الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما مات عقدت البيعة بعده لأخيه أبى الحسن علىّ فى يوم الأحد لثمان خلون من ذى القعدة، فجرى الأستاذ كافور معه على قاعدته مع أخيه، وزاد على ذلك بأن حجبه ومنعه من الظّهور إلى النّاس إلّا معه.
ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن توفّى لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين «1» وثلاثمائة، وكان مدة ملكه خمس سنين وشهرين وأيّاما، وقيل: إنّ وفاته كانت فى هذا التاريخ من سنة أربع وخمسين، وكان مولده لأربع بقين من صفر سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، وخلّف ولدا واحدا وهو أبو الفوارس أحمد.
ذكر ولاية أبى المسك كافور الخصىّ الإخشيدى واستقلاله بملك مصر دون شريك ولا منازع
كانت ولايته بعد وفاة أبى الحسن على، ابن سيده، لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. وقيل فى هذا التاريخ من سنة أربع وخمسين.
قال الفرغانى المؤرخ: لمّا توفى علىّ بن الإخشيد استدعانى كافور وقال لى: ما ترى أن أصنع؟ فقلت له: أيها الأستاذ إنّ للمرحوم عندك صنائع وآثارا تقتضى أن ينظر لعقبه؛ والرأى عندى أن تنصب أحمد بن الأمير علىّ مكان «2» أبيه، وتدبر أنت الدولة كما كنت. فاعتذر بصغره، فقلت: قد
عقد لأبيه ولم يبلغ سنّه، وأجاز ذلك ثلاثة أئمّة: المتّقى والمستكفى «1» والمطيع «2» . فقال ننظر فى ذلك. وانصرفت. فبلغنى أنّه قال بعدى:
أبو محمد لا يشكّ فى ولائه «3» لكنه يميل إلى الفرغانيّة، ثم لم يقبل ما أشار به الفرغانى، بل وثب على الأمر وأنزل اسم مواليه عن المنابر، وأقام كذلك إلى أن توفّى فى يوم الثلاثاء لعشرين بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.
وكان سبب وفاته أنه سمّ فى لوزينج «4» قدمته له إحدى جواريه وقد أتى من الميدان وهو جائع، فأكله ومات، وقتلت الجارية بعده، وكانت قد وضعت لذلك. ومات وله من العمر خمس وستون سنة على التّقدير، فإنه جلب فى سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة وعمره أربع عشرة سنة، وبيع بأثنى عشر دينارا «5» .
قال المؤرخ: وكان لكافور معروف فى كل سنة للحاج أكثر ما «6» ينفذ معهم مالا وكسوة وطعاما، ويبعث معهم صندوقين من كسوة بدنه تفرّق على الأشراف. وكان له من الغلمان الأتراك ألف وسبعون غلاما يغلق عليهم باب داره، وتمام الألفى غلام روم، سوى المولّدين والسّودان، يكون عدّة
غلمانه أربعة آلاف غلام. وكان راتبه فى مطبخه فى كل يوم ألف وسبعمائة رطل لحما سوى الدّجاج والفراريج والخراف المشويّة والحلوى وغير ذلك.
وخطب له بالحرمين الشريفين، ونفذ حكمه فى الشّام والحجاز وطرسوس.
وكانت له خزانة شراب يفرّق منها فى كل يوم خمسون قرابة «1» من سائر الأشربة فى الحاشية. ولما مات كافور خلّف فى خزائنه عينا وجوهرا وثيابا وسلاحا بمبلغ ألف ألف دينار.
وحكى عنه أنه كان فى ابتداء أمره قبل اتصاله بالإخشيد لحقه جرب حتّى كان لا يقابل فطرده سيّده، وكان يمشى فى سوق بنى جاسة، وفيه طبّاخ يبيع الطبيخ، فطلب كافور منه أن يطعمه، فضربه بالمغرفة على يده، وهى حارّة، فسقط مغشيّا عليه؛ فأخذه رجل من المصريّين وداواه حتى وجد العافية فأتى إلى سيّده فقال له سيّده: خذ أجرة ما فعلت. فأبى؛ وقال:
أجرى على الله. وكان كافور كلما عزّت نفسه يذكّرها بضرب الطّباخ بالمغرفة، وربما يركب ويأتى ذلك الخطّ وينزل ويسجد شكرا لله عز وجل.
