المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حضارة الإسلام ومفكروه - مجلة لغة العرب العراقية - جـ ٧

[أنستاس الكرملي]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 65

- ‌سنتنا السابعة

- ‌في يوبيل أنستانس الذهبي

- ‌لجنة اليوبيل الكرملي

- ‌دعوة الزهاوي

- ‌حفلة يوبيل العلامة الكرملي

- ‌رسالة المجمع العلمي العربي في دمشق

- ‌برقيات المستشرقين

- ‌لغة العرب

- ‌العلامة الكرملي في حفلة تكريمه

- ‌تقدير النبوغ والعبقرية

- ‌في موقف التكريم

- ‌نشيد وتفنيد

- ‌أقوال الصحف

- ‌العدد 66

- ‌اللغة العربية والتجدد

- ‌عند الشاطئ

- ‌رشيد الدين

- ‌البعيم

- ‌لواء الموصل

- ‌عوض

- ‌الأرملة المرضعة

- ‌يا محب الشرق

- ‌قبر الإمام أبي يوسف

- ‌اليوبيل

- ‌ثياب الشرق في بلاد الغرب

- ‌السيد محمد علي الشاه عبد العظيمي

- ‌نظرة في تاريخ مساجد بغداد

- ‌خزائن كتب إيران

- ‌صدى اليوبيل

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 67

- ‌الشمسية

- ‌صفحة من تاريخ التطعيم

- ‌اللغة العربية والتجدد

- ‌معجم الشعراء للمزرباني

- ‌دار ابن الجوزي وقبره ببغداد

- ‌ثمار القلوب في المضاف والمنسوب

- ‌خزائن كتب إيران

- ‌جامع قمرية والمدرسة العمرية

- ‌عشائر لواء الموصل

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 68

- ‌حضارة الإسلام ومفكروه

- ‌قبر الإمام أحمد بن حنبل

- ‌أسماء القبائل وأنسابهم

- ‌السرحيون أو الشرويون

- ‌على يفعول

- ‌من أوهام المنجد

- ‌الحامض وأنواعه

- ‌نصرة الحق واجبة

- ‌اليزيدية

- ‌صدى اليوبيل

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 69

- ‌حضارة الإسلام ومفكروه

- ‌في ظلال الحب الشريف

- ‌قبر ابن الجوزي وقصور الخليفة

- ‌معجم المرزباني

- ‌صفحة منسية من تاريخ نادر شاه

- ‌المدرسة البشيرية

- ‌لواء الدليم

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌الشفق الباكي

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 70

- ‌اليزيدية

- ‌كحل الإخفاء

- ‌إلياس صالح اللاذقي

- ‌نسخ كتاب الدرر الكامنة

- ‌أرجوزة الظاء والضاد

- ‌المطبوعات الحديثة في النجف

- ‌اللباب ورباعيات الخيام

- ‌صدى اليوبيل

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 71

- ‌القلم حاجية

- ‌الكشافة

- ‌نكبة الفلاح

- ‌لواء ديالي

- ‌قبر رابعة

- ‌الشيخ سكران

- ‌هولاكو في بغداد

- ‌من مشاهير رجال المائة السابعة للهجرة

- ‌تتمة عن اليزيدية

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 72

- ‌فضل العربية على سائر اللغات

- ‌بسمى أو أدب

- ‌جامع قمرية

- ‌ما فوق باب اورتمه من الكتابة

- ‌رسالة في تراجم أحوال الرجال

- ‌الحاج الميرزا معصوم العلوي

- ‌مندلي الحالية

- ‌الشعر في مصر

- ‌السريطاء أو السويطاء

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 73

- ‌الحالة الاجتماعية للعشائر العراقية

- ‌حرف الضاد واللغة المالطية

- ‌الكتابة التي فوق باب جامع مرجان

- ‌بسمى أو أدب القديمة

- ‌وزن الفعل الثلاثي بتداخل اللغتين

- ‌تكلم جبر ضومط

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 74

- ‌ترجمة فنان عراقي

- ‌مندلي الحالية

- ‌عبرة أولي الأبصار في ملوك الأمصار

- ‌مشاهير جمع مشهور

- ‌الأغاني

- ‌الشعر في مصر

- ‌شرح لسقط الزند

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 75

- ‌معجمنا أو ذيل لسان العرب

- ‌أدب ومعناها

- ‌المولى في لغة العرب

- ‌كتاب الجيم في اللغة

- ‌أكان السموأل نصرانيا

- ‌علاج بدو العراق للزهري

- ‌أصل كلمة إبليس

- ‌تاريخ بغداد

- ‌الجري والجريث

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

الفصل: ‌حضارة الإسلام ومفكروه

‌العدد 68

- بتاريخ: 01 - 04 - 1929

‌حضارة الإسلام ومفكروه

(لغة العرب) عرف قراء هذه المجلة حضرة الأديب الفاضل ميشيل سليم كميد، إذ جذب إليه قلوب كثيرين من ديارنا، فتعلقوا به كل التعلق، فلقد رأوا فيه رجلا مفكرا قديرا واقفا أحسن الوقوف على آدابنا وآداب الغربيين: ووجدوا فيه أنه يتبع من الآراء أصلبها وأبينها محجة. وهذه المقالة التي نعرضها اليوم على أنظارهم تبين أن رأيهم لم يكذب، وهي توضح لنا منزلة تصنيف شاع في ديار الغرب فأقبلوا على مطالعته واسمه (مفكرو الإسلام) وصاحب هذا المقال يشير هنا إلى ما فيه من المحاسن وبعض المساوئ ويطلعنا على محتوياته بعبارة جلية فنشكره على هديته هذه الحسناء ونستزيده من اشتباهها.

