الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 69
- بتاريخ: 01 - 05 - 1929
حضارة الإسلام ومفكروه
(مفكرو الإسلام) لكرا دى فو
الجزء الثالث
تتمة
حقا إن جزءه الثالث يستحق مركزا لا شك في كونه عظيما، ولا سيما بين قرائه الشرقيين، لما يجمعه الدرس من المسائل التي تهم الكثير منهم فمن بحوث عن بلاد فارس قبيل الإسلام وكذلك عن البلاد العربية، إلى بسط حياة نبي الإسلام، فقيام الدعوة إلى الافتتاح العربي الهائل، إلى أخبار معاوية وقيامه بالحرب ثم بأعباء الخلافة الأموية، إلى غير هذه مما يسد فراغا عظيما، ويؤدي إلى القارئ خدمة واسعة. وقد أحسن البارون العلامة كل الإحسان، أن أتى بطرفة: كافية ولو أنها وجيزة، مناسبة لحالة الكتاب وضخامة موارده الثمينة من تاريخ الفرس قبيل الإسلام وأحسن أيضا، إذ جعلها فاتحة هذا الجزء، ولا سيما أننا في عهد من مستلزماته التفسير الوافي والإيضاح الكافي، الذي لا غنى فيه عن سبق البحث، بنظرة سالفة وجيزة، فالمرء يتنقل هكذا، من الابتداء إلى الانتهاء، فيقف على تطور الحوادث، وتقلبها السريع والبطيء والعوامل التي
أدت إليها وهلم جرا، وبذا يلم بأطراف الموضوع جميعه، ومن ثم يلج إلى النتيجة المنشودة. . . وقبل أن أصف شيئا، أبدي تألمي، لما خصني به الطابع والناشر، في هذا الجزء، من سوء التجليد، فأن شطره الأول ويا أسفا قد تداخلت صفحاته الأولى في الأخيرة. واستهلت هذه مكان تلك واستبدت وتعدت باغتصاب مركز غيرها. فأكسبتني تعبا، وأضاعت مني وقتا، فيا لسوء الحظ!! والآن فلنهرول ولنتشل من بين اضطراب الصفحات، وتعانق الأوراق المتباينة المواضيع، شيئا عن دولة الأكاسرة في سلطتها، وعنفوان مجدها حتى القليل قبيل انحلالها فسقوطها في قبضة العرب. . . يحدثنا المؤلف عن كسرى انوشروان وحربه ليستنيانس ثم عن اهتمامه بأمور مملكته الواسعة، وترقيتها وتحصينها في كافة الجهات خوف غارة الأعداء المرتقبة دواما من جانب أعدائه الزرق من نواحي قاف (القوقاس) وسورية، وفي أيامه رتعت فارس
في بحبوحة العيش إذ بملكه الطويل الأجل الذي قارب نصف قرن تقدمت الزراعة وتحسنت طرق القوافل وأنشئت سبل التواصل، فاستحق لقب (العادل) الذي وصفه به نبي الإسلام (مع أنه كان يكره الأعاجم). وأتى هرمز ولده فعكس سياسة والده الرشيدة، ففي أيامه هوجمت بلاد العجم من نواحيها جمعاء. فخان الأتراك هاجمها في ثلثمائة ألف راجل وفارس، وانبراطور الإغريق في ثمانين ألفا. وكذلك شعوب بحر جرجان والعرب أيضا.
