الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضلالة، وهذا وحده على الحقّ والهدى. وكرّروا عليه ما وعدوه به من التّقدمة عليهم؛ فأصغى إليهم ووعدهم أن يتلطّف فى إخراجه. فجعل يتكلم فى ذلك ويحتجّ على أهل بيته، ويخوّفهم العواقب؛ فاتصل كلام بنان بالشيعىّ فانتقل عنهم.
ذكر انتقال أبى عبد الله الشّيعى عن بنى سكتان إلى بنى عصمة بتازرارت
«1»
قال: واتّصل هذا الخبر بالحسن بن هارون العصمى «2» ، وكان قد دخل فى هذا الأمر، وهو معروف بالأدب وكثرة النّعمة، وهو مطاع فى قومه. فأتى الشّيعى ورغب إليه فى الانتقال إلى مكانه، ووعده بالذّبّ عنه، والمدافعة بنفسه وأهله وماله؛ وذكر ذلك لأصحابه فأشاروا عليه به. وعظم ذلك على بنى سكتان وكرهوه، وقالوا له: نحن ندافع عنك بأنفسنا حتى نقتل كلّنا دونك. فشكر قولهم. وانتقل إلى الحسن بن هارون إلى تازرارت فتلقاه من بها من أصحابه وغيرهم. وقام «3» العصميون «4» بما احتاج إليه الشيعىّ وأصحابه، وقاسموه أموالهم. وأقبل أصحاب الشيعى من كلّ ناحية، وكلّ
منهم يأتى بما يملكه، ويبذله بين يديه. فاجتمع أمره، وامتنع جانبه، واجتمعت عصمان على نصرته، وخلق كثير من قبائل كتامة، وندم بنان بن صقلان على ما كان منه فى حقه، وعظم شأن الحسن بن هارون بفعله.
وكان للحسن أخ هو أسنّ منه، اسمه محمود، فوجد فى نفسه من ذلك، وكان قبل ذلك مقدما على أخيه لسنّه، وكان أيضا مطاعا فى أهل بيته، فنكل بذلك، وفشا «1» عنه هذا والحسن يداريه ويستعطفه، خوفا من أن يفترق جماعة عصمان.
فلمّا صار أمر الشيعىّ. بتازرارت إلى ما صار إليه وانتهى ذلك إلى القوم الّذين كانوا تعاقدوا عليه أولا، فسقط فى أيديهم، وعظم أمره عليهم، فرجوا أن يصلوا من محمود بن هارون إلى ما يريدونه من أمر الشّيعى.
فاجتمعوا إلى مهدى بن أبى كتامة اللهيمى «2» . فذكروا له ما بلغهم عن محمود، وقالوا له: هذا جارك وصديقك، فلعلّك أن تستميله فتفرّق به جماعة عصمان، فيمكننا ما تريد.
فركب مهدى إلى محمود، وذكر له اجتماع وجوه كتامة وأنهم أرسلوه إليه وقالوا إنّه قد أجحف أخوك بنفسه وأهل بيته وجاء إلى عصمان ببليّة قد تعافى منها بنو سكتان، وتخلّصوا من شرّها [28] . وجعل يخوفه من سوء العواقب، ووعده عنهم «3» بالتّقدمة على أنفسهم. فاستماله بذلك مع ما
داخله «1» من الحسد لأخيه والغيرة منه.
فقال: القول فى ذلك ما قلت، ولكنّه قد تمكّن وقوى وكثرت أتباعه، وليس هو الآن كما كان فى بنى سكتان، وقد أجابته عصمان وكثير من عامّة كتامة، فهم يقاتلون دونه؛ فمتى دعوت من يطيعنى من عصمان إلى أخذه صرنا فريقين، وأهلك بعضنا بعضا. وما أرى فى أمره إلّا ما رأى لى بنان «2» : أن يأتى بالعلماء إليه فيناظروه، فإن قامت حجّتهم عليه وجدنا السّبيل إليه، وإن كانت الأخرى دبّرنا رأيا آخر إن شاء الله تعالى.
وانصرف مهدى إلى القوم فأخبرهم. فقالوا: من الذى يناظره من علمائنا وأنت ترى الواحد من جهّالنا إذا دخل فى أمره ناظرهم فقطعهم، فكيف به فقال: قد رأيت من محمود شهوة فى قتله ومال إلى ما وعدناه به من التّقدمة، مع ما داخله من الحسد لأخيه؛ ولم أجد عنده غير ما فارقته عليه.
وما علينا أن نأتى بالعلماء فإذا هم أخرجوه وقعنا «3» عليه أسيافنا فقتلناه، ويكون بعد ما عساه أن يكون. فأرسلوا فى طلب العلماء من كلّ ناحية، وقالوا لا نأتيه فى احتفال كما فعلنا ببنى سكتان.
واتصل الخبر بالحسن بن هارون، وبالشّيعىّ، فقال لهم ليجتمع جماعة عصمان إلى محمود فيلاطفوه ويذكروا له ما اتصل بهم، ويحذّروه العار، والنّقص، وسوء العواقب، ويقدّموه على أنفسهم، ويعظّموه، ويرفعوا من شأنه. ففعلوا ذلك؛ ووافاه أخوه الحسن وجماعة عصمان، وقالوا: نحن
أهل بيتك وعشيرتك وأنت أميرنا ومقدّمنا، وهذا الرّجل ضيفك وضيفنا، وقد رأيت ما لحق ببنى سكتان من النّقص فى إخراجه، وأنّهم ندموا عليه، وأن بنانا حاول ردّه إليه ليصلح ما أفسده على نفسه فلم يجبه إلى ذلك. فلا تجعل علينا عارا ولا نقصا. وحلفوا له وقدّموه على أنفسهم فمال إليهم.