توطئة

فضل المستشرقين

هو جد الأوربيين غريب، وعجيب دأبهم على استخلاص حقائق الأمور وغوامض السفور! والله هم، إذ ينصبون على تفسير واستطلاع واستكشاف

ص: 273

الدفائن! لا كلال يعتورهم، ولا ملل يتطرق إليهم!. . تراهم إذا بحثوا عن قصد ثبتوا في البحث ثبوت الراسيات إلى النهاية حتى الفوز بالمراد؛ مهما كلفهم من عناء ووصب. لهذا ترى دواما التفوق في جانبهم والابتكار في حقائبهم فهم يختلفون عنا الشرقيين قلبا وقالبا، فأننا إذا ما حاولنا أعمالا خطيرة وأنسنا التعب والبرح تخللنا اليأس، وتطايرت منا تلك الأحلام الذهبية الوهاجة، تلك الأحلام التي كان يمكن أن تتحقق لو دئبنا في العمل. إلاّ أننا قذفناها غير آسفين أو لفقناها وأبرزناها لضوء الحياة، صفحة تعسة بائسة، عليها سماوة العجلة والاضطراب. والأصعب أن ننتشل فردا ثار على هذه النقائص الشائنة.

أنظر إلى الغربيين ولله درهم! وأدر الطرف النزيه في مخلفات القرائح، ومولدات الأذهان ونتائج الأدمغة؛ سواء أكانت اختراعات صناعية هائلة أم كتبا زاخرة بالأفكار والآراء تجد صورة الوجدان الحي والاعتناء والجلد والدرس العميق البعيد المدى، تتخلل أدق دقائقها! وقد أراد المولى الكريم بالشرق خيرا وعونا، فتخصصت فئة كريمة من هؤلاء الغربيين الفطاحل المدققين؛ هي فئة المستشرقين الأكارم وتطوعوا كرما ولطفا لدرس آثاره الثمينة

والوقوف على مخلفاته الخالدة. فهم لم يجبروا وليس عليهم الزام؛ إنما حب إيقاظ الشعوب الحالمة، وشعورهم الحي في إظهار الحقائق وبسط المطويات، دفعاهم إلى القيام بهذا المجهود الهائل الذي كان أثره في الشرق - كما نجده عظيما - وعظيما جدا، فإليهم يعزى فضل عظيم في نهضتنا الأدبية الحديثة - دون غمط لفضل البعثات الأجنبية الدينية التي يمكننا وضعها ضمن دائرة الاستشراق فلهم بها أيد كريمة!. . أجيالاً يعلمونها ونحن رقود صموت. ومن المحتم أننا أولاهم لبقينا إلى يومنا هذا، كعهدنا السالف أو كما في بدء تنبهنا - إذا أتيحت لنا الفرص - ولاستلزم بلوغنا حالتنا الأخيرة عناء وجهدا وأعواما أخرى كثيرة؛ ومن المحتم أيضا، فقدنا لكثير من المؤلفات والآثار القديمة. مما هو عوز الماضي وفخر اليوم، وعلى الأخص ما نبشوه من نوادر المخطوطات النوادر واستنقذوه من عبث الزمان وجهالة الإنسان، وقد غدت الآن من غرر الآثار في الآداب العربية وغيرها ودرر تأليفها وحسبنا أن نلقي من نظرنا لمحة للغابر ونستفسر دور

ص: 274

الآثار وخزائن الكتب ولنحكم بعدئذ! لنحكم لمن الفضل في جمع وترتيب الآثار وطبع المؤلفات والقيام بجميع ذلك خير قيام! لست أحاول البحث وإطالة الشروح فكل لبيب أديب يعرفها ويقدر الخدمات الجمة والمشاق العديدة التي قاموا بها. فحيا الله تلك الشهامة الشماء والهمم القعس!

لا يخلو أمر من فساد ولا حسن من شائبة، والوجود يحتم الضلال تناول أي موضوع شئت في هذا الكون الواسع المنبسط تحت أنظارك فأبحث دواخله وخوارجه، فلا شك أنك تصطدم بالمساوئ بين حنايا المحاسن، وحيث أن هذه الطبيعة المفسدة من سنة الكون، لا نعدم الوقوع على أقوام مفسدين، إذ نقصد استفادة فائدة من كتب المستشرقين الجليلة، والارتطام العنيف بأفكار الطفيليين الخلابة المضللة. هم قوم شيمتهم الأندساس تحت لباس علم المشرقيات، وما هم منه بشيء؛ والتردي بردائه الشريف. وأظن أنه ليس في الشرق من لم يسمع بهذه الأسماء المرددة ألوف المرار على صفحات جرائدنا ومجلاتنا الممتازة أيضا: رينان، غوستاف لوبون، أدوار مونته، وأمثالهم. وأهمها ترديدا على شفاه الشرقيين: رينان ولوبون. فأي شرقي مطلع على الحركة الأدبية عندنا ولا يعرفهما؟ اسمان يتلألأن زهوا ولمعانا على كل شفة ولسان؟! لعمري! لقد ساء فألنا. ونسبنا الفضل إلى من لا فضل له ولا فائدة؛ وغمطنا أصحاب الفضل حقهم، وسلبناهم عنوة وزورا تعبهم وجهدهم، وسحقنا

