الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى شهر رجب [58] منها اشتدّ غضب الحاكم على أهل مصر فأحرق السّاحل، ووقع النّهب فى الأسواق والقياسر «1» .
وسنذكر إن شاء الله السّبب الذى أوجب خروج الحاكم على أهل مصر إلى أن فعل بهم ما فعل.
ذكر غيبة الحاكم بأمر الله وعدمه والسّبب الذى نقل فى إعدامه، وشىء من أخباره وسيرته غير ما تقدم
قال المؤرخ: لمّا كان فى آخر ليلة الاثنين السّابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ركب الحاكم حماره وخرج على جارى عادته، فأصبح عند قبر الفقاعىّ «2» بقرافة مصر وردّ من كان معه، ففقد من ذلك الوقت. ولم يزل النّاس يخرجون ويلتمسون رجوعه إلى يوم الخميس سلخ الشهر؛ ثم خرج مظفّر حامل المظلّة فى يوم الأحد الثّالث من ذى القعدة ومعه جماعة الأمراء والكتاميين إلى حلوان، وأمعنوا فى الكشف. فبينما هم كذلك إذ بصروا بالحمار الّذى كان الحاكم قد خرج عليه وهو على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بالسيف فأثر فيهما، فتتبّع الأثر فإذا أثر الحاكم وأثر آخر خلفه وآخر أمامه، فقصّوه حتى انتهوا إلى بركة القصب شرقىّ حلوان، فأنزلوا
رجلا من الرّجالة فوجد ثياب الحاكم فى البركة، وهى سبع جباب «1» مزرّرة لم تحلّ أزرارها، وفيها آثار السكاكين، فعادوا إلى القصر ولم يشكّوا فى قتله.
وأما السبب الذى نقل فى إعدامه فقالوا: كان السّبب فى ذلك أنّ ستّ لملك أخت الحاكم وقع بينها وبينه، فتنكّر لها وهمّ بقتلها. وكرهت أمورا صدرت منه منها أنه رأى بعض قهارمتها داخلة إلى القصر، فقال لها: قد سمعت أنّكم تجمعون الجموع وتدخل إليكم الرّجال؛ والله لأقتلنّكم أجمعين. «2» وتكرر هذا القول منه، فأعملت ستّ الملك الحيلة فى إعدامه، وخرجت ليلا إلى دار الأمير سيف الدّين حسين ابن دوّاس «3» ، فدخلت عليه واختلت به وعرّفته بنفسها أنها ابنة العزيز بالله أخت الحاكم؛ فعظّمها، وبالغ فى إكرامها. فقالت له: إنّك قد علمت ما فعل أخى وما صدر منه من سفك الدّماء وقتل الأولياء ووجوه الدّولة بغير سبب، وقد عزم على قتلك وقتلى. فقال لها: فكيف الحيلة فى أمره، فأشارت: أن تجهّز إليه رجالا يقتلونه إذا خرج إلى حلوان فإنه ينفرد بنفسه هناك، ووعدته أن يكون هو المدبّر لدولة ولده والوزير لها. فاتّفقا على ذلك وتحالفا عليه، ورجعت هى إلى قصرها.
فلمّا ركب الحاكم وانفرد عند وصوله إلى المقطّم على عادته، كان ابن دوّاس قد أحضر عشرة من العبيد، وأعطى كلّ واحد منهم خمسمائة دينار، وحلّفهم، وعرّفهم كيف يقتلونه. فسبقوه إلى الجبل فى تلك اللّيلة؛ فلمّا
انفرد خرجوا عليه وقتلوه بالمكان الّذى ذكرناه، وخرج الموكب لتلقّيه على العادة، فطال انتظارهم له فلم يرجع، فعادوا؛ ثمّ خرجوا ثانيا وقصّوا الأثر، فوجدوا حماره وثيابه، كما ذكرناه، فعادوا إلى القصر وطلبوه من أخته ستّ الملك وقالوا: إن مولانا ما جرت عادته بهذا. فقالت لهم: إن رقعته قد وصلت إلينا أنه يأتى بكرة الغد. فتفرّقوا. فبعثت الأموال إلى وجوه الدّولة والقوّاد على يد ابن دوّاس، وبقى الأمر مستمرّا والحال متماسكا إلى عاشر ذى الحجة من السنة، فجرى بين العساكر وبين ستّ الملك كلام كثير أوجب أنها أخرجت إليهم ولده أبا الحسن عليّا فى يوم الأضحى فبايعه الناس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره، هذا ما حكى فى سبب إعدامه.
