الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجار إلى باب الأفضل وشكوا ما حلّ بهم فأمر بعمارة حراريق «1» لجهّزها، ومنع الناس أن يحجّوا فى سنة أربع عشرة، وقطع الميرة عن الحجاز، فغلت الأسعار. وكان الأفضل قد كتب إلى الأشراف بمكة يلومهم على فعل صاحبهم، فكتب الشريف إلى الأفضل يعتذر، والتزم بردّ المال إلى أربابه، ومن قتل من التّجار فماله لورثته. وأعاد الأموال فى سنة خمس عشرة «2» .
ذكر مقتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش ابن أمير الجيوش بدر الجمالى وشىء من أخباره
كان مقتله فى يوم الأحد سلخ شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقد ركب من دار الملك بمصر فقتل عند كرسى الجسر «3» ،؟؟؟ تلة الباطنية. قيل بمواطأة من الآمر لأنه كان قد ضاق منه لتحكّمه عليه ومنعه من شهواته، فقصد اغتياله إذا دخل عليه للسلام، فمنعه أبو الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم، ابن عمه، وقال: إنّ هذا الأمر فيه من قبح الأحدوثة وسوء الشّناعة ما لا تحمد عاقبته، لأنّ هذا الرجل ما عرف له ولا لأبيه إلّا المودّة فى خدمة هذا البيت والذّب عنه، وإن قتلناه غيلة لا غنية أن
نولّى منصبه لغيره، فيكون المتولّى بعده على وجل واحتراس. وإنّما الرأى أن ندبّر عليه. فدبّر عليه حتى قتل. هذا أحد الأقوال فى قتله.
قال: ولما وثب الباطنية عليه ضرب ثمانى ضربات، فمات لوقته، وحمل على أيدى مقدّمى ركابه، والقائد الميمون محمد وأخوته لا يمكّنون أحدا من الدنوّ منه، وهم [83] يبشرون النّاس بسلامته، حتى وضعوه على سريره وغطّى. ونفّذ المأمون أخاه حيدرة إلى الآمر يقول له: أدركنى وتسلّم ملكك لئلا أغلب عليه أنا وأنت؛ وأوصاه أن يهنّئ من وجده بسلامة الأفضل. ففعل حيدرة ذلك، وهنّأ حرم الأفضل وغيرهم. فعزم أولاده على إثارة فتنة وأنهم يطلبون الأمر لأخيهم تاج المعالى؛ فأمر الآمر بحمل أولاد الأفضل إلى الإعتقال بخزانة البنود، فحملوا إليها، وبات الأمر بدار الملك.
قال: وكان الأفضل حسن الاعتقاد فى مذهب السنّة، جميل السيّرة، مؤثرا للعدل، صائب الرأى والتّدبير، حسن الهمّة، كريم النّفس، صادق الحديث.
ونال النّاس بعد قتل الأفضل من الظّلم والجور والعسف ما لا يعبّر عنه.
فجاء النّاس إلى باب الآمر واستغاثوا، ولعنوا الأفضل وسبّوه أقبح سبّ؛ فخرج إليهم الخدم وقالوا: مولانا يسلّم عليكم ويقول لكم: ما السّبب فى سبّ الأفضل وقد كان قد أحسن إليكم وعدل فيكم؟ فقالوا: إنّه عدل وتصدّق وحسنت آثاره، ففارقنا بلادنا حبّا لأيّامه، وأقمنا فى بلده، فحصل بعده هذا الجور؛ فهو السّبب فى خروجنا عن أوطاننا واستقرارنا ببلده.
قال المؤرخ: لما قتل الأفضل أحضر الآمر وزيره الشيخ أبا الحسن على الحلبى والقائد أبا عبد الله محمدا وسألهما عن الأموال، فقال القائد: أمّا السّر فأعلمه وأمّا الظاهر فالوزير يعلمه؛ وأخبراه بذخائره وأمواله. وأقام الآمر فى دور الأفضل، وهى دار الملك بمصر ودار الوزارة بالقاهرة، وغيرهما، أربعين يوما، والكتّاب بين يديه يكتبون ما ينقلونه إلى القصور؛ فوجد له من الذّخائر النفيسة ما لا يحصى «1» .