بتصلف وعجرفة - كدت الفظ بلؤم - نتيجة قرائحهم الوقادة المتدفقة! ولعمري ماذا فعل هؤلاء - وشاكلتهم والحمد لله نزرة - حتى نمجدهم ذا التمجيد؟ أكفأهم أن يحمدونا ويطرونا - وداؤنا العياء الإطراء - حتى نسجد لهم سجودا، ونلتقط كلامهم منزلا لا مرد له وهم لم يقدموا إلينا جديدا مبتكرا! يا للمعرة!. . فلا يغرننا ذهبي الكلام ومنمق الألفاظ، فلنبحث الحقيقة ولنقدر الرجال، فلقد أمرضنا بخس الأقدار، واحتقار الأعمال الجسام!

يكاد الفرنسيون يحتكرون الاستشراق، فمنذ قرون عدة وهم المقدمون المشار إليهم بالبنان. هم يبدءون العمل ويفكون الألغاز ويتفهمون الرموز ويحلون الطلاسم، ثم يأتي بعدهم من ينسج على منوالهم، ولكنه لا يبذهم ولن يبذهم أحد، أمامك الأمثال شواهد. فهل من مماثل لهم أو قرين؟

ص: 275

كانوا على الدوام، ولا يزالون محور الابتكار ومركز الاستشراق التام فمن كتبهم خاصة نال الشرق إلهام نهضته الحديثة، وبمساعدتهم وهب الشرقيون حظ حياة جديدة لامعة؛ لكنها لا تخلو من بقع سود تذهب برونق كثير من بهجتها. وكما سبقنا فقلنا: من عدم تقديرنا للأعمال الخطيرة، ولا ندري توجيه خطانا المتقلقلة، فنحن نحب التشدق بمفاخرنا. فمن الكوخ الحقير نبتعث قصرا بل قصورا! كلما أثنى علينا أحد ولو كذبا ونفاقا لاستجلابنا، آمنا بكلامه ورفعناه سماء ورددنا صيته كالببغاء كائنا من كان دون فقه ولا بحث، أيتكلم عن جدارة وحق أم هو ينقل ما قاله هذا وكشفه ذلك وأتى به لينال شهرة عندنا أو ربحا ماديا أو أدبيا، ولم يأت بالشيء المبتكر منه، بل هو ذاته عالة على سواه وأن تقول أمرا كان من الأهمية بلا الكثير وليس في حد نفسه يفيد التاريخ ولا يجلو غامضة حالكة.

إذن، سادتي، ما الفائدة لنا من أمثاله؟ لا شيء سوى البرهان على ضعف عقليتنا وسوء تقديرنا! هاءاناذا أراك تؤنبني قائلا: إنك لا تراني فيما أكتبه إلاّ عابسا مكشرا ناعيا على الشرق تأخره حظه التعس في العلوم. . . أجل! إني لكذلك فقد انقضى عهد كان مدح الشرق فيه واجبا على الشرقيين. لقد آن لنا أن نرفع رؤوسنا المطأطئة ونبصر ما كانت تحجبه حواجب الظلام والجهل. مضى ذلك العهد البائد التعس، وحق للشرقيين استفادة فائدة من حوادث الماضي فاجتناء المفيد واجتناب الباطل. فإن ترني مشمئزا كارها نادبا فما أراه من مواطن الضعف وانحطاط التقدير تجبرني أن أكونه. . . إذا أردت مثلا فلأضربنه لك

وألمس به الحقيقة القاتلة ظاهرة محسوساً بها تشق القلوب. . . غوستاف لوبون! يا له من اسم يفلق أصمخة المسامع في الشرق! أكبر مستشرق عالم في الغرب وفي العالم كله طرا (؟؟؟). . . هذا بعض ما يتحدث عنه أكثر الجرائد والمجلات عندنا. وهل من اسم غربي في الشرق أكثر شهرة وأذيع صيتا من اسمه؟ لا مراء أنه الاسم الغربي الوحيد الذي حاز قصب السبق على شفاه قرائها! ولكنه أيستحق كل هذا الفخر وهذا الإكبار؟ إن كتابه (مدنية العرب) الذي سبب له رفعة الشأن هذه ليس من الأهمية بمكان. فالذي تطرق

ص: 276

إليه، غدا اليوم عند المستشرقين في حكم المهملات لذيوعه وانتشاره إلاّ القليل منه التافه. وهو ليس منها بمكان كريم. إنك ترى الآن أن وضعه وأمثاله في مصاف المستشرقين والمستعربين فضلا عن عدهم ثقة وحجة بينهم وصمة عار وخيانة منا تجاه المستشرقين. . ويندر أن تقرأ في الشرق أسماء: دوسو وماسنيون، ولامنس، وكرا دي فو، وفران، وبرو كلمن وغيرهم من إجلاء العلماء في هذا العلم - هؤلاء من أفادوا الشرق حقيقة وتاريخه فائدة جليلة لا تقدر ولا يحصرها حصر - بجانب ما تقرأه عن رينان ولوبون ولا سيما الثاني فبهما تطفح صفحات النشرات وتغطي الزبى وتلتهم مفاخر غيرها. وبذا تجد أيها القارئ العزيز أن قد شططنا عن معقل العدل وواجب العرفان وأسأنا استعمال الشك؛ فحبذا لو وعينا ورددنا إلى كل حق حقه!

