الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغة العربية والتجدد
ثانيا: الشعراء والمترسلون
يقال إن الشاعر ميزان الأمة ومعيار رقيها وانحطاطها. إذن فما أحرانا أن نندب حظنا العاثر؟ فالشاعر عندنا عبد رقيق للقديم ولا يزال ينسخ الشعر كما نسجه عنترة والنابغة وجرير والفرزدق وغيرهم. ولذا لا نجد عندنا شعرا عصريا بكل ما تتطلبه كلمة (العصر) من معنى وقوة. وإنما عندنا ما يسير على منوال القديم ببعض (معاصرة). ومما يزيد تشويه الشعر العربي العصري، اغترار الشعراء وتعسفهم، واعتدادهم بأنفسهم وحبهم إظهار (شخصياتهم) بمظهر المتضلع من العربية، الملم بدخائلها وشواردها. وكل سعيهم منحصر في تنقية الكلام واستصفاء زخارفه. ولا أذكر أني عثرت على شعر متدفق، حي، مستقل لأحد هؤلاء المعاصرين سوى بعض قصائد لا تتجاوز عدد الأصابع زل بها القلم! إذ نحن لا نزال نجاري شعراء المائة السادسة والسابعة والثامنة في شعرنا في الأفكار والتخيلات. . . فما الشعور الذي يتخلل شعرنا العصري سوى تصنع! وما المخيلة التي تبعث به سوى مقلدة!. . ألا ليت هؤلاء الشعراء تركوا الشعر ونبذوا الخيلاء والتكبر، وكفوا الناس شر ثرثرتهم وبحثوا عما هو أفيد لهم وللعربية!!! هيهات! هيهات!
لا بد للعربية من شاعر يخرج عن طور القديم، لا يتقيد بأي قيد من قيود التقاليد العتيقة، بل ينهج مناهج الأوربيين - ولا يتأثر إلاّ في اللازم الضروري من القديم - لأن الشعر عندهم في أعلى درجاته وأرقاها. ومن شروط هذا الشاعر أن تكون عوامل الشاعرية فيه على أتمها، يكون شاعرا (شخصيا) حيا، واقفا على مجرى العلوم الحديثة، ملما بالتاريخ والمدنيات، متمكنا من الآداب الغربية ومطلعاً على دواوين إعلام الشعر الغربي ومتأثرا بها كلامرتين ودي موسه
ودانتي وأمثالهم، مستمدا منهم وحي الشعر الحي الحقيقي، فلا نقنع بدواوين السلف الأقدمين فحسب، ونتأثر بها. وإني لأعجب للشاعر منا لا يلتفت إلى ما هو خارج عن حدود العربية ويزيدني استغرابا أن أجد الكتاب أيضا، إذا ما تناشدوا أخبار التاريخ ذكروا سلفنا العرب، كأن هؤلاء الذين قذفتهم الأرض ولفظتهم البادية الجرداء، سادة الاجتماع وكأن تاريخهم وحده هو تاريخ العالم بأكمله، أو كأن المكان لا يتسع إلاّ لأخبارهم
ونوادرهم وخرافاتهم ووقائعهم.
نعم لقد أتوا أعمالا عظيمة تستحق الإعجاب والحمد ولكن ليست إلى هذا الحد الذي يجعلنا أن نذكرهم أناء الليل وأطراف النهار وفي معرض كل كلام، حيث لا يكون لذكرهم من لزوم بل لا يتعلق بهم على الإطلاق بأمر. وبلغ ببعض المتهوسين أن لا يتذاكروا ربهم بقدر ما يذكرون العرب من تمجيد وتعظيم.
أذكر أني قرأت لأحد الشعراء المعاصرين قصيدة كرر ذكرهم ست مرات في بيتين منها، وفي معرض سخيف جدا. فتأمل!
إذن فالشاعر العصري يجب أن يسير على مثال أبناء الغرب. ولا يقتبس من القديم سوى ما كان ضروريا. لئلا يفسد ذلك لغته ونرى أن لا يضع همه الوحيد في العربية فقط، بل يأخذ بما تأثرت به اللغة من اللغات القديمة الأخرى كالسريانية مثلا، فالإفرنج أنفسهم، مع ما بلغته لغاتهم من رقي (ومعاصرة) يأخذون عن اللاتينية والإغريقية ليجيدوا الكتابة في لغتهم، فهذا راسين الذي عاش في القرن السابع عشر يكتب إلى ابنه ناصحا أن لا يعكف على شعراء الفرنسية فقط ولا يجعلهم درسه الوحيد، وها أننا نورد ههنا الفقرة مترجمة إلى العربية حرفا بحرف وهي من كتاب له إلى ولده مؤرخ في الثالث من حزيران (يونيو) عام 1693 (أي قبيل وفاته بسنوات ست):
(إنك تطيب خاطري بما تبينه لي من أمر مطالعاتك، إلاّ أني أحثك على أن لا توجه كل فكرك إلى الشعراء الفرنسيين بل فكر في أنهم لا يجب أن يكونوا لك إلاّ بمنزلة لهو لك، لا لأن تتخذهم غرضا لمباحثك الحقيقية. وعلى هذا أرغب في أن تستطيب بعض الأحيان أن تكلمني عن هوميرس ومكونتليانس وغيرهما من المؤلفين الذين هم من تلك الطبقة).
