الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاد. ثم نذكر فى أخبار عبيد الله، المنعوت بالمهدىّ، تتّمة أخبار أبى عبد الله الشيعىّ إلى أن قتل هو وأخوه أبو العبّاس محمد بن أحمد.
فنقول وبالله التوفيق.
ذكر ابتداء الدّولة العبيديّة وأخبار المهدى عبيد الله وما كان من أمره منذ خرج من الشّام إلى أن ملك البلاد وتسلم الأمر من أبى عبد الله الشيعىّ
كان ابتداء ظهور هذه الدولة وقيامها ببلاد المغرب فى سنة ستّ وتسعين ومائتين، عند ظهور عبيد الله بن الحسن المنعوت بالمهدىّ، وخلاصه من سجن سجلماسة وقتله الحسن بن مدرار. ومنهم من يجعل ابتداءها عند وصول عبيد الله إلى رقّادة فى يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ولنبدأ بأخبار المهدىّ فى رحلته إلى المغرب.
ذكر رحيل عبيد الله من الشام [32] ووصوله إلى سجلماسة
وكان سبب ذلك أن المعتضد بالله أبا العبّاس العباسىّ طلب عبيد الله هذا طلبا شديدا، فخاف على نفسه إن هو أقام بالموضع الذى هو فيه من أرض الشام، فخرج بنفسه وبولده أبى القاسم محمّد، وهو يومئذ غلام حدث وعبيد الله شابّ، وخرج معه خاصّته ومواليه، يريدون المغرب، وذلك فى خلافة المكتفى بالله العباسى، وأمير إفريقية يومئذ زيادة الله بن أبى العبّاس بن إبراهيم بن أحمد.
فلما انتهى عبيد الله إلى مصر أراد أن يقصد اليمن، وكان بها أبو القاسم الحسن بن حوشب الكوفى الدّاعى كما ذكرنا، وقد استقام له الأمر وملك أكثر البلاد، ثم بعث بعده علىّ بن الفضل فاستحلّ المحارم ودعا النّاس إلى الإباحات، فلما اتّصل ذلك به كره دخول اليمن على هذه الحال، وبلغه ما فعل الشيعىّ بالمغرب، وما فتح على يديه فأقام بمصر مستترا فى زىّ التّجار، وعامل مصر يومئذ عيسى النوشرى بعد انقراض الدّولة الطّولونيّة؛ فأتته الكتب بصفته، وأمر بالقبض عليه.
وكان بعض خاصّة النّوشرى يتشيع، قيل إنّه ابن المدبّر، فبادر إلى عبيد الله وأخبره، وأشار عليه بالمسير؛ فخرج من مصر بمن صحبه. ففرّق النّوشرى الرّسل وذكر لهم صفته، ثم خرج بنفسه فأدركه وقد رحل من تروجة، وهى على مرحلة من الإسكندرية، فمشى النّوشرىّ فى القافلة التى عبيد الله فيها، وجعل ينظر إلى وجوه القوم، حتّى رأى عبيد الله على هيئته التى وصفت له، فقبض عليه وعلى من كان معه، وأطلق الرّفقة وعاد به إلى ببستان فنزل به، وأنزل عبيد الله ومن معه بمفردهم ووكل بهم. ثم خلا به وقال له أصدقنى عن أمرك فأنى ألطف فى خلاصك، فقد جاءت صفتك من قبل أمير المؤمنين وأمر بطلبك، وذكر أنّك تروم الخلافة. فقال عبيد الله «1» إنما أنا رجل تاجر، ولست أعلم شيئا ممّا نقول، وأنت غنىّ عن تقلّد إثمى.
فما زال يلاطفه يومه وليلته حتّى أطلقه وقال: امض إلى سبيلك وأنا أبعث معك خيلا تشيّعك. فشكره وقال: أنا أستغنى بنفسى وبمن معى، وانصرف. فرجع أصحاب النّوشرى عليه بالملامة، وقالوا له: ماذا صنعته
بنفسك! عمدت إلى بغية أمير المؤمنين وطلبته فأطلقته. فندم على إطلاقه وهمّ أن يبعث إليه خيلا تردّه.