فترى أن الإمبراطورية الهائلة أحيط بها من جهاتها الأربع: ولكنه أرسل إلى الأتراك قائدا لبيبا شجاعا يدعى بهرام، الذي بسهم منه أزهق روح خان الأتراك، ومن ثم تفككت عرا هؤلاء، فولوا وتفرقوا جذع مذع ولكن حيث أن هرمز كان طاغية مستبدا بالعظماء والأشراف. وقد أطار من رؤوسهم الشريفة العدد العديد ثاروا عليه بقيادة بهرام هذا فأجبروه على التنازل وبعد مشاحنات بين ولده خسروا أبرويز وبين بهرام الخارج، سافر الأول إلى بوزنطية وحل ضيفا كريما على إنبراطورها، وتزوج أبنته الأميرة مارية، ثم خنق أتباعه أباه الضرير دون أدنى معارضة من لدنه. وأعطاه انبراطور البوزنطيين جيشا مؤلفا من ستين ألف محارب وبه تمكن من الاستيلاء على دياره
المفقودة؛ وفر بهرام إلى بلاد الأتراك جيرانه. وأجاز ابرويز رجوع الجيش البوزنطي بعد مكافأتهم خير مكافأة، ودخل عاصمته المدائن ظافرا. وقد حاول أن ينتقم من بهرام الخائن فتمكن من رشوة زوج الخان، وهكذا قتل المغتصب. أما زوجته أو بالحقيقة أخته إذ يجوز في شريعة الفرس زواج الاخوة فسافرت إلى بلادها بعيد قتلها أخا الخان الذي رامها حليلة. وهناك شكرها أبرويز على نصحها بهرام ولومه في ثورته. وتزوجها وتزوج أيضا شيرين الجميلة التي كادت تجلب على رأسه من سخط الشعب ثورة نارية رائعة، لأن زوجته الجديدة كانت وضيعة الأصل غير جديرة - على زعمهم - بهذا المركز السامي. . . واتفق أن هاج الشعب البوزنطي على موريق والد زوجة مارية وأتى ولده مستنجدا العجم. فأرسل ابرويز على الفور جيشا لجبا لرد العرش إلى أهله ومعاقبة المغتصب. . . وتمكنت إحدى فرقه من الاستيلاء على أورشليم، وتوصلت إلى الاهتداء إلى الصليب الأقدس في حقه الذهبي. فدفنه في حديقته. ثم تولى بعد ذلك ملك بوزنطية هرقل - الذي تم في أيامه افتتاح العرب سورية - وفي حكم ابرويز تمت واقعة (ذي قار) التي يهللها العرب.
وكان في نفسه نزعه شائنة، إلى سفك الدماء، وإزهاق أرواح العباد فكان حكمه قاسيا جدا، حتى قال هو نفسه، إنه منذ السنة السادسة والعشرين من حكمه إلى الثامنة والثلاثين، (لم تكن السماء تتحرك إلا بحسب إرادته) أي لم يكن أمر يحصل إلا بموافقته فأمام هذا الاستبداد الوحشي، ثار الشعب وولى أبنه، من الأميرة مارية، مكانه. ثم أجبر هذا الابن المسكين، الذي كان ألعوبة في أيدي كبار الدولة، على الأمر بقتل والده، فأزهقت روحه بالفأس وقد سر موته البلاد العربية، وعلى الأخص نبي الإسلام، الذي كان وقتئذ في المدينة. فقد علم أن موت هذا الملك الصنديد، يجعل بلاد العجم بأسرها فريسة باردة؛ لأي مهاجم فاتح، واستنتج، ما تحقق بعدئذ على أيدي الصحابة ووطنييه. . . وانتحرت شيرين على قبر خسرو بعد أن ندبته مر الندبة.
وبعد أن أكمل ابن خسرو ابرويز عقوقه، بقتله أخوته السبعة عشر، كما طلب إليه الكبراء والأشراف، تملكته السوداء، ومات بعد حكم ثمانية أشهر،
ملعونة من السماء والأرض، ومنذ ذاك الوقت أسرعت فارس في خطاها الواسعة نحو الهوة والخراب، وفي زهاء ست سنوات، تعاقب على حكمها ستة ملوك، بينهم امرأتان، من بنات ابرويز، فالأولى، كانت ذات مقاصد حسنة، وقد أرجعت إلى انبراطور الإغريق الصليب المقدس. وبعد هذا التدفق الملوكي على العرش الفارسي، ارتقى آخر ملك من بني ساسان، المدعو يزدجرد، وكانت دولته إذ ذاك، في غاية من التضعضع، وسوء الإدارة، والارتباك، فما كانت السنة التالية لحكمه القصير، إلا والفتح الإسلامي يمد يده المسلحة نحو بلاده المرتبكة. فحارب بشدة وبطولة. لكن عبثا. وبعد أن كان لفارس أعز مكان، وأرهب ذكر، سقطت هذا السقوط المنكمش واستولت العرب عليها وأمحقت دولة الساسانيين، بعد أن عاث آخرو ملوكها فسادا وزرعوا الشر فيها فحصدوا ما زرعوا.
وننتهي إلى بلاد العرب في الجاهلية، فنرى بعض بحث ونقد عما يشاع عن الجاهلية، ونجد تاريخ اليمن وهذه كما نعلم لها مركزها الحقيقي، في عهد الأعاجم والأحباش، فلا جرم أن تلاسنتها العرب بعد إسلامها، وللمجد آثار، قد تؤدي إلى الخرافيات، كما حدث. وإذا بذي نواس يهاجم نجران المسيحية، فيهدمها ويدعو إلى اليهودية، ويعمل السيف في أهلها. فيمحقهم، وترقص في الهواء رؤوس عشرين ألفا! وترشد المصادفات وسائل الهرب
من هذه الجحيم الإنسانية، لأحد أبنائها التاعسين، مستنجدا شهامة قيصر الروم، وهذا يبعثه إلى الأحباش؛ وهاهي ذه الجيوش تخترق العباب لمعاقبة الجاحد الظالم. وها نحن أولاء وقد انتهى كل شيء، واستولى أبرهة على اليمن فيا للإجارة من الرمضاء بالنار! فاستجاروا بالفرس، فأنفذوا إليهم جيشا، أنقذهم من وبال الحبشة، ولم تطل هذه، حتى ظهرت الدعوة الإسلامية، وكان من أمرها المعروف أن انضمت اليمن تحت اللواء الموحد.