(مفكرو الإسلام) لكرا دي فو

-

أما الآن بعد تبسطنا، فقد آن لنا، أن نأتي على ذكر كتاب له اليوم مركزه العظيم، في عالم الاستشراق، إلا وهو كتاب (مفكرو الاسم) للمستشرق العلامة البارون برنار كرا دي فو. هذا الكتاب، عظيم بمحتوياته عظيم باستنتاجاته عظيم بجميع مباحثه، أن نذكر عملا خطيرا في عالم المشرقيات يمكننا بكل طمأنينة وثبات، أن نضع في المقدمة هذا التأليف؛ وهو مع أنه عمل للشعب الأوروبي عامة، والأفرنسي خاصة، وكما يقول المؤلف الكريم، ليعطي فكرة الأفرنسي عن الإسلام، وماضيه واعتقاده. وعزه الغابر، وجهده، وبذله. فقد أحله المستشرقون أكرم موضع، ولحظ في سائر منتديات العلوم في الغرب، بعين الاعتبار

والإجلال، فما أحرانا نحن باقتفاء أثرهم، وما أحرانا بالاستمتاع واستفادة فائدة من نواضر هذه الأفكار، الفذة التي لا شبيه لها. لغة هذا الكتاب عامة، سهلة، قريبة المأخذ، دانية التفهم من الفراء حتى من ضعيفي الملكة في الفرنسية من دون تعب ذهن ولا وصب عين. أما المؤلف فهو دون معارضة أحد أئمة هذا العلم في الغرب أجمعه، وإن كان غير معروف لدينا فهو اشهر من أن يذكر لدى علماء المشرقيات.

ص: 277

كلمة عن التأليف

يتركب الكتاب الآنف الذكر، من خمسة أجزاء، بقطع 12 الضخم، ولا تقل مجموع صفحاته عن نيف وألفين، وهو يبحث عن كل ما يختص بأعمال الإسلام، واحتك به، عن شيعه وصوفيته، حكامه ومؤرخيه: قوانينه وشرائعه فلسفته الدينية والسياسية، وعلومه الطبيعية حتى عن موسيقاه. أي أنه وعى كل فعل له أثر بارز في تاريخه. ومع أن الآداب العربية، غير داخلة تحت بحثه يستدل من عنوانه. قد خصص فصلا لها ليس بالكبير ولا بالصغير، أدلى برأيه فيها. فإذا أنت تراه دون مبالغة عملا رائعا حقا، جديرا بالشكر والاحترام فهو بحار علوم إسلامية زاخرة، أو بكلمة أعم: معلمة إسلامية وفية، ومما يزيده قيمة، ويكسبه فخرا، اتصافه بالعلم، وعدم الجنوح، فقد أعطى (ما لقيصر قيصرا، وما لله الله) وقد أتى بتراجم الخلفاء والفلاسفة، والعلماء، وسواهم. ذوي الأثر في تاريخ الإسلام، ولا تظنه قد أتى عليها دون تعليق، كلا! بل أودعه من بنات أفكاره؛ وآرائه فيهم، وحكمه عليهم، مما له الدرجة الأولى في نوعه، ونحن إذ نذكر شيئا عن هؤلاء لا نأتي بفكرته المبتكرة ذات الأثر، إذ ما الفائدة من الكتاب لو سلبناه زبدته وروحه بل حياته، ونشرناها وإنما سنتكلم كلاما مجملا، لنعطي القارئ بعض الفكرة - وحبذا النجاح! - عن محتوياته، وعليه مراجعة الكتاب، لاجتناء فوائده؛ وحسبنا في هذه الكلمة، أن ننبهه على قصدنا، فنزيل ليل الشكوك ونبعد عثرات سوء التفاهم. وقد نعلق في بعض المواضع، بكلمة منه أو منا، لننقذ الأسلوب من الجفاوة والاملال؛ فلا يسأم من ذلك القارئ.

قد يساعدنا على إعطاء فكرة عنه؛ إن نذكر ما جاء في مقدمته ففيه يبين المؤلف العظيم غايته في نشره وبسط تقاسيمه ومقاطعه وحبذا هي خير مرشد وأفصح دليل للقارئ العزيز عن جلالة العمل النفيس:

(إن اهتمام الشعب يزداد تحولا شيئا فشيئا نحو الشرق، وعلائق الدول الأوربية وشعوب الإسلام التي اشتدت عراها أيضا في ساحات القتال إبان الحرب الأخيرة تزداد توثقا. ففرنسة تملك الآن إمبراطورية إسلامية

ص: 278

عظيمة. ولذا يجب عليها أن تطلع جيدا على أحوال الشعوب التي تمد ظل سلطتها أو نفوذها ومن الواجب أيضا أن تعلم نفسيتها وماضيهم واعتقاداتهم واميالهم ومجدهم الغابر.

لغة كان للاستشراق العميق نصيب وافر في السنين الأخيرة - ولا يخفى أن بلادنا احتلت المكان الذي هي جديرة به منذ قرون ثلاثة - وقد عرفت أعمال المستشرقين الآداب الواسعة الرفيعة المختلفة والفائضة أخبارا وأعمالا وأفكارا. وقد نشر الشرقيون أنفسهم كثيرا من تأليفهم القديمة. والكمية المنشورة الآن - في الآداب الإسلامية الثلاثة الكبرى: العربية والتركية والفارسية - هائلة دون إشارة إلى الملحقات. فالصعوبة الآن بذلك تزداد في وجه المستجد في انتقاء طريقه في هذه (البحار) كما يقول العرب ولذا فالتأليف الجامعة هي مما لا غنى عنه اليوم والتي تحوي بيانات وإرشادات عامة عن المادة المبتغاة.