فلمّا سار عبيد الله أميالا افتقد أبو القاسم ابنه كلبة صيد كانت له، فبكى عليها فعرفّه عبيده «1» أنهم تركوها بالبستان؛ فرجع عبيد الله فى طلبها، فرآهم النّوشرى، فقال: من هؤلاء؟ فقال بعض أصحابه: الرّجل قد رجع.
فبعث غلمانه فسألوا أصحاب عبيد الله عن سبب رجوعه، فقالوا: افتقد ولد سيدنا كلبة، وهو عزيز على أبيه، فعاد معه فى طلبها بعد أن قطع أميالا كثيرة. فقال النّوشرى لأصحابه: قبّحكم الله! أردتم أن تحملونى على رجل حاله مثل هذه الحال أعتقله بشبهة. لو كان مرتابا لطوى المراحل وما عاد إلينا من مسافة بعيدة فى طلب كلبة صيد.
ورجع النّوشرى من وقته إلى مصر، وعاد المهدىّ ولحق برفقته. فلمّا انتهى إلى مدينة طرابلس، فارق من كان معه من التّجار، وقدّم أبا العبّاس محمّد بن أحمد بن محمّد بن زكريا، أخا أبى عبد الله الشيعىّ إلى القيروان ببعض ما كان معه، وأمره أن يلحق بكتامة. فلما وصل أبو العبّاس إلى القيروان وجد الكتب قد سبقت إلى زيادة الله فى أمر عبيد الله فأحضر الرّفقة وسألهم عنه، فأخبروه أنه تخلّف بطرابلس وذكروا أنّ أبا العبّاس من أصحابه؛ فأخذ وقرّر، فأنكر، فحبس.
واتصل الخبر بعبيد الله بطرابلس فصادف رفقة خارجة إلى قصطيلية، فخرج معهم، وأتى كتاب زيادة الله إلى طرابلس بصفته وطلبه، فكتب إليه عاملها أنه خرج من عمله، وسار عبيد الله حتى وصل إلى قصطيلية، ثم منها
إلى سجلماسة، وصاحب سجلماسة يومئذ اليسع بن مدرار، فهاداه عبيد الله، فأكرمه اليسع وعظّمه. فلم يزل كذلك إلى أن أتاه كتاب زيادة الله يخبره أنه هو الّذى يدعو إليه الشيعىّ، فتغير اليسع عند ذلك عليه إلّا أنه لم يكن منه فى حقه ما يكره.
ثم كان من تغلّب الشيعىّ ما قدّمناه، وعلم بمكان عبيد الله، وكان يكاتبه فى السّرّ. فلمّا هزم الشيعىّ جيش إبراهيم بن حنبش كتب إلى عبيد الله يخبره بالفتح، فأرسل إليه مالا مع رجال من قبله من كتامة، وكان ذلك أول فتح ورد على عبيد الله، فسرّ به. ثم استولى الشيعىّ على ما ذكرناه، وهرب منه زيادة الله، وملك رقّادة والقيروان، وسار إلى سجلماسة فلما انتهى خبره إلى اليسع بن مدرار وقرب من سجلماسة سأله فحلف أنه ما اجتمع بالشيعىّ ولا رآه قطّ ولا عرفه، وقال: إنما أنا رجل تاجر فأغلط له فى القول فلم [يغير]«1» كلامه الأوّل ولم يخرج عنه. فجعله فى دار وجعل عليه حرسا، وجعل ابنه أبا القاسم فى دار أخرى، وفرّق بينهما. واختبر كلّ واحد منهما [33] فلم يجد بينهما خلافا، وامتحن رجالا كانوا معهما بالعذاب ليقرّوا فلم يعترفوا بشىء.