وذكر أن الذى وجد له من الأموال ستّة آلاف ألف دينار عينا؛ وفى بيت الخاصّة ثلاثة آلاف ألف دينار، وفى البيت البرّانى ثلاثة آلاف [ألف]«2» ومائتان وخمسون دينارا، وخمسون أردبا دراهم [ورق]«3» وثلاثون راحلة من الذّهب العراقى المغزول برسم الرّقم؛ وعشرة بيوت فى كلّ بيت منها عشرة مسامير من الذهب «4» ، زنة كلّ مسمار مائتا مثقال، عليها العمائم المختلفة الألوان مغطاة بالمناديل المزركشة، وتسعمائة ثوب من الدّيباج الملوّن، وخمسمائة صندوق من دقّ دمياط وتنيس برسم كسوة جسده، ولعبة من العنبر على قدر جسده برسم ثيابه توضع ثيابه عليها لتكتسب رائحتها. وترك من الطّيب والآلات والنّحاس ما لا يحصى.
وترك من الأبقار والجواميس والأغنام ما بلغ ضمان ألبانها ونتاجها أربعين ألف دينار فى السنة. وكانت الدّواة التى يكتب منها مرصّعة بالجواهر، فقوّم ما عليها من الجواهر باثنى عشر ألف دينار. وخلّف من الكتب
خمسمائة ألف مجلد «1» وحكى القاضى زكىّ الدين أبو زكريّا يحيى بن على الدّمشقى فى تاريخه عما خلّفه الأفضل فقال: خلّف. جملة لم يسمع أنّ أحدا من الملوك والخلفاء فى هذا الزّمان جمع مثله ولا ادّخر مثل بعضه: وأن الآمر بأحكام الله شرع فى حمل ما فى دوره إلى القصر، فحمل على عدّة كثيرة من الجمال والبغال، ونقل فى شهرين وأيّام.
قال: وحكى الدينبلى التاجر الآمدى أن متولّى الخزانة بالقصور ذكر له جملا ممّا حمل من موجوده فى الدّار، منها ستّة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، ومن الورق ما قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار، ومن أطباق الذهب والفضة سبعمائة طبق «2» ، ومن الآلات مثل أتوار واصطال وصحاف وشربات وأباريق وزبادى وقدور وقطع من الفضة والذهب مختلفة الأجناس ما لا يحصى كثيرة؛ وبرانى «3» صينى كبار؛ وعيبات مملوءة جواهر، ومن أصناف الدّيباج والعتابى وغيره تسعون ألف ثوب، وثلاث خزائن مملوءة صناديق كلّها من الدّبيقى والشرب استعمال تنيس ودمياط، وخزانة الطّيب مملوءة أسفاطا، وعود، وبرانى مسك ونوافج، وبرانى زجاج مملوءة من
الكافور القنصورى، غير مصاعد، ومن العنبر ما لا يحصى كثرة «1» .
وكان له مجلس يجلس فيه للشراب فيه صور ثمانى جوارى متقابلات، أربع منهنّ بيض من كافور، وأربع سود من عنبر، قيام فى المجلس، عليهن أفخر الثياب وأثمن الحلى وأحسن الجواهر، فكان إذا دخل باب المجلس نكّسن رءوسهنّ خدمة له، فإذا جلس فى صدر المجلس استوين قائمات.
ووجد له من المقاطع والسّتور، والدّيباج والدّبيقى الحريرى، والذهب، والفرش، والمخادّ والمساند على اختلاف أجناسها، كلّ حجرة مملوءة من ذلك، وعدّة صناديق مملوءة حقاق ذهب عراقىّ برسم الاستعمال. ووجد له ثمانمائة جارية [84] منهن حظانا خمس وستون، لكلّ جارية حجرة وخزانة مملوءة من الكساوى والآلات الدّيباج والذّهب والفضة. ومن كل صنف. «2»
قال الخازن: هذا ما حضرنى حفظه ممّا فى داره. وأما ما كان فى مخازنه وتحت يد عمّاله وجباته وضمّان النّواحى فما لا يحصى كثرة، من الأموال والغلال والحبوب والقطن والكتان والشمع والحديد والأخشاب وغير ذلك.
وكلّ نوع منه ما يجاوز الحدّ والإحصاء، ولا يمكن تحرير حسابه إلّا فى المدة الطويلة «3» .
وأمّا العدد والخيول والسلاح والبقر والغنم والخيام، فقال الخازن لم تتحرّر
لكثرتها. وقال حمل من داره أربعة آلاف بساط، وستّون حمل «1» طنافس، وخمسمائة قطعة بلور كبار وصغار، وخمسمائة قطعة محكم، وألف عدل من متاع اليمن والإسكندرية والغرب، وسبعة آلاف مركب «2» من أصنافها.
وأمّا ما عمّره من المساجد فمنها: جامع الفيلة «3» ، وقيل إنّه لم يكمله.
