الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خبر إرسال القائد جوهر الكاتب بالعساكر إلى الدّيار المصريّة
وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة قدم القائد جوهر من المغرب بعسكر عظيم من كتامة والجند والبربر؛ فأمره المعزّ بالاستعداد والخروج إلى مصر. فأقام بقصر الماء بالقرب من المنصوريّة ليجتمع إليه الحشود؛ وفتح المعز بيت المال ووضع العطاء. وحشد من إفريقية من الكتاميين والزويليين والجند والبربر، وأعطى من مائة دينار إلى عشرين دينارا حتى عمّهم بالعطاء، وتصرفوا فى القيروان وصبره فى ابتياع ما يحتاجون إليه، ثم أمر المعزّ بالرّحيل، فرحل فى يوم السّبت لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول منها. وفارقه خمسمائة فارس من البربر، فجرّد خلفهم عدّة من الوجوه فلم يرجعوا؛ فقال المعز: الله أكرم أن ينصرنا بالبربر، ثم سار جوهر بجميع من معه من العساكر، ومعه ألف حمل من المال، ومن السلاح والعدد والكراع ما لا يوصف، وأغذّ السير حتى أقبل على الدّيار المصرية.
[39] ذكر خبر وصول جوهر القائد بالعساكر إلى الدّيار المصرية وما كان بينه وبين الإخشيدية والكافورية من المراسلة فى طلب الآمان وتقريره الصّلح ونكثهم وقتاله إياهم إلى أن ملك الدّيار المصرية واختط القاهرة
.
قال ابن جلب «1» راغب فى تاريخ مصر: وفى جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وردت الأخبار إلى مصر بقدوم القائد جوهر، فاضطرب المصريون لذلك اضطرابا شديدا، ووقع اتّفاق أرباب الدّولة بحضرة الوزير جعفر بن الفضل على مراسلته فى الصّلح وطلب الأمان، وإقرار ضياعهم وأعمالهم فى إيديهم. فراسلوه فى ذلك واشترط نحرير سويران «2» ألّا يجتمع مع القائد جوهر، وأن يكون له الأشمونين إقطاعا، وتقلّد مكّة والمدينة، ويتوجّه فيقيم بالحجاز، وسألوا الشّريف أبا جعفر مسلم الحسنى فى المسير برسالتهم إلى جوهر، فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من الأعيان، فجهّزوا معه أبا إسماعيل إبراهيم بن أحمد الزّينبى، وأبا الطّيب العباس بن أحمد العبّاسى والقاضى أبا طاهر، وغيرهم. وكتب الوزير كتابا بما يريد.
وسار أبو جعفر بمن معه فى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب من السّنة، وقيل لليلة بقيت منه، فلقى القائد جوهرا قد نزل بتروجه فاجتمعوا به فبالغ القائد فى إكرام الشّريف، وأدى الشّريف إليه الرسالة وأعطاه كتب الجماعة، وعرّفه ما التمسوه، فأجابهم إلى ذلك، وكتب كتابا بالأمان نسخته.
«بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من جوهر الكاتب، عبد أمير
المؤمنين المعزّ لدين الله صلوات الله عليه، لجماعة أهل مصر من السّاكنين بها وبغيرها «1» .
إنّه قد ورد من سألتموه الترسّل إلىّ والاجتماع معى، وهم «2» : أبو جعفر الشّريف أطال الله بقاءه، وأبو طاهر إسماعيل الرئيس «3» ، أيّده الله، وأبو الطيب الهاشمىّ، أيّده الله، والقاضى أبو طاهر «4» أعزه الله، وأبو جعفر أحمد بن نصر أعزه الله.
فذكروا عنكم أنّكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم فى أنفسكم وأموالكم، وبلادكم ونعمكم «5» وجميع أحوالكم؛ فعرّفتهم ما تقدّم به أمر مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، من نصره لكم «6» .