واتصل الخبر بالشّيعىّ فعظم عليه، وأرسل إلى اليسع بن مدرار يؤمّنه جانبه ويذكر أنّه إنّما قصد سجلماسة لحاجة وبعده الجميل والبرّ والإكرام، وأكد ذلك وبالغ فيه فلما وصلت رسل اليسع رمى بالكتب وقتل الرّسل، واتّصل ذلك بالشيعىّ فعاوده ولاطفه؛ كلّ ذلك خوفا منه أن يكون منه فى حقّ عبيد الله ما يكرهه؛ فقتل الرّسل أيضا فلمّا رأى الشيعىّ إصراره عبّأ
عساكره ودنا من المدينة فخرج إليه اليسع بمن معه، فناوشهم القتال، فقتل من أصحابه جماعة وكان ذلك فى آخر النّهار، فحجز بينهما اللّيل.
فلما جنّ اللّيل هرب اليسع بن مدرار مع أهل بيته وبات الشيعىّ ومن معه فى غمّ عظيمّ تلك الليلة، لا يعلم ما صنع بعبيد الله وابنه، ولم يمكنه دخول المدينة، وما علم بهرب اليسع، حتى أصبح، فخرج إلى الشيعى وجوه أهل المدينة وأعلموه بهرب اليسع، فدخل إلى المكان الذى فيه عبيد الله فأخرجه وأخرج ولده أبا القاسم، وقرّب لهما فرسين وحفّت بهما العساكر، وسار الشّيعىّ والدّعاة بين يدى عبيد الله وهو يقول: هذا مولاى ومولاكم؛ حتى انتهى عبيد الله إلى فسطاط ضرب له، فدخله، وهو إذ ذاك شاب لم ينبذه الشّيب، وابنه حرطرّ شاربه.
هذا ما حكاه إبراهيم بين الرّقيق فى تاريخه.
وقال غيره إن اليسع بن مدرار لمّا أراد الخروج من سجلماسة أحضر الشخص الذى اعتقله وقتله قبل هروبه، وأن الشيعى لمّا دخل وعلم بقتل عبيد الله خاف من كتامة لأنه كان يعدهم بخروج المهدىّ وملكه الأرض على زعمه، وخشى أن يفتضح فيهلك ويزول ما حصل فى يده، فأخرج لهم رجلا يهوديّا كان يخدم الشّخص المقتول، وقال هذا إمامكم وإمام الاسماعيلية، وأركبه ومشى فى ركابه وانسلخ له من الأمر. وهذا فيه بعد، وأراه من التّغالى فى نفيهم عن النّسب؛ والذى حكاه ابن الرّقيق أشبه.
فلنرجع إلى ما حكاه إبراهيم بن الرّقيق.
قال: ولما استقرّ عبيد الله بالفسطاط أمر بطلب اليسع بن مدرار حيث كان، فخرجت الخيل فى طلبه، فأدركوه ومن معه من أهل بيته،
فأخذوهم وأتوا بهم إلى عبيد الله، فأمر بضرب اليسع بالسياط، فضرب وطيف به فى بلاد سجلماسة؛ ثم أمر بقتله فقتل هو وكلّ من هرب معه من أهل بيته وغيرهم. وأمّن الناس بعد ذلك وسكّنهم، واستعمل عليهم عاملا، وأتته القبائل من كلّ ناحية فأكرمهم، ووعدهم بكل جميل.
وأقام بسجلماسة أربعين يوما، ثم سار يريد إفريقية. فلما حازى بلاد كتامة مال إليها، ووصل إلى إيكجان، وأمر بإحضار الأموال التى كانت مع الشيعىّ والشيوخ، فأحضرها وشدّها أحمالا وقدم بها. وكان وصوله إلى رقّادة فى يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين.
وفى هذه السنة زال ملك بنى الأغلب وكان له بإفريقية مائة سنة واثنتا عشرة سنة. وزال بزواله ملك بنى مدرار وكان له بسجلماسة وما حولها مائة سنة وستون سنة. وزال ملك بنى رستم من تاهرت «1» وما حولها، وله مائة سنة وثلاثون سنة «2» .
قال: ولما قارب عبيد الله القيروان تلقّاه شيوخها ومشوا بين يديه، فجزاهم خيرا ونزل عبيد الله بقصر من القصور برقّادة، وأنزل العساكر بدورها ودعى له بالخلافة فى يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر من السّنة برقّادة والقيروان والقصر القديم «3» وأنفذ رسله ردعاته وأتته وفود البلدان.