لا نريد أن نعطي هنا فهرسا بل منتخبات. وليست غايتنا أن نقول كل شيء بل أن نبسط البارز وأن نعرف التأليف الرئيسة وبيان بعض الأفكار الجليلة وجلاء بعض القاتم. إذن ليس ما نقدمه للقارئ أسماء ولا عناوين كتب بل هو شيء حي عن أشخاص وصور وأفكار وسمات.

جميع هذه الآداب تزخر بالأفكار؛ وكل مؤلفاتها تكاد تفيض بشعور غريزي حق وحسن أخلاق وتصوف. والأميال الذهنية الصادقة قد تسلطت على حياة أشد الغزاة المتوحشة مع نوع من غريزة ممتازة من أداة حسنة وعقل وحكمة.

(يتألف هذا التأليف من خمسة أجزاء:

(فالأول عن (الملوك والمؤرخين والفلسفة السياسية).

(والثاني عن (الجغرافية والعلوم) لأن جغرافيتي العرب عرفوا في أوربة منذ عهد بعيد وعلماء هذه الأمة، علماء الفلك والجبر والكيمياء والطب. كانوا ذوي شهرة في القرون الوسطى وهانحن أولاء في هذا الكتاب نعد للأفكار الذكرى ونختصر شيئا مما بذلوه في سبيل العلم.

(والجزء الثالث يبحث عن (التفسير والفقه). فتاريخ أصول الإسلام غدا في هذه الأوقات هدف أعمال جليلة من فطاحل المستشرقين كافة من جميع

ص: 279

الجنسيات وهي تكاد تتخذ اليوم ذاتها فرعا طريفا بين علم المشرقيات وسنبحث عنا الشيء العميم.

(وينشر الرابع تحت هذا العنوان (الفلسفة (المدرسية) وعلم الكلام والتصوف) وهو أمر قد أفضنا عنه قبلا. (والخامس يكون تحت (الشيع والإباحية العصرية).

إلى هنا ينتهي كلام البارون الفاضل عن علمه العظيم ويقف به وقد أتى في بضعة سطور على أهم دوافعه إلى القيام بالأثر الخالد، فهو كما تراه ألم بجميع المواضيع وبحث فيه مختصرا لكنه جدير بالاحترام والاسترشاد. فهيا بنا إذن نستطلع بوضوح وجلاء أكثر ماذا كتب ونستفسر أفكاره في بعض أهمها. ولعلنا نتوفق فنتمكن من إعطاء صورة فياضة جليلة مضطربة تهدي القارئ وتكشف له عما يستحقه هذا المؤلف من التفات وعناية وإجلال.

وصف محتوياته: الجزء الأول

هاهو ذا في الجزء الأول يحدثنا بادئا بالمنصور صاحب دار السلام ويتلوه بهارون الرشيد وما بذله في سبيل إعلاء دولته ويحدثنا عن نيته في افتتاح قناة تشق الصحراء، بين البحرين الرومي والقلزم (الأحمر) وهي الفكرة نفسها التي خطرت فيما بعد لنابليون في أثناء اكتساحه مصر، ولغيره حتى قيضت العناية

ص: 280

الإلهية لها (فرديناند دلسبس) فأفتتح قناة السويس. لكن منعت الرشيد موانع دينية فنفض يده منها كما نفضها منها قبله عمرو بن العاص للسبب عينه.

ومما يشين عهد هذا المولى العظيم قساوته ولا سيما قتله البرامكة الرائع، فلولاها لكان عهده الزاهر لأحسن آونة مرت بها دولة العرب. . . ونصوب نظرنا فإذا المأمون والأمين، حب الرشيد وزبيدة يعترضاننا وإذا قصتهما الفاجعة تنتحي بين طيات الصفحات وإذا تحكم المأمون يتلوها زاهيا. ففي أيامه ازدهرت الفلسفة اليونانية عند العرب وافتتحت المعالم (المدارس) لتعليمها وازدهرت سائر العلوم والفنون الراقية وكان موت هذا (الأمير العظيم الحكيم) ضربة صماء على العرب. ثم ينتقل كرادي فو إلى صلاح الدين وأعماله الكبيرة وانتصاره العظيم في موقعة طبرية الشهيرة، بمساعدة الأقدار وعن صداقته مع ريكاردس قلب الأسد وعن حكمته وكرمه حتى أن أعداءه كانوا يميلون إليه (وكادت تكون

بينه وبين زعماء الإفرنجة شبه صداقة) فلقد كان عظيما في حكمه عظيما في أعماله عظيما في حروبه.