وغير راسين من الفرنسيين كثار قالوا ما يشابه هذا الكلام أي أن لا يكون الإنسان عبدا للقدماء أبناء لغته فقط ويحذو حذوهم بل يشق لنفسه طريقا جديدة ولو أردنا لملأنا صفحات من (لغة العرب) باستشهادات منهم! وقد يقول البعض من ذوي العقول الضيقة أن عند الإفرنج وغيرهم آدابا ليست عندنا، وقد لا توافق أسلوبنا، فلهؤلاء نقول ما قاله بوالو (إن لم تجد الكلمة التي تطلبها فأخترعها) أي أننا إن لم نجد عند الأقدمين ما ينتفع منه، فما علينا سوى أن نستحدث الأسلوب المطلوب وننقله عن أبناء الغرب بعد قليل من التحوير
والصقل.
والآن فلننظر إلى ما يلي هذا في الأهمية وهو:
ثالثا: المعهد العلمي العربي
لندخل في الموضوع المنشود دون مواربة ولا محاباة. فالذي نريده هو مجمع علمي بكل ما في هذه الكلمة من قوة، أي لا نريده مجمعا لغويا بحتا لا يبحث إلاّ عن أصول وقوانين اللغة كما هي الحالة الآن بل نبتغيه مجمعا علميا كما في أوربة يجمع أكاذميات في ضمنه.
أكاذمي اللغة أو بلغة أصح الأكاذمية العربية، لا تؤدي في عرفنا مهمة إحياء العربية كما يجب. نحن لا نريد تقدم وتجديد كلمات في الأدب فقط بل في العلوم بأنواعها جميعا، فالعالم الآن يرتكز على العلوم لا على النظم والنثر، والبيان والبديع، فأذن لا مندوحة لنا عن إنشاء المجمع على النمط الأوربي فيحتوي على خمس أكاذميات - (ونظن أن في الإمكان أن نجد في شرقنا العربي أعضاء اختصاصيين في أكثر فروع هذه العلوم، وما لم نجد له اختصاصيا فلا بأس من تركه حتى يتاح لنا) - وسنأتي على ذكرها في وقتها وهي الكفيلة لنا بتجديد نشاط العربية وتقدمها ومضارعتها للغات الأوربية بعد أن تحذف أغلب كتب النحو والصرف والأدب الغليظ وغيرها.
هذا المجمع العربي لا ينشأ من سوريين أو لبنانيين فقط أو من مصريين أو عراقيين أو غيرهم من الناطقين بالضاد، كلا! إذ العربية ليست قطر من هذه الأقطار دون آخر منها. وحيث أنه ليس من لغة مصرية أو سورية أو عراقية. بل جميع الشرق الأدنى تقريباً يتفاهم بلغة عدنان. وحيت أنها الملك المشاع للجميع، فلا حرج من أن يكون لكل منها حق التداخل في شؤونها. ولكي لا تختلف الآراء وتتضارب الاقتراحات وتتشابك الأقوال والأعمال. فلا يوافق مجمع على أمر ويأتي بمشروع يناجزه مجمع آخر - إذا ما أنشئ في كل قطر ناطق بالضاد مجمعا، فالأوفق والأقرب إلى الصواب والسلام، تأليف مجمع واحد فقط. يختار الأعضاء من بلاد الشرق العربي أرباب الكفاية والاقتدار. وتكاليفه تتحملها حكومة كل منها بالتعديل.
يجب أن يتألف المجمع العربي على النسق الأوربي دون أدنى تبديل، إذا أريد بعث الحياة في لغة السلف. وها أننا نورد فيما يلي الأكاذميات وفروعها التي
يشتمل عليها المجمع
الأفرنسي وهو خير مثال، فهو يتألف من خمسة أكاذميات هي:
أولا: الأكاذمية الأفرنسية (40)
ثانيا: أكاذمية العلوم (72)
وتحوي هذه العلوم: الهندسة. الآلات (الميكانيكيات). الفلك. الجغرافية وعلم البحار. الطبيعيات العمومية. الكيمياء. الجوامد والمعادن. النباتات. الاقتصاد الحقلي. التشريح. الحيوانات. الطب. الجراحة.
