الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنْ نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، صَحَّ صَوْمُهُ. وَيَلْزَمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْمَجْنُونِ.
ــ
فإنَّ النِّيِّةَ قد حَصَلَتْ مِن اللَّيْلِ، فيُسْتَغْنَى عن ذِكْرِها في النَّهارِ، كما لو نام أو غَفَل عن الصومِ، ولو كانَتِ النِّيَّةُ إنَّما تَحْصُلُ بالإِفاقَةِ في أوَّلِ النَّهارِ، لَما صَحَّ منه صومُ الفَرْضِ بالإِفاقَةِ، لأنَّه لا يُجْزِئُ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ. وحُكْمُ المَجْنُونِ حُكْمُ المُغْمَى عليه في ذلك. وقال الشافعىُّ: إذا وُجِد الجُنُونُ في جُزْءٍ مِن النَّهارِ أفْسَدَ الصومَ؛ لأنَّه مَعْنًى يَمْنَعُ وُجُوبَ الصومِ، فأفْسَدَه وُجُودُه في بَعْضِه، كالحَيْضِ. ولَنا، أنَّه زَوالُ عَقْلٍ في بعضِ النَّهارِ، فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ الصومِ، كالإِغْماءِ، ويُفارِقُ الحَيْضَ؛ فإنَّ الحَيْضَ لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ، وإنَّما يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، ويُحَرِّمُ فِعْلَ الصومِ، ويَتَعَلَّقُ به وُجُوبُ الغُسْلِ وتَحْرِيمُ الصلاةِ والقِراءَةِ واللُّبْثِ في المَسْجِدِ والوَطْءِ، فلا يَصِحُّ القِياسُ عليه.
1053 - مسألة: (وإن نام جَمِيعَ النَّهارِ، صَحَّ صومُه)
لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا؛ لأنَّه عادَةٌ، ولا يُزِيلُ الإِحْساسَ بالكُلِّيَّةِ.
1054 - مسألة: (ويَلْزَمُ المُغْمَى عليه القَضاءُ دُونَ المَجْنونِ)
لا نَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوبِ القَضاءِ على المُغْمَى عليه؛ لأنَّ مُدَّتَه لا تتَطاوَلُ غالِبًا، ولا تَثْبُتُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الوِلايَةُ على صاحِبِه، فلم يَزُلْ (1) به التَّكْلِيفُ، كالنَّوْمِ. فأمّا المَجْنُونُ، فلا يَلْزَمُه قَضاءُ ما مَضَى. وبه قال أبو ثَوْرٍ، والشافعىُّ في الجَدِيدِ. وقال مالكٌ: يَقْضِى وإن مَضَى عليه سِنُون. وعن أحمدَ مِثْلُه. وهو قولُ الشافعىِّ في القَدِيمِ؛ لأنَّه مَعْنًى يُزيلُ العَقْلَ، فلم يَمْنَعْ وُجُوبَ الصومِ، كالإِغْماءِ. وقال أبو حنيفةَ: إن جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ فلا قَضاءَ عليه، وإن أفاق في أثْنائِه قَضَى ما مَضَى؛ لأنَّ الجُنُون لا يُنافِى الصومَ، بدَلِيلِ أنَّه لو جُنَّ في أثْناءِ الصومِ لم يَفْسُدْ، فإذا وُجِد في بعضِ الشَّهْرِ وَجَب القَضاءُ، كالإِغْماءِ، ولأنَّه أدْرَكَ جُزْءًا مِن رمضانَ وهو عاقِلٌ، فلَزِمَه صِيامُه، كما لو أفاق في جُزْءٍ مِن اليومِ. ولَنا، أنَّه مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ، فلم يَجِبِ القَضاءُ في زَمانِه، كالصِّغَرِ والكُفْرِ. ونَخُصُّ أبا حنيفةَ بأنَّه مَعْنًى لو وُجِد في جَمِيعِ الشَّهْرِ أسْقَطَ القَضاءَ، فإذا وُجِد في بعضِه أسْقَطَه، كالصَّبيِّ والكُفْرِ، فأمّا إذا أفاق في بعض اليومِ، فلنا فيه مَنْعٌ، وإن سَلَّمْناه، فلأنَّه قد أدْرَكَ بعضَ وَقْتِ العِبادَةِ، فلَزِمَتْه، كالصَّبِىِّ إذا بَلَغ، والكافِرِ إذا أسْلَمَ في بعضِ النَّهارِ، وكما لو أدْرَكَ بعضَ وَقْتِ الصلاةِ.
