الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القدورى «1» ، وغيرهم «2» ، وذلك فى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة «3» بأمر القادر بالله «4» العباسىّ.
هذا مع ما ينسب إلى بنى بويه من التشيّع. فلن
ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم
.
ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم
قال أبو محمد عبد العزيز بن شدّاد بن الأمير تميم بن المعزّ بن باديس فى كتابه المترجم بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان: أوّل من قام منهم أبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، وكان ممّن صحب أبا الخطّاب محمّد بن أبى زينب «5» مولى بنى أسد، فألقوا إلى كلّ من اختصّوا به أنّ لكل شىء من العبادات باطنا، وأنّ الله تعالى ما أوجب على أوليائه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجّا؛ ولا حرّم عليهم شيئا من المحرمات؛ وأباح لهم نكاح البنات والأخوات. وإنما هذه العبادات عذاب على الأمّة وأهل الظّاهر، وهى ساقطة عن الخاصّة. يقولون ذلك لمن يثقون به ويسكنون
إليه. ويقولون فى آدم وجميع الأنبياء: كذّابون محتالون طلاب للرّئاسة.
فاشتدّت شوكة هؤلاء فى الدّولة العبّاسيّة، وتفرقوا فى البلاد شرقا وغربا، يظهرون التقشّف، والزّهد، والتصوّف، وكثرة الصّلاة والصّيام، يعرّفون الناس بذلك وهم على خلافه، ويذكرون أبا الخطاب إلى أن قامت البيّنة بالكوفة أنّ أبا الخطاب أسقط العبادات وأحلّ المحارم، فأخذه عيسى «1» بن موسى الهاشمى، مع سبعين من أصحابه، فضرب أعناقهم، فتفرّق بقيّة أصحابه فى البلاد، فصار قوم ممّن كان على مذهبه إلى نواحى خراسان، وقوم إلى الهند، وصار أبو شاكر ميمون بن سعيد إلى بيت المقدس مع جماعة من أصحابه، وأخذوا فى تعلم الشعبذة «2» والنارنجيات «3» والحيل ومعرفة الرّزق من صنعة النّجوم والكيمياء، ويحتالون على كلّ قوم بما يتّفق عندهم، وعلى العامّة بإظهار الزّهد والورع، ونشأ لأبى شاكر ابن يقال له عبد الله القدّاح، علّمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النّحلة، فتحذّق وتقدّم، وكانوا يظهرون التشيع والبكاء على أهل البيت ويزيدون أكاذيب خترعوها يخدعون بها ضعفاء العقول.
وكان من كبار الشعوبيّة «4» رجل يسمى محمد بن الحسين بن جهار نجار
الملقب دندان «1» وهو بنواحى الكرج «2» وأصفهان له حال واسعة وضياع عظيمة، وهو المتولّى على تلك المواضع، وكان يبغض العرب ويذمّهم، ويجمع معايبهم، وكان كلّ من طمع فى نواله تقرّب إليه بذمّ العرب، فسمع به عبد الله بن ميمون القدّاح وما ينتحله من بغض العرب وصنعة النّجوم، فسار إليه، وكان عبد الله يتعاطى الطّب وعلاج العين، ويقدح الماء النّازل فيها، ويظهر أنه إنما يفعل ذلك حبسة وتقربا إلى الله عز وجل، فطار له هذا الاسم بنواحى أصفهان والجبل، فأحضره دندان وفاتحه الحديث، فوجده كما يحبّ ويهوى، وأظهر له عبد الله من مساوئ العرب والطعن عليهم أكتر مما عنده، فاشتدّ إعجابه به، وقال له. مثلك لا ينبغى أن يطبّ، وإنّ قدرك يرتفع ويجلّ عن ذلك، فقال: إنّما جعلت هذا ذريعة لما وراءه ممّا ألقيه إلى الناس وإلى من أسكن إليه على رفق ومهل، من الطّعن على الإسلام، وأنا أشير عليك ألّا تظهر ما فى نفسك إلى العرب، ومن يتعصّب لهذا الدّين، فإنّ هذا الدّين قد غلب على الأديان كلّها فما يطيقه ملوك الرّوم، ولا الترك، والفرس، والهند، مع بأسهم ونجدتهم، وقد علمت شدّة بابك صاحب الخرّمية «3» وكسرة عساكره، وأنّه لما أظهر ما فى نفسه من بغض الإسلام وترك التستّر بالتشيّع «4» [23] كما يقول أوّلا قلع أصله،
فالله الله أن تظهر ما فى نفسك، والزم التشيّع والبكاء على أهل البيت، فإنّك تجد من يساعدك على ذلك من المسلمين، ويقول: هذا هو الإسلام [وسبّ أبا بكر وعمر]«1» وادّع عليهما عداوة الرّسول وتغيير القرآن وتبديل الأحكام، فإنك إذا سببتهما سببت صاحبهما «2» ؛ فإذا استوى لك الطّعن عليهما فقد اشتفيت من محمّد، ثم تعمل الحيلة بعد ذلك فى استئصال دينه.