فلما علم محمود ان أولئك القوم قربوا من تازرارت ركب فى جماعة وأركب الشّيعىّ أصحابه معه وقال لهم: إن قدرتم أن تلحموا الحرب «1» فافعلوا. فلمّا التقوا قالوا لمحمود: هؤلاء العلماء قد جئنا بهم؛ وعزلوهم ناحية: فقال لهم محمود: انصرفوا ودعوهم عندنا حتى نجمع بينهم وبين الرّجل، مع عشرة رجال من وجوهكم وخياركم، فى مجلس، فننظر ما يكون بينهم. فانحلّ ما عقدوه. فقالوا: وما عليكم أن تخرجوه إلى هاهنا ونشهد ما يكون منه ومن العلماء، فيكون ذلك أشهر وأقطع للأمر:
فقال لهم محمود: قد بلغنا عنكم أنّكم عقدتم أمرا وطمعتم أن تنزعوا ضيفنا من أيدينا بالتّغلّب.
فردّوا عليهم. فحمل عليهم هو وأصحابه، والتحم القتال، وقاتل محمود قتالا شديدا فجرح، ثم افترقوا، فمات محمود من جراحه، فسرّ أخوه والشّيعىّ بموته، وأظهروا الطّلب بدمه. واجتمعت عصمان ألّبا واحدا وصحّت الرئاسة للحسن بن هارون وولّاه الشّيعى أعنّة الخيل، وقوّده وعوّده على جميع أصحابه.
واشتعلت الحرب بين عصمان ولهيصة بسبب قتل محمود. واجتمع أمراء بلزمه وأكثر القبائل للشّيعىّ وأظهر نفسه، وكان يشهد الحرب ويباشرها.
وطالت الحرب بينهم، ثمّ اصطلحت لهيصة وعصمان بعد أن قتل مهدى، وانضمّوا كلهم إلى الشّيعى، واشتدّ أمره، وحاربوا من بينهم من القبائل، وشنّوا الغارات على من بعد منهم. وبعث الشيعىّ خيلا مغيرة إلى مزاتة ورئيس مزاتة «1» يومئذ يوسف القنطاسى، وكان قدم على إبراهيم بن أحمد فوصله وحيّاه، وكساه، وأعطاه جارية؛ فكبسته خيل الشّيعى، وأخذوا جميع ما كان له، وسبوا الجارية، وقتلوا من قدروا عليه من أصحابه، واختفى هو فنجا، ووصلوا إلى الشّيعىّ بالغنيمة فاصطفى الجارية لنفسه وهى أمّ ولده.
فلما رأت القبائل ظهور الشّيعى واجتماع لهيصة له، وقتل مهدى، مشى بعضهم إلى بعض، وأرسلوا إلى مزاته، فاجتمع رأيهم على أن يدخلوا إليه بعيالاتهم ويحيطوا به من كلّ جانب، فتسلمه عصمان ولهيصة ومن معهم ويستأصلوهم. فانتهى الأمر إلى الشّيعى، فجمع أصحابه كلّهم بتازرارت، وجاءت كتامة من أطرافها وأحاطوا به. فخندق على نفسه، وأشار عليه وجوه أصحابه أن يعتزل الحرب وهم يقاتلون. فشكرهم على ذلك، وأبى أن يقبله. ووعدهم النّصر، وحثّهم على القنال؛ فأخرج كلّ واحد ما عنده من مال وسلاح وكراع، وتشاوروا فيه، وكمّلوا عدّتهم وعدّتهم، فبلغوا سبعمائة فارس، لا يزيدون ولا ينقصون، وألفى راجل. والتقوا بعد مراسلة لم تجد شيئا واقتتلوا قتالا شديدا. ودام القتال بينهم ثلاثة أيّام، ودام فى اليوم الثّالث إلى العصر، وكان الظّفر لأصحاب الشيعى. وانهزم أولئك، وتبعوهم وقد امتلأت أيدى أصحابه من الغنائم والأموال؛ وتفرّق ذلك الجمع. قال: فبيع الجمال كلّ عشرة بدينار [29] والحمار بعشر
بصلات، وغنموا من الخيل ما لا يحصى. «1»
وانصرف الشيعىّ إلى تازرارت وابتنى بها قصرا يسكنه، واتخذها دار مقامه؛ وأقطع أصحابه دورا حول قصره. وارتحل إليه أصحابه من كلّ ناحية، وابتنوا وسكنوا، وقوى أمرهم. واستأمن إليه كثير من القبائل؛ وشنّ الغارات، وداوم الحرب، فأقبل النّاس إليه من كل جهة.
ولحق فتح بن يحيى بإفريقية «2» فقدم على أبى العبّاس [بن]«3» إبراهيم ابن أحمد، وهو يومئذ بتونس بعد خروج أبيه إبراهيم إلى صقلّية، فوصله وأدناه، وأكرمه، وسأله عن الشّيعىّ، فضعّف أمره، فقال: أليس قد اجتمعتم عليه فى عساكر عظيمة فلم تقدروا عليه؛ فقال: ليس أمرنا من أمرك فى شىء، إنّما نحن مقاتلة بغير رأس، ونقاتل من يعرفنا من أهل بلدنا، ولو جاءه عسكر من قبلك لكانت هيبته فى صدور النّاس. فأطمعه أبو العباس، ثم أمسك عنه.
قال: واستولى الشيعى على جميع بلد كتامة، وظهرت دعاته فى كلّ ناحية منها، وغلب عليها؛ وكانت وقائع كثيرة ببلد كتامة.
وأقام بعد انهزام الجمع نحو سنتين وهو يشنّ الغارات، ويغنم الأموال، حتّى أجابوه، وسلّموا الأمر إليه. ولم يبق إلّا المدينة الحصينة ومن فيها من