لتحمدوا الله «7» تعالى على ما أولاكم وتحمدوه على ما حباكم «8» ، ولتدأبوا «9» فيما يلزمكم، وتسارعوا للطّاعة «10» العاصمة لكم، العائدة بالسّعادة عليكم، المقضية بالسلامة لكم «11» ، وهو أنّه صلوات الله عليه،
لم يكن إخراجه هذه العساكر»
المنصورة، والجيوش المظفّرة، إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم، والجهاد عنكم؛ إذ قد تخطفتكم «2» الأيدى، واستطال عليكم المشرك «3» ، وأطمعته نفسه بالاقتدار على بلادكم «4» [فى هذه السنة، والتغلب عليه، وأسر من فيه]«5» والاحتواء «6» على نعمكم وأموالكم، حسب ما فعله فى غيركم من أهل بلدان المشرق، وتأكّد عزمه واشتدّ كلبه، فعاجله مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، بإخراج العساكر المنصورة وبادره بإنفاذ الجيوش المظفّرة لتقاتله «7» دونكم، وتجاهده «8» عنكم وعن كافّة المسّلمين ببلد المشرق، الّذين عمّهم الخزى، وعلتهم «9» الذّلّة، واكتنفتهم المصائب، وتتابعت لديهم «10»
الرّرايا، واتّصل عندهم الخوف، وكثرت استغاثتهم، وعظم ضجيجهم، وعلا صياحهم «11» ، ولم يغثهم «12» إلّا من أرمضه «13» حالهم، وأبكى عنه ما نالهم، وأسهره «14» ما حلّ بهم، وهو مولانا وسيّدنا [فرجا بفضل الله،
وإحسانه لديه، وما عوّده وأرجاه عليه، استنقاذ من أصبح منهم فى ذلّ مقيم، وعذاب أليم] «1» أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، وأن يؤمّن من استولى عليه المهل «2» ويفرخ روع من لم يزل فى خوف ووجل. وآثر إقامة الحجّ الذى تعطّل، وأهمل العباد فروضه وحقوقه، للخوف «3» المستولى عليهم، و [إذ]«4» لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم، [و]«5» إذ قد وقع «6» بهم مرّة بعد أخرى، فسفكت دماؤهم.
وأطال جوهر فى كتابه «7» ، وحضّهم على الطّاعة؛ وأشهد عليه الشّهود فيه، وخلع على الجماعة، وحملهم.
قال: ولما توجّه الشريف ومن معه إلى القائد جوهر، اضطرب بعده البلد اضطرابا شديدا، وأخذت الإخشيديّة والكافوريّة فى إخراج مضاربهم، وقام رجل من أهل بغداد، بعرف بابن شعبان، يوم الجمعة فى المسجد قبل الصّلاة فقال: أيها النّاس قد أظلّكم من أخرب فارس وسبى أهلها، وذكر ما حلّ بأهل بلاد المغرب منه، وقال: القوا الرّجل القليل المعرفة، يعنى الوزير جعفر ابن حنزابة، فإنّه قد شرع فى إتلاف بلدكم وسفك دمائكم بمراسلة هذا الرّجل، يعنى القائد جوهرا، فسمع النّاس كلامه،
ورجعوا عما سألوه من الأمان. وبلغ الشّريف ومن معه انتقاض الإخشيديّة والكافوريّة، وعزمهم على القتال، فكتموه عن القائد جوهر خوفا أن يعتقلهم، وبادروا [40] بالعود وساروا. فبلغ القائد ذلك بعد رحيلهم، فردّهم، وقال: قد بلغنى أنّ القوم قد نقضوا ورجعوا، فردّوا علىّ خطّى فرفقوا به وداروه، وقالوا: إذا يظفرك الله وينصرك. فقال للقاضى:
ما تقول فيمن أراد [أن]«1» يشقّ مدينة مصر فيجعلها طريقا لجهاد المشركين والحجّ إلى بيت الله الحرام؟ فمنعوه، من الجواز له أن يقابلهم. فقال: نعم، اكتب خطّك بذلك «2» .
ثم سار الشريف ومن معه إلى مصر فوصلوها لسبع خلون من شعبان، فركب الوزير والنّاس إليهم، واجتمع الإخشيديّة والكافوريّة وغيرهم، فقرأ عليهم السّجل الذى كتبه القائد، وأوصل إلى كلّ واحد جواب كتابه بما أراد من الأمان والولاية والإقطاع. فلما قرءوا الكتب خاطبوا الشّريف بخطاب طويل؛ فقال نحرير ما بيننا وبينه إلّا السيف فقدّموا عليهم نحرير سويران، وعبأوا عساكرهم، وعدوّا إلى الجيزة والجزيرة، وحفظوا الجسور.