ومن ساعدك على هذا فقد خرج من الإسلام من حيث لا يشعر، ويتم لك [الأمر]«3» كما تريد، فقال دندان «4» : هذا هو الرأى.
ثم قال له عبد الله القدّاح: إن لى أصحابا وأتباعا أبثّهم فى البلاد فيظهرون التقشّف والتصوّف والتشيع، ويدعون إلى ما تريده بعد إحكام الأمر. فاستصوب دندان ذلك وسرّ به، وبذل لعبد الله القدّاح ألفى ألف دينار. فقبل المال وفرّقه فى كور الأهواز والبصرة وسواد الكوفة، وبطالقان، وخراسان «5» ، وسلمية من أرض حمص.
ثم مات دندان فخرج عبد الله القدّاح إلى البصرة وسواد الكوفة، وبثّ الدعاة، وتقوى بالمال، ودبّر الأمر.
وحكى الشّريف أبو الحسين محمّد بن على الحسين المعروف بأخى محسن «1» فى كتابه أن عبد الله بن ميمون هذا كان قد نزل عسكر مكرم «2» فسكن بساباط أبى نوح، وكان يتستّر بالتشيّع والعلم، فلمّا ظهر عنه ما كان يضمره ويسرّه من التّعطيل والإباحة، والمكر والخديعة، ثار النّاس عليه، فأول من جاءه «3» الشيعة، ثم المعتزلة وسائر الناس، وكبسوا داره، فهرب إلى البصرة ومعه رجل من أصحابه يعرف بالحسين الأهوازى، فنزل بباهلة على موال لآل عقيل بن أبى طالب، وقال لهم: أنا من ولد عقيل، وداع «4» إلى محمّد بن إسماعيل بن جعفر «5» . فلمّا أقام وانتشر خبره طلبه العسكريّون فهرب وأخد طريق الشام ومعه الحسين الأهوازى، فلما توسطا الشام عدلا إلى سلمية «6» ليخفى أمرهما فأقام بها عبد الله وخفى أمره.
نرجع إلى قول ابن شداد. قال: ثم مات عبد الله، وكان له جماعة من الولد فخلفه منهم ابنه «7» أحمد، فقام مقام أبيه، وجرى على قاعدته،
وبثّ الدّعاة، واستدعى رجلا من أهل الكوفة يقال له أبو الحسين رستم بن الكرخيين بن حوشب بن زادان النجار؛ وكان هذا الرجل من الإماميّة الذين يقولون بإمامة موسى»
بن جعفر، فنقله إلى القول بإمامة إسماعيل «2» بن جعفر. وكانوا يرصدون من يرد من المشاهد وينظرون إليهم، فمن كان فيه مطمع وجهالة استدعوه، ولا يستدعون إلا الجهّال ومن له بأس وجلد، وعشيرة ومال، وعزّ ومنعة، ويتجنّبون الفقهاء والعلماء، والأدباء والعقلاء.