إن نأخذ على كرا دي فو أمرا في هذا الموضع؛ فنحن نستغرب منه أشد الاستغراب، أن أهمل كل الإهمال، الأب المأسوف عليه لويس شيخو، فهو
كما نعلمه نحن وكل شرقي، قد كان مختصا بالجاهلية، وتآليفه عنها في غاية الأهمية، ولها مركزها الجدير بعناية المستشرقين، ولا نعلم المقصد من عدم ذكره في قائمة الكتب القيمة الثمينة التي ذكرها؛ في مذكرته عند الاستهلال ولعله يتداركها في طبعة تالية.
يحدثنا كرا دي فو عن أديان العرب في الجاهلية غير المسيحية ولا المتأثرة بتعاليمها وبتعاليم اليهودية فيخبرنا مثلا عن الصابئة وما يظن عنها وأنها دين إبراهيم الخليل وحيث أن هذه أقرب إلى الوثنية فلعل العرب عكست اسم إبراهيم عن بهرام الفارسية وبرهما الهندية وقصة النار التي يلصقها العرب بإبراهيم وإلقاء نمرود الطاغية له فيها فنجاته بمعونة العلي تروى عند المزديين أي المجوس وتنسب إلى بهرام الخ. ثم عن تحطيم النبي لأصنام الكعبة الستين والثلاثمائة.
ونمر فإذا أخبار قس بن ساعدة وزيد بن عم عمر بن الخطاب فورقة بن نوفل فأمية بن أبي الصلت وقد أطال البحث عن الأخير خاصة إذ ليس من باحث في أخبار الجاهلية لا يعبأ بهذا الشاعر الفرد فلامية شذوذ عن سائر شعراء ذلك العهد إذ طالما أتى بأفكار قلما ذكرت وأقول بل لم تذكر قبلا عن أحد الشعراء في زمنه (وهذا مما يزيد شعره قيمة ويكسبه حلة أنقى ويجعله إلى عواطفنا أقرب دون أكثرية الشعر الجاهلي. . . ونجده أقرب إلى مزاجنا وأوفى إلى طبيعتنا من أشعار الشنفرى والنابغة وغيرهما). أما دي فو فأدار سكان بحثه تجاه فلسفته الدينية واشتقاقها - فإنه يعزى إلى أمية الحنيفية كما يعزى دين الصابئة إلى إبراهيم الخليل وفي ذلك من الخلط الفاحش ما فيه - ويقدم لنا بعض شواهد من شعره،
والآن فإذا نحن بحياة صاحب الحركة الهائلة النبي محمد. فيحدثنا عن نشأته وتجارته في
سورية والحجاز فزواجه بخديجة فنشره الدعوة إلى الإسلام ومهاجرته إلى المدينة حين أبى المكيون قبولها وناهضوه حيث لقي إذنا صاغية سميعة. . . فحروب بدر وأحد وغيرها إلى تمام تغلبه على الأكثرية وسحقه معارضيه. وانتشار الإسلام دينا قويا في بلاد العرب وموت النبي ومن ثم نشأت من بعده حب
الاكتساح وتدويخ الأمصار وإذا بالأهبة تتناول محلها في صدور العرب الجائشة فتخرج عن عزلتها. وتتناول من جهة الشمال سورية فواقعة اليرموك الشهيرة واندحار الروم والسوريين. ثم استيلاء العرب على دمشق الشام درة المشرق، فالانتصار الرائع واعتزاز الإسلام بعد وقوع جميع هذه البلاد التي تلاطم منبعه وما كان بينها من الصلات. ثم نرى فإذا أمر ينبثق فجره من سجوف المعارك والملاحم الشعبية وينكشف الستار عن ملك حكيم وملك عظيم. وإذا الخليفة المقدام معاوية الأول ودولته الأموية ففي هذا الخليفة وهذه الخلافة قويت شوكة الإسلام وامتدت سلطته إلى أقاصي البلدان وهو من علم العرب - أو كان العامل الأول في رزقهم - فنون البحرية. وهو كان ينهض فيهم الهمم والاهتمام بجميع الأمور. كما كان يود تقدمهم ورقيهم ويتخذ لذلك أمره وكما يقول العلامة الأب لامنس (يريد تثقيفهم وتدريبهم على احترام السلطة الحاكمة بادئا بعائلته الخاصة. . لأننا نعلم عادة العرب وثورتها إذ كانت في بحر جاهليتها على السلطات الحاكمة ونقضها كل حكم فمعاوية ود من الصميم إرشادهم إلى طرق