب امرؤ إنساناً لم ير فيه غير المحاسن، وأن كرهه لم يجد فيه سوى المساوئ وقد احسن أحد شعرائنا في قوله:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
…
كما أن عين السخط تبدي المساوئا
إني وايم الحق لم آت عملا جليلا للغتنا الشريفة، حتى يقام لي هذا المهرجان، وقد سبقني رجال أفاضل إلى خدمتها خدمة أجل وأنفع وأوسع من خدمتي هذه؛ ومع ذلك لم يعترف بفضلهم مثل هذا الاعتراف. وما ذلك إلا لأني وفقت لأن يكون لي أحباب أجلاء ذوو همة عالية بارزة، يرون نفوسهم في غيرهم، فيخيل إليهم أني هم، وأنهم أنا، فانفعوا إلى هذا الصنيع الذي يخلد أسماءهم في سجل الوطن المحبوب، ولغة الضاد الكريمة بحروف من ذهب. ولهذا أني لا أرى هذا الإطراء جديرا بي، بل خليقا بكم، إذ أراكم تجلون العلم والفضل حتى في من ينتسب إليهما انتسابا، وإن لم يكن من أهلهما. فالمجد والشرف لكم يا سادتي لا لي، إذ أراني بعيداً عن كل ما عددتموه لي، ونسبتموه إلي، في حين لا أجده إلا فيكم يا سادتي الصيد الأشاوس.
على أن الذي أستطيع أن أقوله وأفتخر به هو أنني أغرمت بهذا اللسان الكريم منذ نعومة أظفاري، وبقيت مولعاً به إلى هذه الساعة من غير أن ينتابني فتور أو وناء.
وكثيراً ما تمنيت أن أخدم هذه اللغة وأصحابها خدمة تنفعهم النفع الجم، وبذلت مهجتي في هذا السبيل، إلا أن الحالة التي وجدت فيها منذ حداثتي، عاندتني أشد العناد وقاومتني مقاومة غريبة. فاكتفيت من تلك الخدمة بحسن النية والإخلاص لا غير؛ وهو ما يفرضه علي حب وطني وقومي ولساني؛ فقمت بالواجب المحتوم علي بقدر طاقتي، ومن قام بما عليه، فلا شكر له ولا حمد ولا ثناء ولا إطراء.
وفي الختام أشكر جميع الحاضرين. وجميع الذين شاركونا في هذا اليوبيل عن قرب أو عن بعد برسائلهم أو بتهانئهم أو ببرقياتهم أو بندى أياديهم سواء أكانوا من أبناء لغتنا أم من المستشرقين أم المستعربين. وأشكر لهم عنايتهم بهذا اليوبيل من صميم قلبي واحداً بعد واحد، متمنياً لهم طول العمر والهناء والسرور.
حيا الله ملك العراق المفدى!
حيا الله الأمة العربية ولغتها المحبوبة! حيا الله العلم العراقي!
عم سعدون مغامس المانع والكرملي
ما أبهى ما كان يوم الأحد الذي وقع في 7 تشرين الأول 1928 ذلك اليوم التاريخي عند إخوان الأدب العربي ورافعي أعلام التشجيع له من كبراء وعظماء فأن في عصره المشهود
أقيمت تلك الحفلة الباهرة لتكريم الأستاذ الكبير الأب انستاس ماري الكرملي في دار صاحب الفخامة عبد المحسن بك آل سعدون لقضاء الأب الفاضل عمره حتى شيخوخته الحاضرة في خدمة لغة الضاد الشريفة ذلك العمر الذي أتى فيه بالكتابات العديدة والمباحث الكثيرة ما قدره علماؤنا وكتابنا وشعراؤنا من عراقيين وسوريين ومصريين وفلسطينيين وغيرهم وفي طليعتهم المجمع العلمي العربي بدمشق الشام وهنئوه ببلوغه هذا اليوم وقد بجاه مع تهانئ حارة كبار من المستشرقين من مختلفي الشعوب الغربية. وقد اجتمعت في هذه الحفلة كلمة هؤلاء الأفاضل جميعهم على تقدير خدماته الجلى لما وقفوا عليه فضلا عما لدى الأب من الآثار غير المنشورة.
فليهنأ الأب وليعيش طويلا للمثابرة على أعماله المقدرة!