(1) في م: «يلزم» .
فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ وَاجِبٍ، إِلَّا أنْ يَنْوِيَهُ مِنَ اللَّيْلِ مُعَيِّنًا. وَعَنْهُ، لَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ.
ــ
فصل: قال: (ولا يَصِحُّ صومُ واجِبٍ، إلَّا أن يَنْوِيَه مِن اللَّيْلِ مُعَيِّنًا. وعنه، لا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لرمضانَ) لا يَصِحُّ صومٌ إلَّا بنِيَّةٍ بالإِجْماعِ، فَرْضًا كان أو تَطَوُّعًا؛ لأنَّه عِبادَةٌ مَحْضَةٌ، فافْتَقَرَ إلى النِّيَّةِ، كالصلاةِ. فإن كان فَرْضًا، كصيامِ رمضانَ في أَدائِه أو قَضائِه، والنَّذْرِ، والكَفّارَةِ، اشْتُرِطَ أن يَنْوِيَه مِن اللَّيْلِ. وهذا مَذْهَبُ مالكٍ، والشافعىِّ. وقال أبو حنيفةَ: يُجْزِئُ صيامُ رمضانَ، وكلُّ صومٍ مُتَعَيِّنٍ بنِيَّةٍ (1) مِن النَّهارِ؛ لأنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أرْسَلَ غَداةَ عاشُوراءَ إلى قُرَى الأنْصارِ التى حولَ المَدِينَةِ:«مَنْ كَانَ أصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصبَحَ مُفْطِرًا فَلْيَصُمْ (2) بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أكَلَ فَلْيَصُمْ» . مُتَّفَقٌ عليه (3). وكان صومًا واجِبًا مُتَعَيِّنًا، ولأنَّه غيرُ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ، فهو كالتَّطَوُّعِ. ولَنا،
(1) في م: «بنيته» .
(2)
في م: «فليتم» .
(3)
أخرجه البخارى، في: باب صيام يوم عاشوراء، وباب إذا نوى بالنهار صوما، وباب صوم الصبيان، من كتاب الصوم، وفى: باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل. . . .، من كتاب الآحاد. صحيع البخارى 3/ 38، 48، 58، 9/ 111. ومسلم، في: باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 798.
كما أخرجه النسائى، في: باب إذا لم يجمع من الليل. . . .، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 163. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 232، 3/ 484، 4/ 47، 48، 50، 6/ 359، 467.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما روَى ابنُ جُرَيْجٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن سالِمٍ، عن أبيه، عن حَفْصَةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:«مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» . وفى لَفْظِ ابنِ حَزْم: «مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» . رَواه أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ، والنَّسائِىُّ (1). وروَى الدَّارَقُطنِىُّ (2)، بإسْنادِه، عن عَمْرَةَ، عن عائِشةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قال:«مَن لَم يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» . وقال: إسْنادُه كلُّهم ثِقاتٌ. وقال: حديثُ
(1) أخرجه أبو داود، في: باب النية في الصيام، من كتاب الصيام. سنن أبي داود 1/ 571. والترمذى، في: باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، من أبواب الصيام. عارضة الأحوذى 3/ 263. والنسائى، في: باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في النية في الصيام، من كتاب الصيام. المجتبى 4/ 166 - 168. كما أخرجه الدارمى، في: باب من لم يجمع الصيام من الليل، من كتاب الصيام. سنن الدارمى 2/ 7. والإِمام أحمد، في: المسند 6/ 287.
