الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر في مصر
كنا قد ذكرنا في ص 627 وما يليها أنبغ شعراء مصر وما امتاز به على نظرائه بحسن الديباجة وطلاوة العبارة ومختلف التصاوير الفكرية الآخذة بالقلوب وكيف فاق من تقدمه في اختراع المواضيع المختلفة من غير أن يطرق بحثا أو بابا من أبواب الأوائل. تلك الأبواب التي أكل عليها الدهر وشرب وتحطمت ولم يبق من يفكر في وجودها فضلا عن الاحتذاء بها. فلما وقف على مقالنا ذاك بعض الأدباء انقسموا شطرين: شطر وافقنا في رأينا وهم الأدباء الخالون من كل غرض، وفريق سلقنا بلسانه الحاد ناسباً إلينا التزلف من أمام الشعراء المجددين العصريين (الأستاذ الكبير صاحب السعادة الدكتور أحمد زكي بك أبو شادي) ولما كان كثيرون قد ألحوا علينا أن نذكر لهم ما قاله المقتطف والهلال في هذا النابغة الفذ تنقل إليهم ما قالته فيه شيخة المجلات العربية.
الشفق الباكي
(عن المقتطف 346: 74)
يحار من يلقي نظره على هذا الديوان الحافل في تعليل ما يبدو في كل صفحة من صفحاته من آثار القريحة الفياضة والعقل الجامع لشوارد العلم والتاريخ والنفس الغنية الحساسة بطيوف الألوان والأصوات والشعور، فيقف من هذه الآثار موقف الدهشة أولا حتى يكاد يغري بالقول إن صاحبا يفكر شعرا ويتكلم شعرا (فإذا تصفحها وتفهم مغازيها تحولت دهشته إعجابا. فبين تراه يصف (حديقة النحل) ويجيد وصفها إذا هو ينتقل إلى عالم المكرسكوب والأحياء الدقيقة فيصف ما في معمل البكتريولوجي من الغرائب التي تفتن لب الشاعر كما يفتنه الربيع أو كما تسحره الأنغام.
وعندنا أن هذه القصيدة هي فريدة الديوان ولو لم يكن الدكتور أبو شادي قد تربى تربية علمية وحذق البكتريولوجية وقرن إلى ذلك نظرا شعريا وشاعرية فياضة لما أتيح لنا أن نقرأ هذه القصيدة. ومن أقواله فيها ردا على فقيه يعترض عليه بأن علم الجراثيم لا يتفق مع الشعر والفن (فدعني إذن والعلم فالفن طيه) وعندنا أن هذه نظرة صحيحة إلى علاقة الشعر بالعلم فإن العلماء كشفوا لنا عن عجائب وغرائب إذا اتخذ منها الشاعر مصدراً
للوحي أتانا بالمعجزات. العلم لا يناقض الشعر بل هو معوان له لأنه يوسع الخيال ويزيد ثروته ويجعل الشعر أوثق اتصالا بالحياة العصرية التي تقوم على ركنين من العلم النظري والعلم العلمي:
ومن كان هذا طبعه وشعوره
…
فلا حسه يخبو ولا عينه تكرى
تحرر من قيد الجسوم وروحه
…
ترى الشعر فيما أنت تحسبه قفرا
ويا ربما هذي الجراثيم قد حكت
…
بروعتها الروض المجمل لا العفرا
ولولا حجى الفنان ما كان فارق
…
وساوى رهيف السمع من يشتكي الوقرا
وما رجعت إلا المظاهر وحدها
…
ولم ندر من خافي بدائعها أمرا!)
وقد ختم الشاعر قصيدته هذه ببيتين في نهايتهما تشبيه مبتكر. قال يصف عقل الذي كان يناقشه في موضوع المكروبات والشعر وهو يعرض عن كل حجة وبرهان:
ومن نكد الدنيا أناس تصدروا
…
لفلسفة في النقد تركبهم وعرا
نواظرهم شبه الزجاج ومثلها
…
عقول لهم إن نوقشت محقت كسرا
أما قصيدته (حديقة النحل) فلا يستطيع نظمها إلا من كان مثله قد عني بدرس حياة النحل نظرا وعملا وعرف ما في تلك المملكة من أسرار الجمال والنظام. وإليك بعض أبياتها وهي طويلة:
لا تصغرن إذا حكمت صغيرها
…
فلربما ملكت مال كبار
خلقت من الإتقان في تكوينها
…
وتسلطت بجهادها الجبار
هي كلها للجمع تدأب لا تني
…
لا سخرة للسيد الأمار
قل للمصغر قدرها لغروره
…
من أنت في الأقدار والأوطار
البأس والجبروت من أعوانها
…
ولو أن للشورى سني منار
ومنها وصف ملك النحل:
يحرسنها في هالة فكأنها
…
في عزها قمر من الأقمار
وهي الأسيرة لو بحثت محققا
…
ولربما شعرت بطوق أسار
وقف عليهن الغذاء وأنه
…
من روحهن لها بغير حذار
فتكافئ المجموع من إذعانها
…
وتبيض مسرفة بلا استعبار
ولا يستطيع الصحافي أن يفي هذا الديوان حقه من البحث والتحليل في نظرة عجلى كالتي تقدمت ولكننا نظنها كافية لأن نبين للقارئ أن وراءه شاعرا (يرى الشعر في القفر) ولذلك فهو جدير بالعناية والدرس) انتهى كلام المقتطف.
ودونك الآن ما قاله الهلال في 625: 37:
يعرف القراء الدكتور زكي أبو شادي بمقطوعاته الشعرية الجميلة التي تظهر بين حين وآخر في المجلات والصحف. . .
ونحن ننقل هذه المقطوعة الصغيرة من (الشفق الباكي) وقد وضع لها عنوانا (العطف الإلهي):
وأحس أني في اندماج دائم
…
بالكون والكون العظيم حياتي
أتأمل الساعات في أجرامه
…
وكأنني متأمل مرآتي
وأنال عطفا من جميل حنانه
…
يسري إلى روحي بغير فوات
حس خفي لست أدرك كنهه
…
وكأنما هو معجز الآيات
بلغ الضمير وكان خير مؤذن
…
بالله في ملكوته لحياتي
فهذه المعاني السامية لو ألبست ثوباً من اللفظ أروع وآنق لكان الأثر في نفس القارئ أبعد وأعمق. ولكن الشاعر لا يبارى في المعاني المبتكرة والنزعات الشريف. والإنسان يقرأه فيشعر كأنه بحضرة شاعر من شعراء أوربا مهموم بمصالح الناس والمثل العليا فهو يكتب عن فتاة الريف بعطف وفهم، وكذلك يصف الموسيقى بروح الرجل الذي يلتذها ويحبها وينظر للدنيا نظرة ابن الدنيا لا ابن الوطن الجغرافي. وللناس نظرة الإنسان لا نظرة الشرقي أو الغربي ويسمى الفلاح المصري (أميرنا الصعلوك).