الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جماعة. ثم عجز الفرنج عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى صور والله أعلم «1» .
ثم كانت لهم وقعة ثانية بعد وصول السّلطان مع المتطوّعة.
وذلك أن السّلطان لما جاء إلى صور أقام مع اليزك فى خيمة صغيرة ينتظر عودة الفرنج للخروج؛ فركب فى بعض الأيام فى عدّة يسيرة لينظر إلى مخيّم الفرنج من الجبل، فظنّ من هناك من المتطوّعة أنّه قصد الغزاة، فساروا مجدّين وأوغلوا فى أرض العدوّ وبعدوا [128] عن العسكر، وخلّفوا السّلطان وراء ظهورهم؛ فبعث من يردّهم فلم يرجعوا. وظنّ الفرنج أنّ وراءهم من يحميهم فأحجموا عنهم؛ فلمّا علموا بانفرادهم حملوا عليهم حملة رجل واحد، فقتل منهم جماعة من المعروفين؛ فشقّ ذلك على السّلطان والمسلمين. وكانت هذه الوقعة فى تاسع جمادى الأولى.
فلمّا رأى السّلطان ذلك انحدر من الجبل بمن معه، وحمل على الفرنج فردّهم إلى الجسر، فرموا بأنفسهم فى الماء، فغرق منهم مائة دارع سوى من قتل. وعادوا إلى مدينة صور، فعادا السّلطان إلى تبنين ثم إلى عكا.
ثم كانت وقعة ثالثة فى يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة صبر فيها الفريقان «2» .
ذكر مسير الفرنج إلى عكّا ومحاصرتها
قال المؤرخ: لما كثر جمع الفرنج بصور، على ما ذكرناه من أنّ السّلطان كان كلّما فتح حصنا أو مدينة بالأمان سار أهلها إلى صور
بأموالهم وأهليهم، اجتمع بها منهم عالم كثير لا يحصون، وأموال كثيرة، ثم إنّ الرّهبان والقسوس لبسوا السواد وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدّس عنهم، وتابعهم جماعة من المشهورين.
فأخذهم البطرك «1» ودخل بهم إلى بلاد الفرنج يطوفها بهم ويستنجدون أهلها ويستجيرون بهم، ويحثّونهم على الأخذ بثأر البيت المقدّس.
وصوّروا صورة المسيح عليه السلام وصورة رجل أعرابى والعربىّ يضربه بين جماعة، وقالوا: هذا المسيح يضربه محمّد نبى المسلمين، وقد جرحه وقتله «2» .
فعظم ذلك على الفرنج وحشدوا، حتّى النساء، فإنّهم كان معهم على عكّا عدّة من النساء يبارزن الأقران. ومن لم يستطع أن يخرج استأجر عنه أو يعطيهم مالا. فاجتمع لهم من الرّجال والأموال مالا.
يحصى كثرة.
واجتمعوا بصور والبحر يمدّهم بالأموال والأقوات والعدد والذّخائر، فضاقت عليهم مدينة صور، باطنها وظاهرها؛ فأرادوا قصد صيدا، فكان من ردّهم ما ذكرناه.
فاتّفقوا على قصد عكّا ومحاصرتها؛ فساروا إليها بفارسهم وراجلهم، ولزموا البحر فى مسيرهم، لا يفارقونه فى السّهل والوعر، ومراكبهم تسايرهم وفيها السّلاح والذّخائر. فكان رحيلهم من مدينة صور فى ثانى شهر رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ونزولهم
على عكّا فى منتصف الشّهر. فتخطّف المسلمون منهم فى مسيرهم وأخذوا من انفرد.
وجاء الخبر إلى السّلطان برحيلهم، فسار حتى قاربهم. ثمّ نزلوا على عكّا قبل وصوله إليها، ونازلوها من سائر جهاتها برّا وبحرا، فلم يبق للمسلمين إليها طريق. ونزل السّلطان عليهم وضرب خيمته على تلّ كيسان «1» وامتدّت ميمنته إلى تلّ العياضيّة وميسرته إلى النّهر الجارى «2» ، ونزلت الأثقال بصفّوريّة. وسيّر الكتب إلى الأطراف يستدعى العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار، وغيرها من بلاد الجزيرة. وأتاه تقىّ الدّين ابن أخيه، ومظفّر الدّين بن زين الدين صاحب حرّان والرّها. فكانت الأمداد تأتى المسلمين فى البرّ وتأتى الفرنج فى البحر.
وكان بين الفريقين مدّة مقامهم على عكّا حروب كثيرة.
نحن نذكر المشهور منها على سبيل الاختصار؛ وأمّا الحروب التى تكون بين بعض هؤلاء وبعض هؤلاء، والمناوشات، فلو شرحناها لطال بها الكتاب لأن مدّة هذا الحصار كانت ثلاث سنين وشهرا.
وكان ابتداء القتال فى مستهل شعبان من السّنة. فقاتلهم السّلطان فى ذلك اليوم ولم يبلغ منهم غرضا؛ ثم باكرهم القتال واستدار عليهم من سائر جهاتهم إلى أن انتصف النّهار، وصبر الفريقان أعظم صبر. فحمل تقىّ الدّين من الميمنة على من يليه منهم وأزاحهم عن مواقفهم، فركب بعضهم بعضا لا يلوى الأخ على أخيه، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم. وانكشف نصف البلد، وملك تقىّ الدّين مكانهم، ودخل
المسلمون البلد وخرجوا منه، واتصلت الطريق وزال الحصار. وأدخل السّلطان إلى البلد [129] من أراد من الرّجال، وما أراد من الذّخائر، والأموال، والسّلاح؛ فكان من جملة من أمره السلطان بالدّخول إليها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السّمين. وقتل من الفرنج فى هذا اليوم خلق كثير.
ثم كانت بينهم وقعات فى ثامن شعبان، وتاسعه، وعاشره، وحادى عشره. ثمّ كانت وقعة فى تاسع عشر شعبان بين أهل عكّا والعدوّ فقتل من فى الطّائفتين وجرح.
ثم كانت الوقعة الكبرى فى الحادى والعشرين من شعبان وذلك أن الفرنج اجتمعوا وتشاوروا، وقالوا إن العسكر المصرىّ إلى الآن ما قدم وهذا فعل السّلطان، فكيف إذا قدمت عساكره فأجمعوا رأيهم على مناجزة الحرب. وكانت عساكر السّلطان متفرّقة: منها طائفة فى مقابلة أنطاكية تمنع صاحبها من الإغارة على الأعمال الحلبيّة؛ وطائفة على حمص فى مقابلة طرابلس؛ وطائفة تقاتل من بقى بصور؛ وطائفة بالدّيار المصرية لحماية ثغرى الإسكندرية ودمياط، ومن بقى من العسكر المصرى إلى الآن لم يصل؛ وهذا ممّا أطمع الفرنج فى الظّهور.
قال: وأصبح المسلمون فى هذا اليوم على عادتهم، منهم من يتقدّم إلى القتال ومنهم من هو فى خيمته، ومنهم من قد توجه فى حاجته. فخرج الفرنج من معسكرهم كالجراد المنتشر قد ملأوا الأرض، فكانت وقعة عظيمة ابتداؤها على المسلمين، ثم أنزل الله نصره عليهم، فهزموا الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم من رؤسائهم عشرة آلاف، وقتل من المسلمين فى هذه الموقعة من الغلمان ومن لم يعرف مائة وخمسون، ومن المعروفين الأمير مجلى بن مروان،