(2)
في: باب الشهادة على رؤية الهلال، من كتاب الصيام. سنن الدارقطنى 2/ 172.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حَفْصَةَ رَفَعَه عبدُ اللهِ بنُ أبي بَكْرٍ، عن الزُّهْرِىِّ، وهو مِن الثِّقاتِ. ولأنَّه صومُ فَرْضٍ، فافْتَقَرَ إلى النِّيَّةِ مِن اللَّيْلِ، كالقَضاءِ. فأمّا صومُ عاشُوراءَ فلم يَثْبُتْ وُجُوبُه، فإنَّ مُعاوِيَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ الله عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» . مُتَّفَقٌ عليه (1). وإنَّما سُمِّىَ الإِمْساكُ صِيامًا تَجَوُّزًا، كما روَى البُخارِىُّ، أنَّ رسولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم أمَرَ رجلًا أنْ أذِّنْ في النَّاسِ، أنَّ مَنْ كَانَ أكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِه (2). وإِمْساكُ بَقِيَّةِ اليَوْمِ بعدَ الأكْلِ ليس بصيامٍ شَرْعِىٍّ، فسَماه صيامًا تَجَوُّزًا، ثم لو ثَبَت أنَّه صِيامٌ، فالفَرْقُ بينَ ذلك وبينَ رمضانَ، أنَّ وُجُوبَ الصِّيامِ تَجَدَّدَ في أثْناءِ النَّهارِ، فأجْزَأتْه النِّيَّةُ حينَ تَجَدَّدَ الوُجوبُ، كمَن كان صائِمًا تَطَوُّعًا، فنَذَرَ في أثْناءِ النَّهارِ صومَ بَقِيَّةِ يَوْمِه، فإنَّه تُجْزِئُه نِيَّتُه عندَ نَذْرِه، بخِلافِ ما إذا كان النَّذْرُ مُتَقَدِّمًا. والفَرْقُ بينَ التَّطَوُّعِ والفَرْضِ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما،
(1) أخرجه البخارى، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصوم. صحيح البخارى 3/ 57. ومسلم، في: باب صوم يوم عاشواء، من كتاب الصيام. صحيح مسلم 2/ 795.
كما أخرجه الإمام مالك، في: باب صيام يوم عاشوراء، من كتاب الصيام. الموطأ 1/ 299. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 95.
(2)
انظر رواية البخارى لحديث عاشوراء المتقدم صفحة 390.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أنَّ التَّطَوُّعَ يُمْكِنُ الإِتْيانُ به في بعضِ النَّهارِ، بشَرْطِ عَدَمِ المُفْطِراتِ في أوَّلِه، بدَلِيلِ قَوْلِه عليه السلام، في حديث عاشُوراءَ:«فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» . فإذا نَوَى صومَ التَّطَوُّعِ مِن النهارِ، كان صائِمًا بَقِيَّةَ النَّهارِ دُونَ أوَّلِه، والفَرْضُ يَجِبُ في جميعِ النَّهارِ، ولا يَكُونُ صاِئمًا بغيرِ نِيَّةٍ. والثانِى، أنَّ التَّطَوُّعَ سُومِحَ في نِيَّتِه مِن اللَّيْلِ تَكْثِيرًا له، فإنَّه قد يَبْدُو له الصومُ في النَّهارِ، فاشْتِراطُ النِّيَّةِ في اللَّيْلِ يَمْنَعُ ذلك فسامَحَ الشَّرْعُ فيها، كمُسامَحَتِه في تَرْكِ القِيامِ في صلاةِ التَّطَوُّعِ، بخِلافِ الفَرْضِ. إذا ثَبَت هذا ففى أىِّ جُزْءٍ مِن اللَّيْلِ نَوَى أجْزَأه، وسَواءٌ فَعَل بعدَ النِّيَّةِ ما يُنافِى