وكانوا يطلبون أطراف البلاد، فقال لهم بعض من ورد عليهم: إن بجيشان «3» والمدحرة والجند «4» من أرض اليمن رجلا جلدا كثير المال والعشيرة، يتشيّع، وبهذه الناحية شاعر يقال له ابن خيران يسبّ فى شعره أبا بكر وعمر، المهاجرين والأنصار، على مثل سبيل الحميرى الشاعر، فورد ذلك الرّجل المذكور، وهو أبو الخير محمد بن الفضل من أهل جيشان من اليمن، ودخل إلى الحيرة، فرأوه يبكى على الحسين بن على، فلما فرغ من زيارته أخذ الدّاعى يده وقال له: إنّى رأيت ما كان منك من البكاء والقلق
على صاحب هذا القبر، فلو أدركته ما كنت تصنع قال: كنت أجاهد بين يديه، وأجعل خدّى أرضا يطأ عليها، وأبذل مالى ودمى دونه. فقال له:
أتظنّ أن ما بقى لله حجّة بعد صاحب هذا القبر؟ قال: بلى، ولكن لا أعرفه بعينه، قال: فتريده؟ قال: إى والله. فسكت عنه الدّاعى. فقال له محمد ابن الفضل: ما قلت لى هذا القول إلا وأنت عارف به. فسكت الداعى، فقوى ظنّ ابن الفضل أن هذا الرجل يعرف الإمام والحجّة، فألحّ عليه وقال له: الله الله فى أمرى، اجمع بينى وبينه، فإنى خرجت إلى الحجّ وجئت إلى هذه الزيارة أريد الله تعالى، فسكت الدّاعى، وازدادت رغبة ابن الفضل، فصار يتضرع إليه، ويسأله، ويقبّل يده. فقال له الدّاعى:
اصبر، ولا تعجل، وأقم، فهذا الأمر لا يتمّ بسرعة، ولا بدّ له من صبر ومهلة. فقال ابن الفضل لأصحابه ومن كان معه من جيشان: انصرفوا فلى بالكوفة شغل، فانصرفوا، وأقام هو واجتمع بالدّاعى، فقال له:
ما عملت فى حاجتى؟ فقال انتظرنى حتى أعود إليك، فانصرف عنه ومضى إلى أحمد بن القدّاح وعرّفه حال ابن الفضل وحرصه على لقاء الحجّة وإمام الزمان، وبقى الدّاعى يرقبه ويراه لا يكاد يبرح من المسجد من غير أن يعلم ابن الفضل به، فلمّا كان بعد أربعين يوما أتاه إلى المسجد وهو جالس، فقال له: أنت بعدها هنا؟ فقال: نعم؛ ولولا تحنّنى لأقمت فى هذا المسجد إلى أن أموت. فعلم الدّاعى أنه قد قصده، فأخذه وجمع بينه وبين أحمد بن عبد الله ابن ميمون [24] .
وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن على الحسينى فى كتابه الّذى صرّح فيه منفى هؤلاء عن النّسب إلى الحسين بن علىّ، رضى الله عنهما، واستدلّ
على ذلك بأدلة يطول شرحها- أنّ أحمد بن عبد الله بن ميمون لمّا قام بالأمر بعد أبيه عبد الله بعث الحسين الأهوازى «1» من سلمية داعية إلى العراق، فلمّا انتهى إلى سواد الكوفة لقى حمدان بن الأشعث، وهو قرمط الذى ينسب إليه القرامطة، فصحبه، وأتبعه قرمط، وتابعه كثير من النّاس. فلما مات الأهوازى أسند الأمر من بعده إلى حمدان بن الأشعث، قرمط، وقد ذكرنا هذه القصّة فى أخبار القرامطة.