وحكى أيضا أنه اجتاز يوما بالنحّاسين وهو فى موكبه فوقف على حانوت هرّاس «2» ، وكان إلى جانبه الوزير ابن الفرات فبكى كافور بكاءا شديدا وكان يقول فى بكائه: فاز الجمال فاز الجمّال، وساق وهو على تلك الحال، فلمّا استقرّ بمكانه وسكن، سأله الوزير عن سبب بكائه، فقال: لمّا طلعت من المركب من بحر الحجاز، وكان يومئذ سيدى الذى جلبنى إبراهيم البلوقى،
فركب الجمل وقصدنا قوص ونزلنا فى بعض الأيام وجلست مع الجمّال ورجل آخر كان معنا قد وصل من الحجّ، فقال الرجل: أشتهى على الله قدر هريسة قدّامى. فقلت: أنا أشتهى على الله ملك مصر، فقال الجمّال اشتهيت على الله الجنّة. وغاب عنى هذا الحديث. فاتّفق أنّ سيّدى إبراهيم باعنى لمحمد بن هاشم، ثمّ باعنى لأبى أحمد بن عيّاش، فوهبنى لجارية له، ثمّ وهب [20] أبو أحمد الجارية بعد مدّة الإخشيد، فطلبنى تكين الخاصّة من الإخشيد فأهدانى إليه، فلم أزل إلى أن ملكت مصر. وصاحب الحانوت الذى وقفت عنده هو الذى اشتهى القدر الهريسة؛ فعرفت أنّ ذلك الوقت وهب الله لكلّ منّا ما اشتهى، ففاز الجمّال بالجنة.
وحكى أبو جعفر المنطقى قال: دعانى كافور يوما وقال لى: أتعرف منجّمّا، كان يجلس عند دار فلان؟ فقلت: نعم. قال: ما صنع؟ قلت: مات منذ سنين كثيرة. فقال: مررت عليه يوما فدعانى وقال: أنظر لك؟ قلت:
افعل. فنظر، ثمّ قال: ستملك هذه المدينة وتأمر فيها وتنهى. وكان معى درهمين فدفعتهما إليه، وقلت: ما معى غيرهما. وقال: وأزيدك؛ ستملك هذه المدينة وغيرها وتبلغ مبلغا عظيما، فاذكرنى. فانصرفت. فلمّا نمت البارحة رأيته فى منامى وهو يقول لى: ما على هذا فارقتنى وأريد أن تمضى وتسأل عن حاله، وهل له ورثة؟ فسألت عنه فقيل: له ابنتان إحداهما بكر والأخرى متزوّجة، وأعلمته؛ فاشترى لهما دارا بأربعمائة دينار، ودفع للبكر مائتى دينار تتجهز بها.
وقال الحسن بن زولاق المصرى المؤرخ: كان الشريف عبد الله بن أحمد
الحسينى، وهو ابن طباطبا، يرسل إلى كافور فى كل يوم جامين «1» حلوى «2» ورغيفا فى منديل مختوم، فخوطب كافور فى الرّغيف وقيل له الحلوى حسن فما تصنع بالرغيف؟ فأرسل إليه وقال: يجرينى الشريف فى الحلوى على العادة. ويعفينى من الرغيف، فركب الشّريف إليه وقال: أيّدك الله، أنا ما أنفذ الرغيف تطاولا ولا تعاظما وإنّما هى صبيّة حسنيّة تعجنه بيدها وتخبزه، فأرسله «3» على سبيل التبرّك؛ فإذا كرهته قطعناه. فقال: لا والله، ولا يكون قوتى سواه.
وقيل أنه ركب يوما فى موكبه والشّريف أبو جعفر «4» نقيب الطالبين يسايره، فوقعت مقرعته، فنزل الشريف فناوله إياها؛ فتذممّ كافور من ذلك وتأوّه وبلغ منه مبلغا عظيما. فلمّا نزل إلى داره أرسل إلى الشّريف جميع ما كان يملكه فى موكبه من مماليك ودوابّ وآلة واعتذر منه. قال التنوخى فى نشوار المحاضرة: وكان قيمة ما سيّره إليه خمسة عشر ألف دينار «5» .
وفى سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة قدم عليه أبو الطيب المتنبى «6» فأكرمه وخلع عليه، وأنزله بدار، وحمل إليه ألوفا من المال، فقال أبو الطيب
قصيدته التى أولها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
…
وحسب «1» المنايا أن تكون أمانيا
تمنّيتها لما تمنّيت أن أرى
…
صديقا، فأعيا أو عدوّا مداجيا
وجاء منها فى مدح كافور:
فجاءت «2» به إنسان عين زمانه
…
وخلّت بياضا خلفها ومآقيا
فحسن موقعه عند كافور، ثمّ هرب منه وهجاه بما هو مسطور فى ديوانه «3» .