وأما سيرته وأفعاله وأخباره، فقد قدّمنا منها على حكم السنين ما قدمنا، فلنذكر خلاف ذلك.
قال المؤرخ: كان الحاكم سيئ الاعتقاد، كثير التنقّل من حال إلى حال. كان فى ابتداء أمره يلبس الثّياب الفاخرة والمذهبة، والعمائم المنظومة بالجوهر النّفيس، ويركب فى السّروج المحلّاة، ثم ترك ذلك على تدريج أن ينتقل منه إلى لباس المعلم غير المذهب، ثم لباس الساذج؛ ثم زاد به الأمر حتى لبس الصّوف والشواشى وركب الحمير، وأظهر الزّهد، وكثر استطلاعه على أخبار النّاس، فلم يخف عليه خبر رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيّته وكان يأخذ بيسير الذّنوب، ولا يملك نفسه عند غضبه؛ أفنى خلقا كثيرا، وأقام هيبة عظيمة. وكان مع طعيانه المستمرّ وفتكه، وسفكه للدّماء، وظلمه، يركب وحده تارة وفى الموكب أخرى، وفى المدينة طورا وفى البرّيّة آونة، والنّاس كافّة على غاية الهيبة له والخوف منه، وهو بينهم كالأسد
الضارى «1» ثم عنّ له أن يدّعى الإلهية، ويصرّح بالحلول والتّناسخ، ويحمل النّاس عليه. وألزم النّاس أن يسجدوا له مدة إذا ذكر؛ فلم يذكر فى محفل أو غيره إلّا سجد من سمع بذكره، وقبّل الأرض إجلالا له [59] . ثم لم يرضه ذلك «2» فلمّا كان فى شهر رجب سنة تسع وأربعمائة ظهر رجل يقال له حسن ابن حيدرة الفرغانى الأخرم يرى حلول الإله فى الحاكم ويدعو إلى ذلك، ويتكلّم فى إبطال النّبوّة «3» ، ويتأوّل جميع ما وردت به الشريعة «4» . فاستدعاه الحاكم [وقد كثر تبعه]«5» وخلع عليه خلعا سنيّة، وحمله على فرس بسرجه ولجامه، وركّبه فى موكبه [وذلك]«6» فى ثانى شهر رمضان منها.
فبينما هو يسير فى الموكب فى بعض الأيام تقدّم إليه رجل من الكرخ [وهو على جسر طريق المقس]«7» فألقاه عن فرسه، ووالى الضّرب عليه حتى قتله [وارتج الموكب]«8» ، وأمسك الكرخى فأمر الحاكم بقتله، فقتل لوقته ونهب الناس دار الأخرم فى القاهرة. وكان بين الخلع عليه وقتله ثمانية أيام «9» .
ثم ظهر رجل من دعاته فى سنة عشر وأربعمائة يقال له حمزة اللباد، أعجمى من الزّوزن، ولازم الجلوس فى المسجد الذى عند سقاية ريدان خارج باب
النصر، وأظهر الدعاء إلى عبادة الحاكم وأنّ الإله حلّ فيه. واجتمع إليه جماعة من غلاة الإسماعيليّة، وتلقّب بهادى المستجيبين. وكان الحاكم إذا ركب إلى تلك الجهة خرج إليه من المسجد وانفرد به وحادثه، وتمادى على ذلك وارتفع شأنه؛ واتّخذ لنفسه خواصّ لقّبهم بألقاب، منهم رجل لقّبه بسفير القدرة وجعله رسولا له، وكان يرسله لأخذ البيعة على الرؤساء على اعتقاده فى الحاكم، فلم يمكنهم مخالفته خوفا على نفوسهم من بطشه «1» .