نرجع إلى قول ابن شداد. قال: وكان أحمد يقول للحسن ابن حوشب الكوفى النّجار: يا أبا القاسم هل لك فى غربة فى الله؟ فيقول: الأمر إليك يا مولاى، فلمّا اجتمع بابن الفضل قال له: قد جاء ما كنت تريد يا أبا القاسم، هذا رجل من أهل اليمن، وهو عظيم الشأن، كثير المال، ومن الشيعة، قد أمكنك ما تريد، وثمّ خلق من الشيعة، فاخرج وعرّفهم أنك رسول المهدىّ، وأنه فى هذا الزّمان يظهر فى اليمن. واجمع المال والرّجال، والزم الصوم والصّلاة والتقشف، واعمل بالظاهر ولا تظهر الباطن، وقل لكلّ شىء باطن، وإن ورد عليك شىء لا تعلمه فقل لهذا من يعلمه، وليس هذا وقت ذكره. وجمع بينه وبين ابن الفضل، وخرجا جميعا إلى أرض اليمن.
ونزل ابن حوشب بعدن، وكان فيها قوم من الشيعة يعرفون ببنى موسى، وخبرهم عند ابن ميمون، فنزل ابن حوشب بالقرب منهم، وأخذ فى بيع ما معه من القماش، ولزم الزّهد والتقشف. فقصده بنو موسى وقالوا له: فيم جئت؟ قال: للتجارة. قالوا: لست بتاجر، وإنّما أنت رسول المهدىّ،
وقد بلغنا خبرك. وعرّفوه بأنفسهم، فأظهر أمره عليهم، وسار إلى عدن لاعة «1» . وسار ابن الفضل إلى بلده. ولما وصل ابن حوشب إلى عدن لاعة قوّى عزائمهم وقرّب أمر المهدىّ عليهم، وأنه من عندهم يخرج، وأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح ولم يزل أمر ابن حوشب يقوى وأخباره ترد على من بالكوفة من الإمامية وطبقات الشيعة، فيبادرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: دار الهجرة، فكبر عددهم واشتدّ بأسهم، وأغار على من جاوره ونهب وسبى، وجبى الأموال، وأنفذ إلى من بالكوفة من ولد عبد الله القدّاح أموالا عظيمة، وهدايا وطرفا، وكذلك لابن الفضل.
وكانوا نفذوا إلى المغرب رجلين، أحدهما يعرف بالحلوانى والآخر بأبى سفيان «2» ، وتقدّموا إليهما بالوصول إلى أقاصى المغرب، والبعد عن المدن والمنابر، وقالوا لهما ينزل كلّ واحد منكما بعيدا من الآخر، وقولا: لكلّ شىء باطن، ونحن فقد قيل لنا اذهبا فالمغرب أرض بور فاحرثاها واكرباها حتى يأتى صاحب البذر، فنزل أحدهما بأرض كتامة «3» بمدينة مرمجنه «4» والآخر سوق «5» حمار، فمالت قلوب أهل تلك النّواحى إليهما، وصارا يحملان
التّحف التى تحمل إليهما إلى ابن القدّاح، ثم ماتا على قرب بينهما بعد أن أقاما سنين كثيرة.
فقال ابن حوشب لأبى عبد الله الحسين بن أحمد بن زكريا الشيعى، وكان قد هاجر إليه، يا أبا عبد الله أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلوانى وأبو سفيان وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادر إليها فإنها موطأة ممهدة لك، فخرج أبو عبد الله وأخرج ابن حوشب معه عبد الله بن أبى ملاحف، وأمدّه بمال، وأوصاه بما يعمل وكيف يحتال. وكان أبو «1» عبد الله قد شاهد أفعال ابن حوشب وعرف تدبيره، فسار إلى مكة، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما أحمد بن عبد الله بن ميمون فإنه لما قوى أمره، وكثرت أمواله، ادّعى أنه من ولد عقيل ابن أبى طالب، وهم مع هذا يسترون أمرهم، ويخفون أشخاصهم، ويغيّرون أسماءهم وأسماء دعاتهم، ويتنقلون فى الأماكن. ثم مات أحمد وصار الحسين إلى سلمية وله بها أموال من ودائع جدّه عبد الله القدّاح، ووكلاء، وأتباع، وغلمان. وبقى ببغداد من أولاد القدّاح أبو الشلغلغ «2» ، وهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان، وهو مؤدب بآداب الملوك.