ولما مات كافور قام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد بن على بن الإخشيد محمد بن طغج بن جفّ، كانت ولايته بعد الأستاذ كافور لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وذلك أن القواد والغلمان الإخشيديّة اجتمعوا وتحالفوا ألّا يختلفوا، وعقدوا الرئاسة له،
وهو ابن إحدى عشرة سنة، وجعلوا الخليفة عنه الحسن «1» بن عبد الله ابن طغج، وهو ابن عم أبيه؛ وردّوا تدبير العساكر والرجال إلى شمول «2» الإخشيدى، وتدبير الأموال إلى جعفر بن حنزابة «3» الوزير؛ وذلك كلّه قبل دفن كافور.؟
وأقام الأمر على ذلك ثلاثة أشهر وثمانية عشر يوما، واشترك معه ابن عمّ أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج، وكان يخطب لهما جميعا بمصر والشّام والحرمين، يبدأ فى الخطبة بأبى الفوارس ويثنّى بأبى محمد الحسن.
ثم سار الحسن إلى الشام لقتال القرامطة، وصادر الوزير جماعة من المصريين، وقبض على يعقوب بن كلّس وصادره على أربعة آلاف وخمسمائة دينار؛ وقبض على إبراهيم بن مروان النّصرانى، كاتب أنوجور وعلى ابنى الإخشيد وصادره على عشرة آلاف دينار. ولم يقدر الوزير على رضا الإخشيديّة والكافورية لتباين أغراضهم؛ فاضطرب التدبير على الوزير، واستتر مرّتين، ونهبت داره ودور أصحابه، فكتب جماعة من وجوه البلد إلى المعز «4» بإفريقية يستدعون منه إنفاذ العساكر.
وكان بمصر فى هذه السّنة غلاء شديد وفناء عظيم، فإن النيل انتهت زيادته فى سنة ست وخمسين وثلاثمائة إلى اثنى عشر ذراعا وتسعة عشر
أصبعا، ولم يوف فى السنة التى قبلها، فاشتد الغلاء، وكثر الوباء.
نقل بعض المؤرخين أنه أحصى من كفّن ودفن خارجا، عدا من رمى فى البحر، ستمائة ألف إنسان.
وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة قدم الحسن بن عبيد الله من الشّام [21] منهزما من القرامطة، ودخل مصر، وقبض على جعفر بن الفرات الوزير، واستوزر الحسن بن جابر الرياحى، ثم أطلق الوزير بن الفرات، بوساطة أبى جعفر مسلم الحسينى الشريف، وفوّض إليه الوزارة، ثم سار الحسن بن عبيد الله إلى الشّام فى مستهل شهر ربيع الآخر؛ وخرج جماعة من الأولياء والكتاب والأشراف إلى الشام، وخرج يعقوب «1» بن كلّس إلى الغرب مستترا، ثمّ صار منه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثمّ تواترت الأخبار فى جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أن المعزّ صاحب إفريقية قد جهّز عساكره مع غلامه جوهر إلى مصر، فجمع الوزير القوّاد ووقع رأيهم على تقديم نحرير سويران فاستدعوه من الأشمونين «2» ، وعقدوا له الرئاسة عليهم.
ووصل الخبر بوصول جوهر إلى برقة، فاجتمع رأى الجماعة على أن بعثوا الشريف أبا جعفر مسلما الحسنى وأبا إسماعيل بن أحمد الزينبى وأبا الطيب
العباس بن أحمد العباسى والقاضى أبا ظاهر، وغيرهم، لتقرير الصلح بينهم وبين جوهر على تسليم البلاد له، فساروا فى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فلقوه على تروجة «1» ، فأكرمهم وأجابهم إلى ما طلبوه ثم بعد انفصالهم اجتمع القواد على إبطال المصالحة وتجهّزوا للحرب، ورجع أولئك النّفر بكتاب الأمان، فلم يقبل القواد ذلك، وخرجوا إلى الجيزة بأجمعهم.
ووصل جوهر وابتدأ القتال يوم الخميس الحادى عشر من شعبان من السّنة، ثمّ سار جوهر بعد ذلك إلى منية شلقان «2» وملك المخايض، فبعث المصريون مزاحم بن أرتق لحفظها فلم يحفظها، وخامر عليهم، وعدى «3» جوهر، وانهزم الإخشيديون، ودخل جوهر مصر بعد العصر من يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان منها، وندب القائد جوهر المعزّىّ بعد ذلك جعفر بن فلاح إلى الشام، والتقى هو والحسن بن عبيد الله على الرملة فى شهر رجب سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، واقتتلا «4» فانهزم الحسن وأسر، وملك جعفر الشّام أجمع.
وانقرضت الدّولة الإخشيدية، وكانت مدتها خمسا وثلاثين سنة، وتسعة أشهر، وأيّاما.