الصومَ، مِن الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ، أو لم يَفْعَلْ. واشْتَرَطَ بعضُ أصحابِ الشافعىِّ أن لا يَأْتِىَ بعدَ النِّيَّةِ بما يُنافِى الصومَ. واشْتَرَطَ بعْضُهم وُجُودَ النِّيَّةِ في النِّصْفِ الأخِيرِ مِن اللَّيْلِ، كأذانِ الصُّبْحِ، والدَّفْعِ مِن مُزْدَلِفَةَ. ولَنا، مَفْهُومُ قَوْلِه عليه السلام:«لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلٍ» (1). مِن غيرِ تَفْصِيلٍ. ولأنَّه نَوَى مِن اللَّيْلِ، فصَحَّ صَوْمُه، كما لو (2) نوَى في النِّصْفِ الأخِيرِ، وكما لو لم يَفْعَلْ ما يُنافِى الصومَ، ولأنَّ تَخْصِيصَ النِّيَّةِ بالنِّصْفِ الأخِيرِ يُفْضِى إلى تَفْوِيتِ الصومِ؛ لأنَّه وَقْتُ النَّوْمِ، وكَثِيرٌ مِن النّاسِ لا يَنْتَبِهُ فيه، ولا يَذْكُرُ الصومَ، والشارِعُ إنَّما
(1) تقدم تخريجه في الصفحة قبل السابقة.
(2)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رَخَّصَ في تَقْدِيمِ النِّيَّةِ على ابْتِدائِه لحَرَجِ اعْتِبارِها عندَه، فلا يَخُصُّها بمَحَلٍّ لا تَنْدَفِعُ المَشَقَّةُ بتَخْصِيصِها به، ولأنَّ تَخْصِيصَها بالنِّصْفِ الأخِيرِ تَحَكُّمٌ مِن غيرِ دَلِيلٍ، واعْتِبارُ الصومِ بالأذانِ والدَّفْعِ مِن مُزْدَلِفَةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّهما يَجُوزان بعدَ الفَجْرِ، فلا يُفْضِى مَنْعُهما في النِّصْفِ الأوَّلِ إلى فَواتِهما، بخِلافِ نِيَّةِ الصومِ، ولأنَّ اخْتِصاصَهما بالنِّصْفِ الأخِيرِ بمَعْنَى تَجْوِيزِهما فيه، واشْتِراطُ النِّيَّةِ بمَعْنَى الإِيجابِ والتَّحَتُّمِ وفَواتِ الصومِ بفَواتِها، فيه، وهذا فيه مَشَقَّةٌ ومَضَرَّةٌ، بخِلافِ التَّجْوِيزِ. فأمّا إن فَسَخ النِّيَّةَ، مثلَ إن نَوَى الفِطْرَ بعدَ نِيَّةِ الصيامِ، لم تُجْزِئْه تلك النِّيَّةُ المَفْسُوخَةُ؛ لأنَّها زالت حُكْمًا وحَقِيقَةً.
فصل: وإن نَوَى مِن النَّهارِ صومَ الغَدِ، لم يُجْزِئْه، إلَّا أن يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ إلى جُزْءٍ مِن اللَّيْلِ. وقد روَى ابنُ مَنْصُورٍ، عن أحمدَ: مَن نَوَى الصومَ عن قَضاءِ رمضانَ بالنَّهارِ، ولم يَنْوِ من اللَّيْلِ، فلا بَأْسَ، إلَّا أن يَكُونَ فَسَخ النِّيَّةَ بعدَ ذلك. فظاهِرُ هذا حُصُولُ الإِجْزاءِ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ، إلَّا أنَّ القاضىَ قال: هذا مَحْمُولٌ على أنَّه اسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إلى اللَّيْلِ. وهذا صَحِيحٌ؛ لظاهِر قَوْلِه عليه السلام: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» . ولأنَّه لم يَنْوِ عندَ ابْتِداءِ العِبادَةِ، ولا قَرِيبًا منها، فلم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَصِحَّ، كما لو نَوَىْ مِن اللَّيْلِ صومَ بعدِ الغَدِ.