وكان الذى بسلمية يدّعى أنه الوصىّ وصاحب الأمر دون بنى القدّاح،
ويكاتب الدّعاة، ويراسلونه من اليمن، والمغرب، والكوفة. واتفق أنه جرى بحضرته بسلمية حديث النّساء فوصفوا امرأة رجل يهودى حداد مات عنها زوجها، وأنها فى غاية الجمال، فقال لبعض وكلائه: زوّجنى بها، فقال إنها فقيرة ولها ولد، فقال: ما علينا من الفقر، زوّجنى بها فأرغبها وأبذل لها ما شاءت. فتزوّجها وأحبّها، وحسن موقعها عنده، وكان ابنها يماثلها فى الجمال، فأحبّه وأدبه، [25] وعلّمه، وأقام له الخدم والأصحاب فتعلّم الغلام، وصارت له نفس كبيرة وهمّة عظيمة.
فمن العلماء من أهل هذه الدّعوة من يقول: إن الإمام الذى كان بسلمية من ولد القدّاح مات ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودى الحدّاد، وهو عبيد الله الذى نعت بالمهدىّ، وأنه عرّفه أسرار الدّعوة من قول وفعل، وأعطاه الأموال، وتقدّم إلى أصحابه ووكلائه بطاعته، وخدمته ومعونته، وعرّفهم أنه الإمام والوصىّ، وزوجه ابنة عمّه أبى الشلغلغ.
هذا قول ابن القاسم الأبيض العلوى وغيره من العلماء بهذه الدعوة.
وبعض الناس، وهم قليل، يقولون إن عبيد الله هذا، المنعوت بالمهدىّ، من ولد القدّاح.
ومنهم من يقول فيه قولا آخر، نذكر إن شاء الله عز وجل.
فهذا ما حكى فى ابتداء أمرهم، فلنذكر أخبار الشيعىّ ببلاد المغرب، والله أعلم.
ذكر أخبار أبى عبد الله الشّيعى «1» داعى المغرب وما كان من أمره وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغرب
قال أبو إسحاق إبراهيم «2» بن القاسم الكاتب المعروف بابن الرّقيق، فى تاريخ إفريقية، وغير ابن الرّقيق ممّن ذكر أخبار هذه الدّولة «3» : كان أبو عبد الله الشيعى من أهل الكوفة، وقيل من أهل صنعاء، واسمه الحسين ابن أحمد بن محمّد بن زكريّا، فاتصل بالذى يدّعى أنه الإمام، وهو ابن القداح الّذى ذكرناه المختلف فى نسبه، فأرسله إلى أبى القاسم الحسن بن حوشب «4» الكوفى النجار، وهو المعروف بالصّناديقى، داعيتهم باليمن وكتب إليه أن ينصره ويرشده، وقال لأبى عبد الله: امتثل سيرته، وانظر «5» إلى
مخارج أفعاله فاعمل بها، ثم اذهب إلى المغرب. فخرج حتى انتهى إلى أبى القاسم، فأنزله وأكرمه، وأقام عنده من وقت انصراف الحاجّ من مكة إلى اليمن إلى وقت خروجهم فى العام المقبل. فخرج أبو عبد الله مع الحاجّ إلى مكة.
فلما قضى الناس حجّهم واستقرّوا بمنى جعل الشّيعى يمشى بمنى وينظر إلى الناس، فمرّ بجماعة من كتامة وهم فى رحالهم، وكانوا من الشّيعة الّذين تشيّعوا بسبب الحلوانى وفيهم حريث الجيملى وموسى بن وجاد «1» فسمعهما الشيعىّ يذكران لأصحابهما فضائل على بن أبى طالب، رضى الله عنه.