الحياة المثلى وكان كما يقول عنه البارون (ملكا عاملا) وقد ترك من الذكر الحسن هالة لامعة حول ذكرى بني أمية وكان له من مشاعره الحية ورقة إحساسه وكرمه وحلمه على الغير ما حببه إلى القلوب وجذب إليه العواطف التي هي أشد جموحا وصدودا. وقد تبسط عنه دي فو في هذا الجزء كثيرا وبسط آيات حكمه وحللها من جميع جهاتها وأثنى عليه وعلى اقتداره في القيام بأعباء الملك. والحق يقال أنه لو أرادت سورية أن تعطف على من تناوبوا الحكم على كرسيها منذ عهد حيرام وايتوبعل الزاهر إلى يومنا هذا من ملوك وحكام ذوي صولة وهيبة نظروا إليها بعين البنوة - فلا مشاحة أن معاوية له بينهم مركز سام فالإسلام قد وجد فيه خير خليفة وحاكم عادل إذ هو الرمز المنير والقدوة اللامعة في تاريخه.
وبلغت دولة بني أمية علاها وذراها في أبهة وعز عبد الملك - وولده يزيد - إنما كانت
بلاد العرب وفارس والعراق تلتهب ثورات وانتفاضات، ولا يخفى على القارئ ابن الزبير. فكان والحالة الخطيرة هذه لابد لدعم وتثبيت السلطان من وال صخري الفؤاد فولاذي الإرادة وكان واجبا أن تقذف الصحراء العربية هذا المثال - وكان أن لفظته، وإذا شبح الحجاج المرعب ينكشف عنه الستار فيرسل صاعقة غضب ونقمة. وجال هذا جولاته الدموية ما بين مكة والعراق فأباد الثوار والخوارج ومحقهم محقا وأجرى من الدماء أنهارا وطفحت المحابس والمطابق بما لا يقل عن خمسين ألف رجل وثلاثين ألف امرأة حسبما وجد فيها عقب وفاته. وعليه قويت شوكة هذه الدولة واشتد ساعدها وامتدت أصولها من الشرق إلى الغرب إلى أن ظهر السفاح والمنصور وقد ابتدأ الخمول والانحلال يدبان فيها فلاشياها فتأسست على الأنقاض الدولة الجديدة: دولة بني العباس.
ثم نلاعب صفحات فنحن نقرأ عن الحديث الكريم وعن أوائل رواته كابن عباس وعائشة وأبي هريرة وسواهم من أصحاب الإسناد. ثم نجد بعد ذلك جماعة كالبخاري ومسلم كما يتلوه فصل واسع في الفقه وفي المذاهب الأربعة وأئمتها العظام ففصل في تحليل المؤلفات الذائعة الصيت في الشريعة والفقه الإسلاميين ثم يختم الجزء عن مفسري القرآن.
الجزء الرابع
إن هذا الجزء الرابع لا يقل أهمية وتقديرا عن سالفه فهو بما حواه عن الفلسفة (المدرسية) وعلم اللاهوت والتصوف والموسيقي لغاية في الفوائد ويبتدئ فيحدثنا عن الحكماء؛ ونحن نعلم أن معالم (مدارس) الحكمة العربية منقسمة إلى قسمين أحدهما: المدرسة الشرقية؛ والثاني: المدرسة الغربية. ولهذا بدئ الكلام أولا عن الشرقية وأركانها الفحول: الكندي والفارابي والرئيس ابن سينا، ثم تلتها الغربية وإسنادها: ابن رشد وابن الطفيل.
لما كان مرجع الفلسفة العربية - وبكلمة أوضح (الإسلامية) - الفلسفة
الإغريقية: السند والمأخذ للفلسفات جميعها، كان لا بد من مترجمين لها، فبرز حنين بن اسحق فأبنه اسحق فأبو بشر متى، فأتحفوا العربية بمعربات كتب ارسطوطاليس وأفلاطون وكان لابد لهذه من مفسر عبقري كي لا تتبعثر فوائدها فتضمحل. فأهدته كندة إلى العربية وخرج فيلسوف العرب راس الزاوية في فلسفتهم: الكندي الشهير فتناول وبحث وشرح وألف ما يربو على المائة والخمسين رسالة في سائر العلوم ومختلف المباحث وتلاه الفارابي أي (المعلم الثاني)
كما أرادت العرب ولقبته أي الثاني بعد أرسطو ثم الرئيس ابن سينا، وقد بحث دي فو عن أعمالهم وشرح فلسفتهم شرحا وافيا.