فصل: وتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ لكلِّ يومٍ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وعن أحمدَ، أنَّه تُجْزِئُه نِيَّةٌ واحِدَةٌ لجمِيعِ الشَّهْرِ، إذا نَوَى صومَ جَميعِه. وهو مَذْهَبُ مالكٍ، وإسحاقَ؛ لأنَّه نوَى في زَمَنٍ يَصْلُحُ جِنْسُه لنِيَّةِ الصوم، فجاز، كما لو نَوَى كلَّ يومٍ في لَيْلَته. ولَنا، أنَّه صومٌ واجِبٌ، فوَجَبَ أَن يَنْوِىَ كُلَّ يَومٍ مِن لَيْلَتِه، كالقَضاءِ، ولأنَّ هذه الأيَّامَ عِباداتٌ لا يَفْسُدُ بعضُها بفَسادِ بعضٍ، ويَتَخَلَّلُها ما يُنافِيها، أشْبَهَتِ القَضاءَ، وبهذا فارَقَتِ اليومَ الأوَّلَ. وعلى قِياسِ رمضانَ إذا نَذَر صومَ شَهْرٍ بعَيْنِه، خُرِّجَ فيه مثلُ ما ذَكَرْنا في رمضانَ.
فصل: ومَعْنَى النِّيَّةِ القَصْدُ، وهو اعْتِقادُ القَلْبِ فِعْلَ الشئِ وعَزْمُه عليه مِن غيرِ تَرَدُّدٍ. فمتى خَطَر بقَلْبِه في اللَّيْلِ أنَّ غَدًا مِن رمضانَ، وأنَّه صائِمٌ فيه، فقد نوَى. وإن شَكَّ في أنَّه مِن رمضانَ، ولم يَكُنْ له أصْلٌ يَبْنِى عليه، مثلَ لَيْلَةِ الثَّلاِثِين مِن شعبانَ، ولم يَحُلْ دُونَ مَطْلَعِ الهِلالِ غَيْمٌ ولا قَتَرٌ، فعَزَمَ أن يَصُومَ غَدًا مِن رمضانَ، لم تَصِحَّ النِّيَّةُ، ولم يُجْزِئْه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صيامُ ذلك اليَوْمِ؛ لأنَّ النِّيَّةَ قَصْدٌ يَتْبَعُ العِلْمَ، وما لا يَعْلَمُه ولا دَلِيلَ على وُجُودِه، لا يَصحُّ قَصْدُه. وبهذا قال حَمّادٌ، ورَبِيعَةُ، ومالكٌ، وابنُ أبي لَيْلَى، والحسنُ بنُ صالِحٍ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال الثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ: يَصحُّ إذا نَواه مِن اللَّيْلِ، كاليومِ الثانى. وعن الشافعىِّ كالمَذْهَبَيْن. ولَنا، أنَّه لم يَجْزِمِ النِّيَّةَ بصَوْمِه مِن رمضانَ، فلم يَصحَّ، كما لو لم يَعْلَمْ إلَّا بعدَ خُرُوجِه. وكذلك إن بَنَى على قولِ المُنَجِّمِين وأهلِ الحِسابِ، فوافَقَ الصَّوابَ، لم يَصحَّ صومُه، وإن كَثُرَتْ إصابَتُهم؛ لأنَّه ليس بدَلِيلٍ شَرْعِىٍّ يَجُوزُ البِناءُ عليه، ولا العَمَلُ به، فكان وُجُودُه كعَدَمِه، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» . وفى رِوايَةٍ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» (1). فأمّا لَيْلَةُ الثَّلاِثِين مِن رمضانَ، فتَصِحُّ نِيَّتُه، وإنِ احْتَمَلَ أن يَكُونَ مِن شَوّالٍ؛ لأنَّ الأصْلَ بَقاءُ رمضانَ، ولِما ذَكَرْنا مِن الحديثِ. فإن قال: إن كان غَدًا مِن رمضانَ فأنا صائِمٌ، وإن كان مِن شَوّالٍ فأنا مُفْطِرٌ. فقال ابنُ عَقِيلٍ: لا يَصحُّ صومُه؛ لأنَّه لم يَجْزِمْ بنَيَّةِ الصومِ، والنِّيَّةُ اعْتِقادٌ جازِمٌ. ويَحْتَمِلُ أن يَصحَّ؛ لأنَّ هذا شَرْطٌ واقِعٌ، والأصْلُ بَقاءُ رمضانَ.