ثالثا: أكاذمية الرقم والأدبيات (الأدب. البيان. الإنشاء)(40)
رابعا: أكاذمية علوم الأخلاق والسياسة (40)
وتتركب من علوم: الفلسفة. علم الأخلاق. علم الشرائع. الاقتصاد السياسي. التاريخ.
خامسا: أكاذمية الفنون الفتانة (40)
وتتركب من علوم الرسم. التصوير. الحفر. الريازة (العمارة). النقش. الموسيقى.
هذا ما يتأسس منه المجمع العلمي الأفرنسي ومنه نطلع على عدم اختصاصه باللغة أو بعلم آخر فقط بل يطرق كل أبواب العلوم العصرية المعلومة فإذا سير بما فيه - وبذا تتقدم اللغة خير تقدم - نجحنا وأصبحت لغتنا كاملة إذ تدخل فيها كلمات كثيرة هي في أشد الحاجة إليها.
اللغات السامية والتورانية وتأثيرها في العربية
لا يخفى علينا أن العربية تأثرت بلغات شتى أخصها الفارسية ثم السريانية وتأثرها بالأولى يبتدئ عهده منذ أيام الجاهلية، أولا: حين كان جزء من البلاد العربية يقع تحت سيطرة الأكاسرة.
ثانيا: حين انتقال الخلافة إلى أيدي بني العباس، وانتقال الملك والحكم إلى العراق في دار السلام، كان أكثر الحكام والوزراء من المعجم (المجوسيين المسلمين) ومن وطد الحكم للعباسيين في تلك النواحي كان رجل يمت إلى الفارسية بالدم وهو أبو مسلم الخرساني القاتل الظالم صريع المنصور. ومن بعده تناول شؤون الحكم البرامكة وغيرهم. فهذا الاحتكاك بالفارسية أنتج إدخال كثير
من الألفاظ والكلمات الفارسية حتى أن أقدم كتاب عربي عندنا لم يخل من الدخيل الفارسي.
يبتدئ تأثير العربية بالسريانية منذ عهد الجاهلية حين كان لبني غسان سلطة من قبل الروم على بعض أنحاء البلاد العربية. ثم كان دخول العرب دمشق وافتتاحهم سورية ومعلوم لدينا أن هذه اللغة كانت لسان اغلب أهل سورية حتى أن بني غسان العرب الصميم كانت السريانية تخالط كلامهم العربي. ثم كان وزراء الأمويين المشهورين وهم كما نعلم من أبناء الشأم كابن سرجون عضد معاوية وغيره. فإن حكومات العرب لم يكن لها في بادئ الأمر من العربية إلاّ أسمها بل كان ذلك في كل أيام حكمهم في دمشق؛ إذ كانت في أيام حكم الأمويين، عربية المظهر سورية الإدارة وفي دولة العباس في بغداد، فارسية عراقية الإدارة وقل كذلك عن باقي البلاد التي افتتحوها. ففي مصر الأقباط (الذين اتخذوا الإسلام دينا) وفي الأندلس المغاربة ولم يلحق العرب بعد مائة عام من ظهور الإسلام سوى العلامات البارزة وظلت السريانية في الديار السورية تغالب العربية وهذه تغالبها حتى تم النصر للأخيرة فلجأت الأولى إلى شمالي لبنان، إلى أن قضي عليها كل القضاء في المائة السابعة عشرة للسيد المسيح، ولا يزال الجائل في لبنان يجد اليوم شيئا من اللهجة السريانية في بعض القرى النائية.
كل هذا الاحتكاك، أولد - ولا مراء في ذلك - أثرا، نراه باديا لنا. ولا سيما في لغاتنا أو قل في لهجاتنا العامية فكسبت منه العربية كسبا جزيلا. ولذا نرى من الواجب المحتم أن تلقن في المدارس إحدى هاتين اللغتين، في الفرع الخاص بالعربية، أي أن تكون من مواد درسها. (وإن لا يقبل) في أي أكاذمية من المجمع العلمي العربي، سوى من أتقن إحداهما. أو كليهما - ركن التأثير في العربية ومقلع رخامها - (إذا كان عضوا في الأكاذمية العربية)، فضلا عن تذرعه ببعض لغات أوروبية كي ينقل عن آدابها ما يوافق العربية ويعوزها.
الناطق بالضاد من يتعلم إحدى اللغات السامية، ويتعلم العربية أيضا ومن حيث أن لغتنا هي لغة سامية، إذ قد تكون ابنة لإحدى لغاتها. فإن من يتعلم الأم يتعلم ما تسلل فيها منها ويستفيد منها. أنظر إلى اللاتينية فأنها أم الفرنسية، فمن