أما المدرسية الغربية فتستهل بابن طفيل وقصته الفلسفية الشهيرة المسماة (حي بن يقظان) ترجمت مرات عدة إلى الفرنسية والإنجليزية واللاتينية ويظن العلامة كرا دى فو أنها تشبه قصة روبنسن كروسو الإنجليزية المعروفة في الشرق من حيث وجود رجل منذ ولادته في جزيرة نائية عن سطح البسيطة ثم قيامه بحسب إرشاد عقله وتجاربه العملية أن يصل إلى مستوى سائر البشر في إدارة دفة حياته، وترتيبها وتغذيتها بالعلوم والأصول الفلسفية والصوفية. إنما نحن نعرف أن (حي بن يقظان) يخالف قصة روبنسن كروسو من حيث أن الأخير ألجأته الطوارئ وهو شاب إلى تجشم هذه المشاق. ويظن دى فو أن بين هاتين القصتين اتصالا عميقا أي أن قصة ابن طفيل كانت الإلهام الذي أوحى إلى (دانيال ديفو) بتصنيف روايته الخالدة. وهذا قريب الاحتمال سهل الحصول!
ثم يحدثنا عن ابن رشد ومؤلفيه الشهيرين تهافت التهافت وكتاب الفلسفة وسواهما ثم نتعرف كيفية دخول الحكمة العربية في المدارس اليهودية والمسيحية ومبلغ تأثيرها السالف، ومن تأثر وتفقه بها من أبناء الغرب في القرون الوسطى،
ونرى فإذا أمامنا أيضا تتهادى في تؤدة ورفق الجمعيات السرية من قرامطة وإخوان الصفا والصابئة. مما كان لها وجود فلسفي وذات أثر في تاريخ الإسلام فنتدرج إلى سبب انتشائها وفلسفتها وأعمالها وكيفية اتحاد
الأعضاء بعضهم ببعض. وقس على ذلك وهو يأتي بمقتطفات من كتبها الشهيرة أو رسائلها أو تعاليمها.
ويأخذنا دى فو إلى علم اللاهوت فيأتينا ببحث في علم الكلام - كما يقول العرب - والمتكلمة والمعتزلة في الإسلام، ويستفيض فيها وكذلك عن ابن حنبل والغزالي وكتبه الشهيرة كتهافت الفلاسفة والمقاصد ثم أفكاره الفلسفية وينتقل إلى غيره مما نحيل عليه القراء الكرام.
أمامنا الآن أحد ألذ البحوث وأعمقها تأثيرا في الإسلام: الصوفية. ويحسن بنا قبل أن نتعمق فيه أن نقول هنا أن هذه الصوفية هي غير الثيوصوفية الهندية التي تنفث سمها الزعاف المموه بألوان الذهب وعميدتها اليوم المسز بزانت فتسم الأفكار وتذل النفوس الظمأى إلى
(العجائب والألغاز)!!!
يبتدئ دى فو بالتحدث عن الصوفية وانتشارها إلى أن يوصلنا إلى ابن منصور الحلاج ضحيتها وأحد كبار المتصوفة الإسلاميين وعن التأليف الضخم عن حياته وتصوفه واستشهاده الذي أبرزه المستشرق المعروف ماسنيون منذ عهد غير بعيد. واشتهر الحلاج أينما سار وحيثما توجه في الهند وتركستان وخراسان وخوزستان والبصرة وبغداد. وأهميت عليه الألقاب الحكمية الرنانة ونسب إليه أن اتحاده بالله هو أوثق عرا من أسلافه لما توهم عنه من المعجزات المدهشات؟! قيل أن أحد أعدائه لطمه ذات مرة فناشده الحلاج الله أن يثني لطمته فلما أراد شلت يده! وظلت الشهرة والخصومة تتناوبانه حتى أمر بقتله المقتدر ففاظ عام 922 م.