فجلس إليهما وذكر من ذلك شيئا، وأقبل على القوم وحدّثهم طويلا، ثم نهض ليقوم فقاموا معه، ومشوا بمشيه، وعرفوا مكانه. ثم أتوا من الغد فأوسع لهم فى الحديث، فزادهم ذلك فيه رغبة، وعليه إقبالا. ثم صحبهم فى طول الطريق بعد انصرافهم من الحج إلى أن وصلوا إلى مصر، وهم يبالغون فى خدمته، ويرحلون برحيله، وينزلون بنزوله، وهو يسألهم عن بلادهم فى خلال ذلك، وعن طاعتهم لملوكهم، فيقولون ما علينا طاعة لهم، وهو لا يعرّض لهم بقصده ولا رغبته فى بلادهم. فلما أتوا مصر أظهر أنه يريد الإقامة بها، فتألّموا لفراقه، وقالوا ما الذى تقصد بمقامك مصر؟
قال: التعليم. فسألوه أن يصحبهم إلى بلادهم وأنهم يوجبون له على أنفسهم أجرة فى كلّ سنة، وما أوجب. ولم يجبهم إجابة كلّية؛ ورغبتهم كلّ يوم تزيد فيه، فأجابهم إلى الخروج معهم، ففرحوا بذلك واستبشروا، وجعلوا يزيدون فى برّه، ويقولون له: عندنا كثير من إخوانك ومن يذهب إلى
مذهبك، ولو رأوك ما رضوك إلّا إلى شيوخهم، فضلا عن صبيانهم؛ ولسنا نخلّيك للتعليم بل نعدّك لما هو أعظم منه.
فلما عزم على المسير معهم جمعوا له دنانير وأتوه بها، فامتنع من قبولها، وقال لم يكن منى ما يوجب ذلك؛ فعظم فى أنفسهم، وزادت هيبته فى صدورهم. وخرجوا به من مصر، وساروا حتى إذا كان بسوجمار «1» من أرض سماتة، تلقاهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبر الشّيعى، ونظروا إلى تعظيم الكتاميين له؛ فرغب كلّ واحد منهم أن يكون نزوله عنده، حتى رموا عليه السهام، فخرج سهم أبى عبد الله الأندلسىّ فنزل عنده، ونزل كل واحد على صاحبه. وأصاب أبو عبد الله عندهم من علم الشيعة أصلا قويّا، فزاد فى الكلام معهم، فأجلّوه.
ثم سار القوم فدخلوا حد كتامة يوم الخميس النّصف من شهر ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين، ومعهم أبو عبد الله الأندلسى وأبو القاسم الورفجومى، فأراد كلّ واحد من الكتاميين نزول الشيعىّ عنده، وتنازعوا فى ذلك حتى خيّروه فى النزول، فقال أىّ موضع عندكم [26] فجّ الأخيار؟ فقالوا:
عند بنى سكتان فقال: فإيّاه نقصد، ثم نأتى كلّ قوم منكم فى موضعهم، ونزورهم فى بيوتهم، ولا نجعل لأحد منكم حظّا من نفسى دون أحد إن شاء الله تعالى، فأرضاهم كلّهم بذلك، وسار كلّ قوم إلى جهتهم، وسار الشّيعى مع موسى بن حريث وأبى القاسم الورفجومى وأبى عبد الله الأندلسى إلى
إيكجان «1» موضع موسى من بنى سكتان. قال ولما نزل عبد الله بإيكجان ومضى كل معه من الحجيج إلى مرافقهم أخبروا من قدموا عليه من أصحابهم بخبر، ووصفوه لهم مع النّاس، فتسامع النّاس به، وأقبلوا إليه من كل ناحية؛ فكان يجلس لهم ويحدثهم [بظاهر]«2» فضائل على رضى الله عنه.
قال: فاتصل خبر الشيعى بابراهيم «3» بن أحمد صاحب إفريقية، فكتب إلى موسى بن عيّاش «4» يسأل عن خبره فضعّف موسى أمره فكتب إليه ثانيا وأرسل ابن المعتصم المنجم؛ وأمر إبراهيم بن أحمد موسى بن عيّاش أن يتلطّف فى اتصاله إلى أبى عبد الله، وأن يختبر أحواله، ويأتيه بصحيح خبره، وأوصاه بوصايا أمره أن يذكرها له.
فلمّا وصل إلى موسى أرسل إلى بنى سكتان يخبرهم أن إبراهيم قد بعث برجل إلى أبى عبد الله ليجتمع به. فرفع ذلك إلى أبى عبد الله، فأذن له.