نمر في هذا الجزء بتاريخ كثير من كبار الحكام في الإسلام أمثال هولاكو الذي ثار على غرب بلاده أو كما نعرفه اليوم على (الشرق الأدنى) وترك بغداد قاعا صفصفا ينعق فيها البوم وتتصايح على جثث أولادها الوحوش وتحوم حولها النسور. فمحمد الثاني فاتح القسطنطينية ومؤسس دولة الأتراك فيها. فسليمان وتيمورلنك ونتدرج بعد ذلك إلى غيرهم فيقع اختيارنا على (أكبر) أحد عظماء حكام المغول في الهند الذي كان عالما فيلسوفا. وكانت بلاده تضم من الأديان

ص: 281

جميعها وأشتاتها. فأمام هذا السيل الجارف من المعتقدات خطر له أن يوحد دينا يتألف من جميعها. فأتى بكثير من رجال الأديان حتى من اليسوعيين للتجادل أمامه وسمح لكل بإنشاء معبده الخاص به وكان هذا المكان يدعى (عبادت خانه) أي بيت العبادة. فكانوا يخطبون فيه بكل حرية. وبلغت به فلسفة أن أنشأ على رغم تحريم الإسلام لصورة الحيوان معبدا ضم فيه إلى صور المسيح صور بوذا. ولقد كانت له حقا من فلسفته هذه - بل عدم إيمانه إذ أمكن (كما وصفه أحد مؤرخيه) تجاوزا عظيما عن كل ما يقتضيه الشرع الإسلامي. أجل أنها لثورة فلسفية ساكنة هادئة تحميها السلطة وتوطدها السلطة فالخوف. ولا تزال قاعة تلك المحاضرات المتعددة الأغراض المتباينة المذاهب والأديان تقوم في عاصمته (فتح بور سيكري). . . وفي حكمه ارتقى الفن في الهند ارتقاء عظيما، فقلعة (اكرا) الشهيرة هي من مبتكراته. فهو لم يكن فيلسوفا فحسب بل كان حاكما عالما يحب الرقي والفن في كل شيء حتى قيل أنه حسن الآلات الحربية واختراع طراز عجلات (عربات) وهلم جرا.

وإذا انتهينا من أمر الملوك والحكام نر إنا أمام المؤرخين وإذا البارون الكريم يحدثنا عن سبب جهلهم في أوروبة. لأن العرب لم تعرف قط معنى كلمة (تاريخ) كما نعرفها وكما كانت تفهم في أوروبة منذ عهود. فنحن إذا قرأنا تواريخ بلوطرخس المؤرخ اليوناني الشهير وقابلناها بما لدينا من كتب العرب المسماة (تواريخ) أطلعنا على الفرق العظيم الشاسع فتواريخ العرب عبارة عن قصص وأخبار مضطربة غير منسقة تختلف طولا وقصرا دون فكر إذ لا تمحص ما يقع تحت يدها بل تلقيها على القراء جزافا وقد نعت دي

فو المؤرخ العربي وأصاب بكونه (جامع أخبار وأنباء)(ومعلومات) ولم يكن قصده الاهتداء للحقيقة بل جمع الأحاديث وضمها بعضها إلى بعض وعلى القارئ أن يحكم وعليه أيضا أن ينقد. فالمؤرخ مخبر أنباء (معلومات) لا غير. . . ويزيد التاريخ العري تعقيدا ما يعتور لغة من جفاوة الأسلوب وقصر المقاطع مما يلبسه صبغة مملة. وقد تكون في بعض الأحيان أو في أحد الفصول ما ينفر القارئ نفورا كريها.

هانحن أولاء نتعرف بالطبري وابن مسكويه (ل. ع. صوابه مسكويه

ص: 282

(والفخري وعن أشهر تأليفهم المفيدة ثم نتوصل إلى مؤسس الهلال المرحوم جرجي زيدان فنقف هنية أمامه نقلب النظر. فدي فو ينظر إليه كمؤرخ شرقي يتمشى على الروح الأوربي العصري فيبحث عن طريقة زيدان في درس العصور الإسلامية على الإجمال ثم اختصاصه بعهد العباسيين. فبحثه عن سياستهم وإدارتهم وأحوالهم في رواياته المعروفة في الشرق. كالعباسة أخت الرشيد والأمين والمأمون وعروس فرغانة وغيرها. فبحث زيدان عن المنافسة الهائلة التي كانت تجري بين الفرس (العجم) والعرب وما كانت تتستر به في كثير الأحيان فتختفي الأغراض المزمجرة وتظهر المقاصد التافهة؛ ونحن نرى في عروس فرغانة بعض تلك المثل ظاهرة رائعة وذلك حقيقة كما ينعته دي فو أنه درس تاريخ العباسيين (بروح فلسفي يدعمه نظر ثاقب).

وننتقل فإذا ابن الأثير وكامله الذي خصص للصليبية مكانا معتبرا فيه. . . من أغرب صفحات التاريخ العربي أن أحد أمراء السوريين أسامة بن منقذ الذي كان في شيزر كتب ما نسميه اليوم (بالمذكرات) فهذه غير معروفة في الشرق ولم نعرفها نحن إلاّ منذ عهد ليس ببعيد بينما كانت منتشرة في الغرب منذ عصور بعيدة فأسامة شذ عن جميع المؤرخين في العربية بانتقائه هذه الطريقة الفريدة وسار عليها ونشر تاريخ حياته وأعمال والده الأمير وتدخلت بين تضاعيفها أخبار الحروب الصليبية فلذا تعد مرجعا مفيدا لا بأس به في نواحي ذلك التاريخ. ويمتاز أسامة أيضا بشخصية غريبة جدا. . . ونمر سراعا على المؤرخين العرب والفرس والمغول والترك أمثال المقريزي والفردوسي وناصر خسرو وأبو الغزي وسعد الدين وجاويد بك وسواهم. ونحط رحالنا أو إنا لننظر إلى (الاجتماعي العري العظيم ابن خلدون) من لا يخفى على أحد شهرة مقدمته التي طارت في الخانقين؛ فههنا بحث