ثم نجد محيي الدين بن عربي الصوفي الأندلسي الشهير، فأخباره العجيبة ثم نجد الشاعر المتصوف ابن الفارض ومن لا يعرفه؟ قد شبهه أحد المستشرقين فالرحا (في أشعاره القصيرة) بترارك الشاعر الإيطالي. وإذ ننتهي بكلمة مستفيضة عن تراجم الأولياء في الإسلام نصل إلى فصل يتناول موضوعا ليس دون غيره خطورة ولا أدنى أثرا من صاحبه في الإسلام: الارتياب أي السوفسطائية. . . كيف لا وأكثر نوابغ الشعراء فيه. أصابهم ولو جانب من الداء المريب. فممن ناله بعض التلوث: أبو دلامة وأبو نواس وأبو العتاهية حتى المتنبي نفسه علق
به بعض الشيء (إنما الشخص الذي يذكر عادة كأبرز ممثل للذهن الشكوك في الآداب الإسلامية القديمة لهو الشاعر الضرير: المعري) صاحب اللزوميات ورسالة الغفران وسقط الزند وما إليها من بدائع الكتب، وقد داخله الشك أولا في دينه ثم عقبه في غيره من المعتقدات والأديان بما ولده في نفسه العكوف على درس الديانات الأخرى وفلسفتها ولا ريب أن المحن والمصائب التي حلت بساحته كان لها اليد الطولى في تحويل دفة ذلك الخيال المتدفق العظيم وسوقه في بحار الشك واليقين المتعاركة المتلاطمة فرجحان الأولى في غالب أعماله. فمن فقدان نعمة البصر فرأفة الوالد فحنو الأم الحنون إلى عبث الأيام وسخر الأنام كل هذه أفاضت عليه من التشاؤم المحزن والشك الرائع حلة فضفاضة خلابة أثرت في أيامها ومن بعدها أثرا عظيما في النفوس الكثيرة.
ونعثر بعدئذ على الخيام مرسل الرباعيات الشهيرة وصديق حسن بن الصباح الذي صار
فيما بعد شيخ الجبل ورئيس طائفة الحشاشين وصديق نظام الملك أيضا الذي غدا وزيرا لملك شاه - وتتمثل لنا حياته وصوفيته ووجهة نظره في الحياة وشكوكه في الآخرة فوصفه الخمرة. . . ثم نصل إلى حافظ وهذا أيضا من أصحاب الرباعيات؛ فسعدي وأمثالهما من فطاحل الشعراء الفرس الذين لهم في نفوس مواطنيهم وشعوب كثيرة حرمة عظيمة لما يكتنف أشعارهم من الجاذبية والجمال والسحر الحلال.
مما لا شك فيه أن عشاق الموسيقى الشرقية يهمهم هذا الفصل الذي يختم به الجزء الرابع ويجري موضوعه في هذا المسلك من الفن غذاء النفوس الساكنة الثائرة، ولا نظن أن لا نجد فيه شيئا طريفا. كلا! بل هو كسائر بدائع هذا الصرح تستنبطه آراء جديدة ونظريات لها ماهيتها عند أربابه مع كلمة عن جميع الكتب التي اختصت بالغناء والآلات الوترية.
الجزء الخامس
والآن هاهو ذا الجزء الخامس والأخير من العمل العظيم وبه تختم هذه السلسلة الملأى بالآراء والزاخرة بالفوائد التي تتدفق فيه تدفقا ويمتاز عن اخوته بما يتخلله من العصريات، فقد خصص معظمه بالبلاد الشرقية التي تلهبها النهضة
الحديثة أو تكاد. ونمر في هرولة وتعجل؛ فإذا الطوائف والنحل والشيع تتراءى أمامنا على هذه الصفحات وأخبار منابذتها واضطراباتها تتخيل لنا ما بين حين وآخر فنجد الإمام عليا وتحزب بعض أفراد ونشوء أشياعه تليها أخبار الإسماعيلية والقرامطة فالحشاشين وهي فرع من الإسماعيلية - الطائفة التي كان ديدنها سحق من يخالف مبادئها السياسية - وقصدها فقتلت وأبادت الكثير من الفرنجة والعرب وأجبرت صلاح الدين الأيوبي نفسه مع عظمته وجبروته على فداء حياته بإتاوة وصونها بالمال الوفير. . . ونجد أيضا الدروز الذين يتملكون اليوم حوران وجزءا من لبنان. فنعرف كيف سبب جنون الحاكم ودعواه الإلهية نشوء هذه الشيعة ولما لهذه الطائفة من حوادث ومواقع جمة في لبنان في بطون التاريخ تبسط كرا دى فو عنها وتحدث أيضا عن الموارنة وهما - كما نعرف كلنا - في بعض صفحات التاريخ الأعداء الزرق وفي صفحات أخرى، الأصدقاء الأحباء مراعاة لما تقتضيه السياسة والمصالح. ثم نمر بحياة أكبر أمراء لبنان، وهما اثنان. أولهما: فخر الدين المعني الملقب بالكبير ونرى حبه لتقدم بلاده العزيزة في أثر رجوعه من بلاط آل مديشس بفلورنسة إلى أن سلق له الحظ
الوقوع بين أظفار آل عثمان الحادة - ويا لها من أظفار تنزف الموت الزؤام - فقضى ضحية زكية. ونجد الأمير بشيرا فخر لبنان يتلوه. فعن حوادث ملكه العنيفة وصعوده وهبوطه حتى قيض الله له أن تسعى به الأعداء فيسقط من رفعة مجده بعد مجاهدة الأبطال فذهب إلى الآستانة منفيا حيث عاش إلى أن حلت به نائبة الموت فودع نور الحياة وكله حسرات وآلام.