ثم نبغ شابّ من مولّدى الأتراك اسمه أنوشتكين النجارى «2» ، ويعرف بالدّرزى، فسلك طريق الزّوزنى وكثرت أتباعه. وكان الحاكم أيضا يقف معه ويخلو به؛ وسمّى نفسه سند الهادى «3» وحياة المستجيبين. واستمر الأمر على ذلك إلى الثّانى عشر من صفر، سنة إحدى عشرة «4» وأربعمائة، فاجتمع جماعة من أصحاب حمزة الزّوزنى على خيول وبغال، ودخلوا الجامع العتيق ركبانا وهم يعلنون بمذهبهم، وجاء ثلاثة منهم إلى الموضع الذى يجلس فيه قاضى القضاة، والمتحاكمون جلوس، ينتظرونه، فتكلّموا بكلام أنكره الناس وضجّوا بالتكبير والتهليل والثناء على الله عز وجل، واجتمع أهل مصر بالجامع من كلّ جهة، ومضى بعض الناس للقاء القاضى فلقوه وعرّفوه ما جرى، فجاء إلى المجلس، فتقدّم إليه أحد الثّلاثة فناوله رقعة من الزوزنى «5» فى أولها:«بسم الحاكم الله الرّحمن الرّحيم» يأمره فيها بالاعتراف
بإلهيّة الحاكم. فلم يجبه القاضى بشىء سوى أن قال حتى أدخل إلى حضرة مولانا. فطاوله الكلام، فقتله العوامّ وقتلوا رفيقيه والجماعة الّذين بالجامع أبرح قتل. ووثب العوامّ على قوم كانوا يعرفونهم بهذا المعتقد فقتلوا من وجدوه منهم وحرّقوهم «1» .
فلمّا اتّصل ذلك بالحاكم أمر بعزل أصحاب الشّرط وولّى غيرهم، وأمرهم بطلب من اعتدى على أصحاب الزّوزنى، فقبضوا على جماعة منهم يناهزون الأربعين، فقتلوا فى أوقات متعدّدة. واجتمع الأتراك وقصدوا دار الزّوزنى فغلّقها عليه وعلى من عنده، وقاتلهم من أعلاها، فهدموها ونهبوا ما فيها، وقتلوا نحوا من الأربعين رجلا ممّن كان معه فيها. وفرّ الزّوزنى فلم يقدر عليه، ودخل إلى القصر، فأخفاه الحاكم فيه. فاجتمع الأتراك ولبسوا سلاحهم وطلبوه من الحاكم، فوعدهم بتسليمه لهم، فانصرفوا. ثمّ ركبوا فى اليوم الثّانى وطلبوه منه، فخرج جوابه لهم أنّه قتل؛ فرجعوا إلى ريدان فى طلب الزّوزنى فلم يجدوه. وأظهر الحاكم الغضب على كافّة الجند طول شهر ربيع الأول، ثم رضى عنهم فى الرّابع من شهر ربيع الآخر.
وتحقق [الحاكم]«2» أنّ أوّل من جرّأ عليه العسكر وحملهم على قتل دعاته أهل مصر، فأمهلهم حتّى دخل جمادى الآخر، ثم ابتدأ فى التّدبير عليهم.
فأوّل ما عمل أن سلّط عليهم الرّجّالة ومقدّمى السّودان وغيرهم، وقرّر
معهم أن ينزلوا إلى مصر على هيئة المناسر «1» ، فيكبسون الحمّامات ومنازل أهل مصر؛ فكانوا يفعلون ذلك نهارا. وتكرّر ذلك منهم، فاجتمع النّاس ووقفوا للحاكم وسألوه أن يكفّ عنهم أيديهم، فما أجابهم بجواب فتزايد بهم الضّرر إلى أن بقيت الرّجّالة تكبس مساكنهم ويأخذون ما فيها، ويعرّونهم فى الطّرقات، ويفتحون دكاكين البزّازين وغيرهم، وينهبون ما فيها ويحرقون أبوابها بعد ذلك، والنّاس يستغيثون فلا يغاثون. ثم نزل بعد ذلك جمع كثير بعد أن غلّقت الدّروب، وكانت بقيت تغلق قبل الغروب، وتخلّلوا البلدان، وفتحوا ما وراء الجامع من النّحاسين والأبزاريين «2» والسّكريّين ودار الشّمع، وغير ذلك مما يقرب من هذه الأسواق، وأخذوا ما أرادوا منها، وأفسدوا بقيّة ما فيها؛ فكانوا يخلطون العقاقير والأصناف بعضها ببعض، والمياه المختلفة بالزّيت؛ ويفسدون ما لا يمكنهم حمله. وطرحوا النّار فى أبواب القياسر «3» المجاورة للجامع بعد ذلك، فأخذ النّاس فى الانتقال إلى القاهرة، وضجّوا بالابتهال إلى الله تعالى فى كشف ما بهم من «4» البلاء.
قال: وكان الحاكم قبل ذلك قد ضيّق على النّصارى واليهود كما [60] قدمناه، وأمرهم بالتّظاهر بالإسلام؛ فأسلم بعضهم وهرب بعضهم إلى بلاد الروم؛ وهدم جميع الكنائس. فلمّا كان فى شهر جمادى الآخرة، سنة إحدى عشرة وأربعمائة، أذن لهم بالرّجوع إلى دينهم، فارتدّوا، وأذن لهم