فصل: ويَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ في كلِّ صومٍ واجِبٍ، فيَعْتَقِدُ أنَّه يصومُ
(1) تقدم تخريجه في صفحة 327.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
غدًا مِن رمضانَ، أو مِن قَضائِه، أو مِن كفّارتِه، أو نَذْرِه. نَصَّ عليه في رِوايةِ الأثْرَم، فإنَّه قال: يا أبا عبدِ اللهِ، أسِيرٌ صام في أرضِ الرُّومِ شَهْرَ رمضانَ، ولا يَعْلَمُ أنَّه رمضانُ، فنَوَى التَّطَوُّعَ؟ قال: لا يُجْزِئُه إِلَّا بعَزِيمَةِ أنَّه مِن رمضانَ. وبهذا قال مالكٌ، والشافعىُّ. وعن أحمدَ، رِوايَةٌ أُخْرَى، أَنَّه لا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لرمضانَ. قال المَرُّوذِىُّ: رُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: يَكُونُ يَوْمُ الشَّكِّ يومَ غَيْمٍ، إذا أجْمَعْنا على أنَّنا نُصْبِحُ صِيامًا، يُجْزِئُنا مِن رمضانَ، وإن لم نَعْتَقِدْ أنَّه مِن رمضانَ؟ قال: نعم. فقُلْتُ: فقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» (1). أليَس يُرِيدُ أن يَنْوِىَ أنَّه مِن رمضانَ؟ قال: لا، إذا نَوَى مِن اللَّيْلِ أنَّه صائِمٌ أجْزَأه. وحَكَى أبو حَفْصٍ العُكْبَرِىُّ، عن بعضِ أصحابِنا أنَّه قال: ولو نَوَى أن يَصُومَ تَطَوُّعًا لَيْلَةَ الثَّلاِثِينْ مِن رمضانَ، فوافَقَ رمضانَ، أجْزَأه. قال القاضى: وَجَدْتُ هذا الكَلامَ اخْتِيارًا لأبِى القاسِمِ، ذَكَرَه في شَرْحِه. وقال أبو حَفْصٍ: لا يُجْزِئُه، إلَّا أن يَعْتَقِدَ مِن اللَّيْلِ بلا شَكٍّ وِلا تَلَوُّمٍ (2). فعلى القولِ الثانِى، لو نَوَى في رمضانَ الصومَ مُطْلَقًا، أو نوَى نَفْلًا، وَقَع عن رمضانَ، وصَحَّ صَوْمُه. وهذا قولُ أبي حنيفةَ إذا كان مُقِيمًا؛ لأنَّه فَرْضٌ مُسْتَحَقٌّ في زَمَنٍ بعَيْنِه، فلا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ له، كطَوافِ الزِّيارَةِ. ولنا، أنَّه صومٌ واجِبٌ، فوَجَبَ
(1) تقدم تخريجه في 1/ 308.
(2)
في الأصل: «يلزم» . والتلوم: التمكُّث.