نصل بعد ذلك إلى البابية فالبهائية وليدتها وقد أخذت مكانا في الكتاب جليلا لأهميتها وبدئها وانتشارها كان تابعوها مضطهدين يشدد عليهم النكير جميع من في بلاد العجم. وكم من مذابح وكم من لعنات أرسلت عليهم ولكنهم صبروا وقاوموا حتى كان للبهائية من أبناء سورية (ويا أسفا) دعاة في أميركة حيث نالت بعض النجاح عند الشعب الأميركي وكيف لا، وهو ذو الداء العشقي للأديان والشيع الجديدة.
هنا نستقبل القسم الثاني من هذا الجزء الأخير، وهو مما يهم كل شرقي من مراكش غربا إلى أنجاد الهند ومغاور بلاد التتار وهضابها دون استثناء إذ هي
تبحث عن كل من له علاقة بالحالة الحاضرة منذ ابتداء دبيب النهضة في جميع هذه الجهات. إنما تركية ومصر تحتلان الجزء الأكبر منه، ولا غرو فلتركية نهضة بل نهضات أهمها منذ عهد مدحت باشا إلى اليوم. وكذلك مصر فلها مكانها الزاهر في فجر النهضة الشرقية، منذ تلك البرهة السعيدة التي تسلط فيها محمد علي عليها فانبثق من النهضة ينبوعها الأول.
فالبارون يحدثنا عن تركية عن أولى علائقها بأوربة عموما وفرنسة خصوصا فعن حوادث التجدد التي كان مصطفى الثالث أول مضرم لها. فسليم الثالث فالسلطان محمود الثاني ثم عن رشيد باشا الذي بذل جهدا في تحديد بلاده وإنهاضها وهو ممن لا بأس به.
أما الشخصيات البارزة اليوم في نهضة تركية على العموم فثلاث: مدحت باشا وأحمد رضا ومصطفى كمال. فهؤلاء تعاقبوا بالتتالي واحدا تلو الآخر. فكان مدحت وكان أن جد وأبلى وأسقط عبد العزيز وأجلس مرادا وخلعه وملك عبد الحميد طلبا للحصول على فائدة للبلاد. ولكن الأخير لم يدعه يبحث عما هو أفضل لإنعاش البلاد، فنفاه إلى الطائف حيث قتل على الأرجح. وتلاه أحمد رضا صاحب الأفكار المطلقة وأتى بأعمال عظيمة أهمها إسقاط صولة وجبروت عبد الحميد مع طغمته وإجلاس رشاد. ويأتي بعد ذلك الغازي مصطفى كمال من
يعزى إليه الفضل الأكبر في إنهاض تركية من كبوتها بعد أن كادت أيدي التفرقة والخراب والظلم تعمل بها عملها المعلوم. فنعرف حقيقة ما قام به لا كما يتحدث أصحاب الغايات بل كما يدل عليها الدرس والبحث النزيه.
ثم يختم كلامه عن تركية بلمحة عن آداب أهلها العصرية والتعليم العالي بها. وعن بعض مؤلفاتهم العصرية الشهيرة الفلسفية وسواها.
ونأتي إلى مصر فنهضتها تأخذ شرارتها منذ عهد رأس الأسرة العلوية المالكة محمد علي الكبير فأعمال الإصلاح (والترميم) وإرسال البعثات إلى أوربة وقدوم الأساتذة الأجانب إلى مصر ككلوت بك للطب وسيف (أو سليمان باشا الفرنساوي كما يعرف اليوم) للحربيات وفتح قناة السويس في عهد إسماعيل ثم عن الجامع الأزهر فالشيخ عبده والشيخ الطنطاوي فيقظة الإسلام في مصر وعقد المؤتمر في مكة
كل هذه تتردد بين الصفحات وهي التي كان لها رد فعلها الحسن اليوم في النهضة الجديدة.
