الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكى الرئيس ابن القلانسى فى تاريخ الشام فى سبب بيعة العزيز الأولى أن أباه المعزّ لدين الله كان مغرما بعلم النّجوم والنّظر فيما تقتضيه أحكام مولده، فحكم له بقطع، فاستشار منجمه فيما يزيله عنه، فأشار عليه أن يعمل له سردابا تحت الأرض ويتوارى فيه مدّة إلى حين زوال ذلك القطع.
فصنع ذلك وأحضر وجوه دولته، وقال لهم: إنّ بينى وبين الله عهدا وعدنيه قد قرب أوانه، وقد جعلت عليكم ولدى نزارا، ولقّبته بالعزيز بالله، واستخلفته عليكم وعلى تدبير أحوالكم مدّة غيبتى؛ فالزموا الطّاعة والمناصحة له. فقالوا: نحن عبيدك وخدمك. فأخذ البيعة له ووصّاه بما أراد، وجعل القائد جوهرا مدبّرا لأموره، ونزل السّرداب الّذى اتخذه، وأقام به سنة. فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجّلوا على الأرض وأرموا بالسّلام عليه. ثمّ خرج بعد ذلك، وجلس النّاس، فدخلوا على طبقاتهم وسلّموا عليه؛ ولم يلبث بعد ذلك إلّا مدّة يسيرة، واعتلّ فمات «1» .
ذكر الحرب بين أفتكين التركى وعساكر العزيز بالله
ولنذكر ابتداء أمر أفتكين «2» لتأتى أخباره بسياقه.
هو أبو المنصور أفتكين المعزّى، أحد مماليك معزّ الدولة بن بويه «3» وكان سبب وصوله إلى الشام أنه لما وقعت الفتنة بين الترك والديلم ببغداد
وخلع المطيع «1» كما ذكرناه، وتوالت تلك الفتن، انفصل أفتكين عن بغداد فى سنة ثلاث وستّين وثلاثمائة فى ثلاثمائة غلام، وسار حتّى قدم حمص فأقام أيّاما يسيرة، وسار منها إلى دمشق، فوجد أحداث البلد قد تحكّموا فيها والفتن بين أهلها وبين عسكر المغاربة. فخرج إليه شيوخ دمشق وأظهروا السّرور به، وسألوه أن يتولّى عليهم، ويكفّ أيدى المفسدين، وتوثّقوا منه وتوثّق منهم بالأيمان، ودخل البلد وأصلح أمره، وأحسن السّيرة، وكفّ المفسدين، فاستقام له الأمر وثبت قدمه «2» . فاضطر إلى مكاتبة المعزّ لدين الله بمصر فكاتبه وخادعه، وغالطه، وأظهر الانقياد إليه والطاعة لأمره.
فأجابه المعزّ يستدعيه إلى حضرته ليشاهده، ويصطفيه لنفسه، ويعيده إلى ولايته؛ فلم يثق إلى ذلك وامتنع من الإجابة. ووافق ذلك علّة المعزّ ووفاته.
وكتب أفتكين فى أثناء هذه القضيّة إلى مولاه ببغداد يقول إنّ الشام قد صفا فى يدى، فإن سيّرت إلىّ عسكرا ومالا وسلاحا فتحت ديار مصر، فبعث إليه الجواب: غرك عزك فصار قصار ذلك ذلّك فاخش فاحش فعلك، فعلّك تهدأ بهذا. فلما أيس أفتكين من إنفاذ العساكر إليه من بغداد اضطرّ عند ذلك إلى مكاتبة القرامطة، فقصدوه ووافوه فى سنة خمس وستّين وثلاثمائة؛ وكان الذى أتاه منهم إسحاق، وكسرى، وجعفر؛ فنزلوا بظاهر دمشق، ووافاه معهم كثير من العجم. فأكرمهم أفتكين وحمل إليهم الميرة، فأقاموا أيّاما وتوجّهوا إلى الرّملة، فخرجت إليهم عساكر السّاحل، واقتتلوا، فهزمهم أفتكين، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وكان على السّاحل ظالم بن موهوب العقيلى، فانهزم إلى صور. وأحصيت القتلى فجاءوا أربعة آلاف فارس، فكاتب العزيز بن المعزّ أفتكين واستماله ووعده إن وطئ بساطه أن يرفع منزلته. فأبى إلّا مخالفته، وأغلظ له فى الجواب. فاستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلّس فيما يفعله فأشار عليه بإخراج [47] جوهر القائد إليه بالعساكر؛ فشرع العزيز فى ذلك وجهّز جوهرا، فلما سمع أفتكين ذلك عاد إلى دمشق واستشار أهلها، وقصد التّوجّه لبلاد الرّوم؛ وكان أهل دمشق يكرهون المغاربة لمخالفتهم لهم فى الاعتقاد، فطمأنوه، وثبّتوه للقاء عساكر مصر. وخرج جوهر فى العساكر العظيمة بعد أن استصحب أمانا من العزيز لأفتكين «1» فلما وصل جوهر إلى الرّملة كاتب أفتكين ولاطفه، وعرّفه ما معه له من الأمان؛ فلاطفه أيضا أفتكين فى الجواب واعتذر إليه بأهل دمشق، فعلم جوهر أنّه لا بدّ من الحرب. فسار إليه ونزل بالشماسية «2» فبرز إليه أفتكين؛ ونشبت الحرب بين الفريقين مدّة شهرين، وقتل من الطائفتين عدد كثير.
وظهر من شجاعة أفتكين ما عظم به قدره فى النّفوس، فأشار عليه أهل دمشق بمكاتبة أبى محمد الحسن بن محمد القرمطىّ واستدعائه لدفع عساكر مصر، فكاتبه فأتاه القرمطىّ، فعلم جوهر أنه إن أقام استظهر أفتكين عليه، فرجع إلى طبريّة وتبعه أفتكين والقرمطىّ فقاتلاه؛ فانهزم إلى عسقلان فتبعه أفتكين وحصره بها حتى أشرف جوهر على الهلاك، فصالحه، ووقع الصّلح