كرادي فو من جهة فلسفته التاريخية. فابن خلدون بحث فيها عن نفسيات الشعوب وأسباب الفروق التي بينها من قيام الدول وسقوطها والمدنيات وتقلب الأحكام وهلم جرا. لذا أضطر دي فو التوسع في بحثه ودرسه وأفاض كثيرا مع ازدحام كثرة مواد الكتاب وختم كلامه بوضعه في مصاف كتاب أوربة العصريين كما أن غوتيه عده أحد الثلاثة العظام الذين أنجبهم شمال

ص: 283

أفريقية أي وضعه إلى جانب (حنيبعل والقديس اغسطينس) وقد تعمق هذا الكاتب أيضا في درسه وخصص له مكانا رحبا في كتابه الفريد (عصور المغرب المظلمة). . . أجل! إذن فالبارون الفاضل لم يهضمه حقه بل وفاه إياه كاملا ولا نبالغ نحن إذا قلنا عنه أنه أحد الأدمغة العظيمة التي أنجبتها العرب في ميدان الإنسانية المفكرة الشاسع.

ونعبر إلى الجاحظ ونظام الملك وأمثالهما الفطاحل وإذا نحن نقف فجأة أمام مطلع فصل (الأمثال والقصص) فنراه يتحدث لنا عن الآداب العربية. . . ما هذا؟ ليس هذا من موضع الكتاب كما يومئ اسمه! نعم! فالبارون الفاضل يحدثنا أن ليس هذا من اختصاصه ولكنه يجب أن يدلي ببعض الرأي وحسنا فعل؛ فبذا يعطي القارئ على الأقل فكرة عن الآداب العربية مصغرة تصغيرا حسنا. ويقف من ناحية الشعر موقف الكثير من المستشرقين. فهم جميعا يرون في الشعر الفارسي وفي التركي المعاصر تفوقا عليه في الرخامة والتصوير والإبداع والرقة ولعلهم مصيبون؟ ويتحدث عن بعض فطاحل الشعراء الجاهليين والإسلاميين كعنترة والنابغة والأخطل وجرير والمتنبي ويقتطف قطعة من ديوان الذبياني - المنقول إلى الفرنسية بعناية ديرانبور - ويمتدح الأمثال في العربية ويقول أنها مما تكسب العرب فخرا حميدا. ويصف كتب جوامع الأمثال كالزمخشري والميداني ومن هوى مهواهم وتنتهي فإذا هو يتحدث إلينا عن لقمان الحكيم وكتاب كليلة ودمنة. ولا نتعجب ونذهل أن وجدناه خصص حصة من بحثه الطريق بحكايات ألف ليلة وليلة؛ فلها في أوربة حرمة وبين المستشرقين الكرام مكان معتبر - حتى أن أحد الأمريكيين خصص لها اليوم نور حياته للوقوف على منشأها وأصلها وكيفية دخولها في هذه المجموعة اللذيذة - وعليه نراه يتحدث معنا عنها ويبحث في بعض قصصها المشهورة. وهكذا ينتهي الجزء الأول.

الجزء الثاني

والآن نتناول الجزء الثاني فهذا يصوب بحثه نحو مواضيع كان للعرب في بعضها جزء من الفخر جميل ولهم بها يد كريمة فيتلخص البحث عن أرباب الجغرافية وعلماء الرياضيات والطبيعيات. في هذه يختلف تأثير مواهبهم حسبما

ص: 284

رافقهم الحظ بها. يستهل هذا الجزء بالحفريات وإذا باليعقوبي يواجهنا وهو أحد أوائل العلماء العرب في هذا العلم شهده الشرق في القرن الثالث للهجرة مع قريتنه ابن خرداذبه الذي سبقه هنيهة إنما يمتاز عنه (برزانته وإفلاته من الخرافات فتلك شأن الكثير من الجغرافيين الشرقيين) ثم يتلو هذا بعلم هذا العلم الشريف الإدريسي صاحب (نزهة المشتاق) وهذه (في مجملها تضاهي مجموعة استرابون) وإنما يؤخذ عليه ما يشوه خرائطه العديدة من الأغلاط الجمة. . . ونقلب الصفحات فإذا أبو الفداء صاحب (تقويم البلدان) فياقوت الرحالة المعروف وكتابه العظيم الخالد أحد الأعمال التي تزيد الإسلام شرفا عظيما. ثم يتحدث كرادي فو عن الجغرافية العامة في البحث عن الخسوف والكسوف ونجم القطب وخطوط الطول والعرض وفصول السنة وخلافها مما يدخل ضمن حكم هذا العلم الضخم مع بعض عرض لأفكار فطاحل الإغريق القدماء كفيثاغورس وبطليموس وأمثالهما. ويتوسع في هذا البحث العميم فيتخذ الفصل الثاني من كتابه في الكلام عن جوابه البحار والابحاريات (علوم البحار). ويذكر لنا بعد استهلال مطول ابن ماجد النجدي الذي كان ربان سفينة فاسكودي غاما الكاشف البرتغالي العظيم وهو الذي قادهم إلى جهات الهند ودلهم على سواء الطريق ومأمنه. ثم نعكف فإذا الفصل الثالث يلاحق أخويه ويتصل بالعلم المذكور وفيه نمر بفطاحل المسافرين طول عهد الإسلام الغابر كالبيروني أحد أولئك العلماء النادرين الذين اختصوا بينهم العرب بالأمور الهندية فقد كتب عن تاريخ الهند ومفكريها الشيء إلهام باحثا عن علومهم وفلسفتهم وأفكارهم وآرائهم في الوجود والكون موازنا بينهم وبين سواهم النصارى والأميين ولا سيما الإغريق ثم كتابه عن مختلف الشعوب والأديان الذي لم يسبقه إليه أحد من العرب ويزيد هذه الكتب قيمة ما تمتاز به عن أمثالها من جليل الفوائد الجمة. لكنها تحتاج إلى جهد عظيم في تفهمها لصعوبتها ونجد بعد ذلك ابن جبير صاحب الرحلة الشهيرة فابن بطوطة أكبر رحالة في تاريخ الإسلام على الإطلاق إذا ما نظرنا إلى المسافات الشاسعة والبلدان الكثيرة النائية التي اخترقها وجاب أطرافها ونجودها وأغوارها من مراكش إلى تخوم