وحكى الشريف محمّد بن أسعد الجوانى فى كتابه المترجم بالنقط فى ذكر الخطط أن جامع الفيلة بناه الأفضل فى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وأنّ الأفضل مات ولم يكمّله فكمّله المأمون فى وزارته، وولّى خطابته الشّريف أمين الدّولة أبا جعفر، محمد بن محمد بن هبة الله الحسينى الطرابلسى النّسابة، وأمر أن يحضر جميع وجوه الدّولة والرؤساء فى أوّل جمعة، فحضروا. فلمّا رقى الشّريف المنبر قال:«الحمد لله» ، وأرتج عليه ودهش، فلم يزل يكرّرها إلى أن أضجر النّاس، ونزل وقد همّ، ومضى إلى داره، فاعتلّ ومات فى سنة سبع عشرة وخمسمائة. ومنها المسجد الّذى على جبل المقطّم. وبنى فى جامع عمرو بن العاص المئذنة الكبيرة والمئذنة السعيدية «4» والمئذنة المستجدة [به أيضا]«5» وجامع الجيزة. وغير ذلك.
وهو الّذى أنشأ التّاج والخمسة وجوه.
قال ناظم سيرة المأمون: وعمل الأفضل خيمة سماها خيمة الفرج، ثم سمّيت بالقاتول لأنها كانت إذا نصبت يموت تحتها من الفرّاشين رجل أو رجلان «1» . اشتملت على ألف ألف ذراع [وأربعمائة ألف ذراع]«2» وكان ارتفاعها خمسين ذراعا بذراع العمل «3» ، أنفق عليها عشرة آلاف ألف دينار.
ومدحه جماعة من الشعراء وذكروا هذه الخيمة، منهم أبو جعفر محمد بن هبة الله الطرابلسى بقصيدته التى يقول فيها:
ضربت خيمة عزّ فى مقرّ علا
…
أوفت على عذبات الطّود ذى القنن «4»
جاءت مدى الطّرف، حتى خلت ذروتها
…
تأوى من «5» الفلك الأعلى إلى سكن
أقطارها ملئت من منظر عجب
…
يهدى «6» إليك ذكاء الصّانع الفطن
فمن رياض سقاها القطر صيّبه
…
فما بها ظمأ يوما إلى المزن
وجامح فى عنان لا يجاذبه
…
وطائر غير صدّاح على فنن
وأرقم لا يمجّ السّم ريقته
…
وضيغم ليس بالعادى ولا الوهن
ومائلين صفوفا فى جوانبها
…
لو يستطيعون خرّ الجمع للذّقن
زينث بأروع، لا تحصى فضائله
…
ماض من المجد والعلياء فى سنن
وأطلع الدّست فيها شمس مملكة
…
يرى «1» التّأمّل فضل العين والأذن
وعد على السّعد أنّ النّصر يضربها
…
بالصّين، بعد فتوح الهند واليمن
وقال أبو على حسن بن زيد الأنصارى، الكاتب بديوان المكاتبات، يصفها ويمدح الأفضل:
مهلا، فقد قصرت عن شأوك الأمم
…
وأبدت العجز منها هذه الهمم
أخيمة ما نصبت اليوم، أم فلك؛
…
ويقظة ما نراه منك، أم حلم؟
ما كان يخطر فى الأفكار قبلك أن
…
تسمو علوّا على أفق النّهى الخيم
حتى أتيت بها شمّاء شاهقة
…
فى مارن الدّهر من تيه بها شمم
إنّ الدّليل على تكوينها فلكا
…
أن احتوتك، وأنت النّاس كلّهم
ومنها:
[85]
لديك جيش، وجيش فى جوانبها
…
مصوّر، وكلا الجيشين مزدحم
إذا الصّبا حرّكتها ماج موكبها
…
فمقدم منهم فيها ومنهزم
أخيلها خيلك الّلاتى تغير بها
…
فليس تنزع «2» عنها الحزم والّلجم
علّمت أبطالها أن يقدموا أبدا
…
فكلّهم لغبار الحرب مقتحم
أمّنتهم أن يخافوا سطوة لردى
…
فقد تسالمت الأسياف والقمم «3»
كأنّها جنّة، والقاطنون بها
…
لا يستطيل على أعمارهم هرم
علت، فخلنا لها سرّا تحدّثه
…
للفرقدين وفى سمعيهما صمم
إن أنبتت أرضها زهرا، فلا عجب
…
وقد همت فوقها من كفّك الدّيم
قال المؤرخ: وكان للأفضل شعر حسن، فمن قوله فى غلامه المعالى:
أقضيب يميس، أم هو قدّ
…
أم شقيق يلوح، أم هو خدّ
أنا مثل الهلال سقما عليه «1»
…
وهو كالبدر حين وافاه سعد «2»
وكانت ولاية لأفضل سبعا وعشرين سنة وخمسة أشهر.