وأني لأستأذن كلا من فخامة ألبك وفضيلة الأب في أن أذهب بهما وبالقراء الكرام إلى حادث تاريخي:
لا بد وأن الفكر سائد إنه لم يسبق قبل اليوم أن سعدونياً كرم كرملياً - ولو على غير هذا الوجه - لأتساع الفراغ الفاصل بين الفريقين، فيظن إذ ذاك أن ما أبرزه هذا الاحتفاء لهو مما أولده القرن العشرون لكنا إذا تصفحنا التاريخ رأينا هناك تكريم شيخ من بيت فخامته - يوم كان يدعى بيته شبيبيا قبل أن يكون سعدونيا - لأحد الكرمليين من الجدود المعنويين للمحتفى به. فكأن
التاريخ أراد بهذا الاحتفاء أن يجدد على الستارة صورة صلة بات عهدها نسيا منسيا خالعا عليها ثوبا قشيبا جديدا تميس فيه تيها ودلالا. وقد تجلى في تلك الحفلة في فخامة ابن سعدون الشبيبي ما ورثه من آبائه الأماجد من مكارم الأخلاق مزدانة بحبه لترقية العلوم ولا سيما تنشيطه للأب - وضمنا تشجيعه لحملة الأقلام كافة - على موالاة خدمة لغتنا الجليلة.
كان مبدأ إقامة الأباء الكرمليين في بغداد في سنة 1721 أما الصرة فقد دخلوها للإقامة فيها منذ سنة 1623 وقد وجد السر هرمن كولنز سجلاً لمبعثهم في البصرة دون فيه أحد رؤسائهم ما لقيه من أخبارهم منذ سنة دخولهم حتى زمانه الذي كان في سنة 1674 وشرع يضم إلى تلك الأنباء ما كان يحدث في أيامه في البصرة وتبع تلك الخطة الذين خلفوه. وهذه النسخة التي هي اليوم عند السر المذكور تنتهي بأخبار سنة 1733 وهي الأم بنفسها
المختلفة الخطوط ولغتها هي اللاتينية إلاّ صحائف قليلة في لغات إفرنجية أخرى مع نصوص عربية وتركية. وقد بعث السر بالطبع هذا السجل من مدفنه مع ترجمته إياه إلى الإنكليزية ووشاه بصورة شمسية لما يحويه من النصوص العربية والتركية.
ومما يرويه لنا هذا السجل الوحيد النسخة استيلاء شيخ المنتفق مغامس المانع على البصرة في سنة 1705 (1117هـ) وكانت يوم ذاك سفن هولندية راسية فيها في شط العرب. وإني لأقصر كلامي في هذا المقام على نقل ما جرى للأب حنا (يوحنا) مع الشيخ مغامس معربا كلامه عن الإنكليزية ومورداً النص العربي بحروفه (302: 3 من الأصل):
تعريب فقرات الكتاب ونص البراءة
(. . . في اليوم السابع من هذا الشهر (تشرين الثاني 1705) حضرنا إمامه (إمام الأمير مغامس) فرحب بنا وبعد أن هنأه الربان الهولندي التمس منه أن يعطيه عقد اتفاق بين الهولنديين والعرب. فكرم عليه مجيبا طلبه بكل
ما يرغب فيه وبعد ذلك أوضح له الهولندي مطلبهم بمذكرة الهولنديين تتعلق بشؤون الشركة فانتهزت هذه الفرصة بتقدمي إليه مذكرة في أمر حماية كنيستنا ودارنا.
وفي 9 من الشهر الجاري قدمنا مذكرتينا بواسطة عبد اللطيف إلى الأمير مغامس فدفعهما حالا إلى قاضيه الشيخ سلمان ليصدقهما تصديقا شرعيا.
وفي 12 منه أرسل الأمير مغامس بالبراءتين إحداهما إلى الهولندي في الاتفاق وثانيهما إلي في مادة الحماية الواردة في ما يلي:
(الحماية التالية هي بالتركية)
محل الختم توكلت على الله
تعلمون به الواقفون على كتابنا هذا من كافت خدامنا وعمالنا وطباطنا (ضباطنا) بانا أعطينا حامل الورقة النادري حنا على موجب ما بيده من فرمانات أولياء الدولة القاهرة ومن أوامر الوزير العظام والأمراء الكرام. وله منا فوق (ذلك) زيادة الحشمة والرعاية وقد أسقطنا عن خدامه وترجمانه الجزية والخراج وكتبنا له هذا الكتاب سنداً بيده يتمسك به الذي (لدى) الحاجة إليه. وعلى كتابنا هذا غاية الاعتماد والله تعالى شأنه ولي العباد وبه كفا. حرر في ثاني وعشرين من شهر رجب الفرد سنة سبعت عشر وماية وألف. سنة 1117.
الفقير مغامس المانع
حصلت على براءة الحماية ونلتها بدون أي مصروف وستفيدنا دائما فوائد جمة وسينتفع بها بيتنا في أحوال مماثلة. . .) اهـ
وهكذا تمر الأيام والتاريخ يسجل.
يعقوب نعوم سركيس