فلمّا انتهى إليه قرّبه وأقبل عليه، فقال له ابن المعتصم: إن الأمير إبراهيم ابن أحمد وجّهنى إليك برسالة، فإن أذنت لى أدّيتها. فقال له: أدّ رسالتك قال: وأنا آمن؟ قال: نعم. فقال: يقول لك الأمير: ما حملك على التعرّض لسخطى، والوثوب فى ملكى، وإفساد رعيّتى، والخروج علىّ؛ فإن كنت تبتغى عرضا من أعراض الدنيا فإنك تجده عندى، وإن أنت
تلافيت أمرك، ورجعت عن غيّك، فصر إلىّ وأنت آمن؛ فإن أردت المقام ببلدنا أقمت، وإن أحببت الانصراف انصرفت. وإن كان قصدك قصد من سوّلت له نفسه الخلاف على الأئمة، واستفساد جهلة الأمة، فلقد عرفت عواقب من تمنّيه نفسه أمنيتك، وسوّلت له ما سوّلت لك، من الهلاك العاجل، قبل سوء المصير فى الآجل. ولا يغرّنّك ما رأيت من إقبال هؤلاء الأوباش عليك، واتّباعهم إياك، فإنى لو صرفت وجهى إليك لأسلموك، وتبرّءوا منك. واعلم أنى إنّما أردت الإعذار إليك، لاستظهار الحجّة عليك. وهذا أوّل كلامى «1» وآخره، لا أقبل لك بعد هذا توبة، ولا أقيلك عثرة، ولا أجعل جواب ما يمكن منك إلا النّهوض إليك بنفسى، وجميع أبطال رجالى، وأنصار دولتى، وجملة أهل «2» مملكتى فعند [ذلك]«3» تندم حين لا ينفعك النّدم، ولا تقبل منك التّوبة. فانظر فى يومك لغدك، وقد أعذر إليك من «4» أنذر.
فقال له أبو عبد الله الشيعى: قد قلت فاسمع، وبلّغت فابلغ: ما أنا ممّن يروّع بالإيعاد، ولا ممّن يهوله الإبراق والإرعاد. فأما تخويفك إياىّ برجال مملكتك، وأنصار دولتك، أبناء حطام الدّنيا، الّذين يقتادون لكل سائق، ويجيبون كلّ داع وناعق، فإنى فى أنصار الدّين، وحماة المؤمنين، الذين لا تروعهم كثرة أنصار الباطل «5» ، مع قول الله تعالى، وهو أصدق
القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
«1» فأمّا ما أطمع به من دنياه وعرضه من زبدها وحطامها، فلست من أهل الطّمع فأميل إليه، ولا ممن يرغب فيما عنده فيأتيه. وإنما بعثت «2» رسولا لأمر قد حمّ وقرب، فإن سوّلت له نفسه ما وعد به، ودعته «3» إليه، فسوف يعلم أنّ الله عز وجل من ورائه ولن تغنى عنه فئة شيئا ولو كثرت وأنّ الله مع المؤمنين «4» فهذا جواب ما جئت به، فبلّغه إن شاء الله.