الصين ومن الأندلس إلى

ص: 285

جوف أفريقية في السودان. كلها قطعها غير عابئ بالأتعاب مستهترا بالأخطار التي استهدف لها عديد المرار وقضى شطرا عزيزا من حياته متنقلا كالفراشة من بلدة إلى أخرى ورحلته ذات طلاوة وإفادة وعليها مسحة سذاجة خير إشارة إلى صدق الرحالة ونزاهته ولين عريكته إذ كان يرقم كل ما كان يسمعه ويراه بسذاجة الطفل تلاعبه الألوان الوهاجة من دون نقد عميق ولا اعتراض فهو من هذا القبيل شبيه بهيرودوتس الجوابة الإغريقي الشهير وجوانفيل مؤرخ الصليبية السابعة. ويختم كرادي فو كلامه في الجغرافيات أنها على الإجمال ذات فائدة عظيمة لما حوته من دقيق الأخبار ومختلف الحوادث ومتباين الأبحاث في ذلك العهد إذ ليس لها قرين (وهي تكسب شرفا وذكاء وجدا وشجاعة أولئك الرجال الذين تعاملوا بها وهي مأخذ أسانيد ذات قيمة لا تقدر لو تشرب استعمالها قليلا من سلسبيل روح نقاد).

يتحول البحث الطريف المفيد بعدئذ نحو الحساب والجبر مما كان للعرب والإسلام الباع الطويل فيه. فيحدثنا عن أصل الأرقام الني نسميها نحن (بالهندية) بينما تدعى في أوروبة (بالعربية) وكيف دخلت عند العرب مما يعارض المألوف وهذا ما فسره أحد المستشرقين ويبكه ثم ينتهي إلى تفصيل أعمال الخوارزمي فعمر الخيام فالكرخي وأمثالهم ويكثر من البحث وإيراد الأدلة والشواهد مما نضرب صفحا عن ذكره ويتلو ذلك بفصل في المساحيات (الهندسية) وأصلها عند الإغريق. ثم مقابلة ما أخذه العرب عنهم وعرض بعض مسائل وأمثلة وتفسيرها وهلم جرا. . . ثم ننصرف فإذا الآليات (علم الحيل) فعلم الفلك

ص: 286

والطب وما إليها من تضارب العلوم. وفي كل هذه يرجع إلى أصلها اليوناني باحثا مبينا الفروق والمتشابهات مع أعمال الكبار من رجال العرب والإسلام وما اختصوا به من هذه المباحث العمرانية وتدخل الخلفاء فيها وحضهم أربابها عليها وإكرامهم لهم.

ثم تراه يبحث في علم المواليد عند العرب فيحدثنا عن مركز الحيوانات في عرف العرب؛ عن الخيل والبزدرة أي الصيد بالصقور والبزاة والفهود ويتكلم عن مؤلفات ابن العوام في الزراعة والدميري في حياة الحيوان ثم يتدرج بعد ذلك إلى الهلكيات (الجيولوجية) فأبحاث استكشاف مناجم المعادن ومواضيعهم في علم المعدنيات والأمكنة التي كانوا يستخرجون منها ذهبهم وفضتهم ونحاسهم ويستنبطون سائر حاجاتهم المعدنية. ثم يتوصل إلى معرفة

كيفية استكشاف إبرة الإبحار (البوصلة) وكما يحدثنا أنه يعزى إلى الصينيين أنهم أول من استنبطها. واستعملوها حوالي القرن الثاني للمسيح. وتوصل العرب إليها وأخذها عنهم الغرب إبان الحرب الصليبية ومن ثم عم شيوعها أنحاء البسيطة ثم يحدثنا عن الكيمياء وانتشارها بين العرب وكيف أن مقصدهم كان العثور على حجر الفلاسفة ويتوسع في هذه المادة آونة ذاكرا من بحث وأختص فيها من العرب والشعوب الإسلامية. وهكذا يختم هذا الجزء الثاني بعد أن يعطي قارئه رأيا مجملا عن جميع ما اختص به العرب وابتدعت فيه وتعاملت به الشعوب التي دانت بالإسلام منذ فجر الخلافة في شعبة هذه العلوم الفياضة. وهو في هذه الموضوعات مرجع له القيمة الغالية.

(لها بقية)

بركات (السودان): ميشيل سليم كميد

ص: 287