ووصل جوهر، وابتدأ القتال بينهم فى حادى عشر شعبان. ثمّ مضى القائد جوهر بعد ذلك إلى منية الصّيادين «3» ، وأخذ المخاضة بمنية شلقان واستأمن إليه جماعة من أهل مصر وغلمانهم فى مراكب، ووقع القتال،
وزحف جعفر بن فلاح، بالرجال، وقاتل عساكر مصر، ووقع القتل فى الإخشيديّة والكافوريّة فانهزموا ليلا ودخلوا مصر وأخذوا ما فى دورهم، وساروا إلى الشّام.
قال: ولما انهزم ركب الناس إلى دار الشّريف أبى «1» جعفر مسلم وسألوه كتابا إلى القائد جوهر بإعادة الأمان عليهم؛ فكتب كتابا إليه يهنئه بالفتح، وسأله إعادة الأمان للمصريّين؛ فكتب القائد أمانا وبعثه إلى الشّريف، فقرأه على النّاس، وهو:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم. وصل كتاب الشّريف، أطال الله بقاءه وأدام عزّه وتأييده وتمكينه «2» ، يهنّئ بما هيأه الله «3» من الفتح المبارك «4» ، «وهو، أيّده الله، المهنأ بذلك لأنها دولته ودولة أهله، وهو المخصوص بذلك» «5» وأمّا ما سأل من الأمان وإعادة الأمان الأول، فقد أعيد إليه ما طلب، وجعلت إليه عن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، أن يؤمّن النّاس كيف شاء بما شاء «6» . وقد كتبت إلى الوزير، أيده الله، بالاحتياط على بيوت «7» الهاربين إلى أن يدخلوا فى الطّاعة، وما دخلت فيه
الجماعة «1» ، ويعمل الشّريف أيّده الله، على لقائى فى يوم الأحد لأربع عشرة ليلة تخلو من شعبان»
بجماعة الأشراف والعلماء والثناء، وأهل البلدان إن شاء الله تعالى» .
فقرأ الشريف الكتاب على الناس وسكّنهم وهدّأهم، ففتحوا البلد، وأخذ النّاس فى التجهّز إلى لقاء القائد جوهر، وقتل نحرير وميسر وبلال ويمن الطويل. وجىء برءوسهم إلى القائد.
قال: وخرج النّاس إلى الجيزة والتقوا القائد، فنادى مناد ينزل النّاس كلّهم إلا الشّريف والوزير، ففعلوا ذلك، وسلّموا عليه واحدا واحدا، وأبو جعفر أحمد بن نصر يعرّفه بالنّاس، والشّريف أبو جعفر مسلم عن يمينه، وأبو الفضل الوزير عن يساره.
فلمّا فرغ السّلام انصرف النّاس، وابتدأ العسكر فى الدّخول منذ زوال الشّمس. فعبروا الجسر بالدّروع والجواشن «3» ، ودخل القائد جوهر إلى المدينة بعد العصر من يوم الثلاثاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، والبنود «4» والطّبول بين يديه، ونزل الموضع الذى اختطّ فيه القاهرة واختط القصر.
وأصبح المصريّون حضروا إليه للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر فى تلك اللّيلة. قال: ولم يكن فى المكان عمارة ألبتّة إلّا بستان كافور. ولم يزل هذا البستان على حالته إلى سنة خمس وأربعين وستمائة فعمر مكانه مساكن وهو الخطّ الذى يعرف الآن بالكافورىّ «1» .
قال صاحب كتاب خطط «2» مصر: لمّا دخل جوهر القائد واختطّ القاهرة قرّر كلّ جانب منها على أمير من أمراء عسكره وأرصده لبناء تلك «3» الحارة حسبما أمره المعزّ لدين الله فسميت كلّ حارة باسم مقدّمها أو الطّائفة التى نزلت بها. وابتدأ بالعمارة فى شهر رمضان من السنة «4» .
قال المؤرخ: ودخل القائد جوهر مصر، وبين يديه ألف ومائتا صندوق مالا «5» ، وأقام عسكره يدخل سبعة أيّام. وبعث إلى مولاه المعزّ لدين الله يبشّره بالفتح.
قال: ولما دخل القائد مصر كان الغلاء بها، فنادى مناديه: من عنده قمح فليخرجه. وفرّق الصّدقات على النّاس، وأقرّ أبا الفضل على الوزارة،