قال «5» : ولما اشتهر أمر الشّيعى ببلد كتامة، ونظر رؤساء القبائل وولاة البلدان فلم يروا فى إبراهيم بن أحمد نهضة فى أمر، وخافوا على زوال الرئاسة من أيديهم، وتقديم من يسارع إلى أمره عليهم، ممّن كانوا يرونه دونهم، كتب بعضهم إلى بعض فى ذلك، فاجتمعوا وتعاقدوا. وكان ممن سعى فى ذلك موسى بن عياش صاحب ميلة «6» ، وعلى بن عسلوجة صاحب سطيف «7» وحى بن تميم صاحب بلزمة «8» وكلّ هؤلاء أمراء هذه المدن، وعندهم العدّة والعدّة والأموال الكثيرة والنّجدة، والقوّة، ومن مقدّمى
كتامة وكبارهم وولاة أمورهم: فتح بن يحيى المشالى «1» ، وكان يقال له الأمير، ومهدى بن كناره «2» ، رئيس لهيصة، وقرح بن خيران «3» رئيس أجّاته، وثميل بن فحل «4» رئيس لطاية، واستعملوا آراءهم فى أخذ الشّيعى فعلموا، أنهم لا يقدرون عليه عنوة من أيدى بنى سكتان لأنّهم يمنعونه، ويجتمع عليهم جيملة وغيرها من قبائل كتامة، فتفرّق ذات البين، ويكون ذلك داعية إلى أن يجعلوا له أنصارا، وتصير كتامة فريقين، ولم يأمنوا سوء العواقب، فقصدوا بنان «5» بن صقلان، وهو من وجوه بنى سكتان، ولم يكن له يومئذ دخل فى أمر الشيعىّ، وأرسلوا جماعة منهم إليه، وبعثوا له أربعة أفراس وأغنما وهديّه. وقالوا له: إن هذا الرجل قد بدّل الدّين، وفرّق الجماعة، وشتّت الكلمة، وأدخل الاختلاف بين الأقارب [27] وقد قصدناك فى أمره، وأملكناك فى قطع هذا المكروه بأن تقبض على الشيعىّ وتخرجه من بلدنا، وتنفيه عنّا إن كرهت قتله، ونجعل لك بعد ذلك التّقدمة على جميع كتامة والعرب، فيكون لك شرف الدنيا وفخرها، وثواب الآخرة وأجرها، وتزيل عن أهل بيتك مكروها، وتقطع عنهم شرا. وأخذوا معه فى ذلك وحذّروه عواقب السلطنة.
فقال لهم بنان: هذا رجل صار بين أظهرنا، وهو ضيف عندنا، كيف ينبغى أن نفعل فيه مثل هذا الفعل. فتنازعوا فى ذلك طويلا، وكان آخر خطاب بنان لهم أن قال: الرأى أن نجمع العلماء إليه فيناظرهم، فإن كان
على حقّ فما أولانا وإيّاكم بنصرته واتّباعه، وإن كان على باطل عرّفنا من اتّبعه أن يرجعوا عنه.
فانصرفوا إلى أصحابهم وأخبروهم بما كان من بنان، فخافوا أن تقوم حجّته، ويستحكم أمره، فتزول رئاستهم بسببه. فأجمعوا على أن يمضوا فى جماعة ويظهروا أنهم أثوا بالعلماء، فإذا خرج إليهم قتلوه، وانصرفوا على حميّة.
فاجتمعوا فى عدد عظيم من الخيل والرّجل؛ فلمّا رآهم بنو سكتان ركبوا خيولهم؛ والتقى الجمعان. فقالوا لبنان إنما أتيناك لما كان بيننا وبينك.
فقال: إنّما كان بيننا أن تأتوا بالعلماء، وقد أتيتم بالزّحف والعدّة، وعلا الكلام بينهم، فالتحم القتال، وتداعت جيملة من كلّ مكان؛ فانهزم القوم، وانصرف عنهم بنو سكتان. وكان الشيعىّ قد سيّر فى مبادئ هذا الأمر، وخاف عليه أصحابه.
ثم راسل الجماعة بنانا مرّة ثانية، وقالوا. قد كنّا أخطأنا فيما أتينا به من الجمع، ولم يكن ذلك عن قصد، ولكن تسامع النّاس بنا فتبعونا. وقد رجوناك لإصلاح جماعتنا، وقدّمناك، واخترناك لأنفسنا، لتحقن دماءنا، وتجمع ما تبدّد من شملنا، فقد عادى من أجل هذا الرّجل الأخ أخاه، والابن أباه، والقريب قريبه؛ وهذه فتنة قد بدت، وردّة قد ظهرت.
وهذا الرجل من أهل المشرق، وهم كما علمت شياطين. وعلماؤنا بربر، وقوم ليست لهم تلك الأذهان؛ فإنهم [إن] «1» ناظروه يظهر عليهم ولم يجدوا حجّة. يحتجون بها عليه. وقالوا له: أترى نحن وآباؤنا والنّاس كلّهم فى