لا نود أن نتوسع أكثر عن الحوادث المصرية وإيرادها فهي معروفة لدينا كما أنه لا يمكننا أن نأتي بتعليقات البارون عن مختلف حوادثها وإنما نحبذ لو يسعى من يقرأ كلمتنا هذه من المصريين الكرام بنشر هذا الكتاب بين أبناء وطنه لما تضمنه عن بلادهم وعما أخرجته من قادة الأفكار لأنها اليوم مديرة الحركة الإسلامية. ولذا نكتفي بما أوردناه وكفى بذا خير إشارة.
ثم تحدث عن بلاد العرب وأفريقية عن دعوة الوهابيين منذ أن نبضت حركتها فتسلطها وكسر محمد علي لشوكتها إلى نهوضها فتربعها في دست الحكم اليوم. وكذلك حدثنا عن الإسلام في أفريقية وتطوره إلى اليوم.
في الهند أيضا للإسلام مظاهر وأفكار. فوجب تخصيص فصل ببعض توسع عن حركاته وسكناته وكذلك قل عن بلاد فارس وبلاد التتار ثم يختم الكتاب بفصل عن المرأة المسلمة وعن النساء ذوات الأثر فيه حديثا.
وينتهي هذا الجزء بل هذا العمل الرائع بملحوظات وكلمة شبه ختامية يفسر فيها بيان مقصده من الكتاب إلى ما هنالك من فوائد ومذكرات.
كلمة ختامية
هذه هي شبه خلاصة عن سائر محتويات هذا العمل المجيد وأنى لي أن أصف بما أوردته ما تضمنته خمسة أجزاء ضخمة أو ما ينيف على ألفي صفحة من جلائل الفوائد ولم يقتصر الأمر بها على إيراد النتائج والوقائع بل تعداه إلى إتباع كل جزء فوائد وملحوظات تختلف من أربع صفحات إلى ست وسبع مدونا فيها كل ما ظنه - بل وجده ذا فائدة عظيمة - يستمد منها الطالب دررا وقد رتبها بحسب المواضيع وتخاصيص كل جزء، داعيك مما قد جمعته رؤوس الأقلام والمذاكرات في أثناء تعاريج تلك البحوث مما يطفح إناء القارئ وكما قلت في مقدمة بحثي إني لن آتي بثاقب فكره في مواقع الكتاب بل سأكتفي ببسط مضامينه لأبثها على صفحات (لغة العرب) النيرة ولست فيها غير محدث مخبر ومع ذلك لم اقدر أن أذكر سوى أهم الحوادث وأهم مضامينه وعبرت عن الشيء الكثير
وما قصدي من وراء هذا البحث سوى أن نتمكن من القيام بواجب الشكر لأحد جلائل أعمال المستشرقين الكبار الخالدة.
أما طبع وتجليد هذا الكتاب فهما غاية في الجودة والإبداع - على الرغم مما نالني في جزئه الثالث من حظ عاثر شأنه معي في اقتناء الكتب على الدوام - والكتاب من كافة جهاته هو بغية الشرقيين ومطلبهم.
وإني أرجو بذا وكلي أمل أن أكون قد قربت إلى الإفهام قيمة هذا الأثر الخالد الذي قلت أشباهه وندرت أمثاله وفاضت فوائده.
مسك الختام
والآن أمام هذا لا يسعنا إلا إبداء شكرنا للبارون الفاضل على ما جاد به من جهد وعناء صرفهما في القيام بإعداد عمله المذكور وإبرازه تحفة أنيقة مفيدة في حلته القشيبة.
فحبذا من جانب الشرقيين الالتفات والشكر وحبذا من الشرق معرفته وإقراره بالجميل!
وحي على الفلاح!!!
بركات (السودان): مشيل سليم كميد
طبع الدرر الكامنة
أبللت بعد أن لازمت حجرتي ستة أسابيع وهاأنا ذا أذهب إلى خزانة لندن لأشتغل فيها.
وإقامتي طول هذه المدة بين جدران غرفتي مكنتني من أن أنهي (الدرر الكامنة) وقد أرسلت إلى الهند بالأوراق الأخيرة ليتم طبعها. وقد بلغ عدد التراجم 5444 وسوف أضع فهرسا في الآخر أذكر فيه الأسماء المنسوبة التي يعرفها بها أصحابها دون غيرها وهي لا توجد في النسخة الآن إلا أن معرفتها من الضرورة بمكان عزيز وإلا فما أمكن الاهتداء إلى وجود أصحابها بالأسماء المذكورة دون المشهورة. وفي هذا السفر نواقص لا تنكر ولا سيما أن المؤلف نفسه لم يكن بيده إلا مستندات سقيمة الخط وذلك ما يتحققه كل باحث مما يراه مكتوبا على الحواشي التي تطرز المخطوط الذي بيدي.
بكنهام (إنكلترة): ف. كرنكو